صفحات العالم

ارتباط الصراع الدائر بمنطق الماضي وقواه

 

نهلة الشهال

..والدليل اضطراب المقاييس واختلاط الحابل بالنابل. في تونس مثلا، وقعت أزمة سياسية كبيرة اثر اغتيال شكري بلعيد، وهذا طبيعي و«مطلوب» (الأزمة وليس الاغتيال)، لا سيما ان التحقيق في العملية التي وقعت في 6 شباط، لم يتقدم، مع أن هناك عشرات الشائعات والفرضيات المحيطة بها. اللجوء إلى الاغتيال منعطف في الصراع السياسي الحاد القائم في البلد، وفاتحة لمنحى خطير. ومن مصلحة حركة «النهضة» قبل غيرها كشف الفاعلين، لتدافع عن روايتها عن هويتهم كمنتمين لأجهزة الأمن الموالية للنظام القديم، أو فلنقل المعادية للنهضة. وطالما لم تقدم البراهين الحسية على صحة هذه الرواية، فستبقى هي المتهمة، ليس في عيون المعسكر الآخر اليساري فحسب، ليس إجرائياً أو تنفيذياً فحسب، بل موضوعياً. فهي تحكم البلد، ومسؤولة عن الغرم.. ماذا فعل زعيم «النهضة» حيال ذلك؟ بعد «لجان حماية الثورة»، الميليشيا المنشأة بغرض تحرير مسافة عن الحزب تتيح تنفيذ الاشتباك في المواقف القذرة المكشوفة، اخرج الغنوشي شخصياً تظاهرات إلى الشارع تصرخ «بالروح بالدم نفديك يا شرعية». لم يبق شيء لم يُفْتدَ بالروح والدم، حتى ابتُذل هذان، فعلياً وليس لفظياً، بدليل الموت الرخيص الشائع في مجتمعاتنا. وقال الغنوشي شخصياً في نهاية المسيرة «كارثة اغتيال شكري بلعيد حُرِّفت لإسقاط النهضة»، مطمئناً أنها بخير، غير آيلة للسقوط، العمود الفقري لتونس، ستبقى في السلطة طالما ينتخبها التوانسة، وإن مناهضي النهضة هم «الثورة المضادة»!… وهذا كلام يجسِّد الانزياح الذي يترصد مسلك كل حركة سياسية ونظرتها للأمور، إذ تضع نفسها في مصاف الإله، مركز الكون، ويتحول كل حدث عظيم أو تافه إلى مؤامرة عليها. والغنوشي كان يرد في الشارع على أمين عام «النهضة» نفسها، ورئيس الوزراء، حمادي الجبالي، الذي يقود تياراً في الحركة يناهضه. إذ رئيس الوزراء، النيوليبرلي حتى النخاع، كان يريد بمناسبة أزمة اغتيال بلعيد، التحرر من وصاية حزبه عليه، بل الخروج من معادلة الصفقة الثلاثية التي تحكم تونس، متوزعة المناصب الثلاثة الاولى، وكذلك الجمعية التأسيسية (أي «النهضة» و«المؤتمر من أجل الجمهورية» و«التكتل من اجل العمل والحريات» بحسب نسب الفوز في الانتخابات الأخيرة، فالقوم ديموقراطيون)… هل ما زلتم تتابعون؟ يوجد بالطبع خارج «الترويكا» عالم سياسي فسيح: «حركة نداء تونس» بقيادة الباجي قائد السبسي، وهو ليس ممثل النظام القديم كما كان، بل كما كان يجب أن يكون، و«الحزب الجمهوري» بقيادة نجيب الشابي الذي ظل يتصرف كرئيس الجمهورية المختار انتخابياً حتماً، إلى أن جاءت نتيجة التصويت العام فرمته في أسفل السلم، و«الجبهة الشعبية» بقيادة حمة الهمامي، وهي التجمع اليساري الأبرز. وهناك السلفيون أيضاً. وقد توصل الغنوشي الى تسوية مع الجبالي باعتماد صيغة معدَّلة، فلا هي حكومة تكنوقراط كما كان الأخير يريد، ولا هي حكومة حزبية كما هي الحال اليوم، بل موسعة تشرف على الانتخابات ولا يترشح أعضاؤها فيها، اتقاءً للفساد واستغلال النفوذ (أقصى ما تعد به الثورات حتى الآن… ولا تبلغه). وهو أعلن ذلك بنفسه من دون أن تكون له صفة رسمية… هل ما زلتم تتابعون؟ ولكنه «الزعيم»، ومن مهامه وخاصياته أنه يضبط معاً إيقاع الشارع، (أي «الرعاع» في الوعي السائد، وهؤلاء مخيفون، وفي الوقت نفسه أداة رائعة بيد الزعماء)، والسياسة، معرَّفة بأنها ممارسة عليا، تخص النخبة. وهو بذا يتوسط «نقاش المجتمعات حول نفسها»، ما حرص الغنوشي عليه في مسلكه هذا.

يغيب الخيال السياسي، الضروري في كل حين، وبالأخص في المنعطفات، ذاك الذي يجادل حول الخيارات ويستطلع الأفق، بدل أن يكتفي بـ«التسويات الصغيرة بين الأصدقاء»، والتي لا عنوان لها سوى الإحاطة بالسلطة. وقد غابت قبله القضايا التي يفترض أن يتمحور حولها الصراع: الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، بحسب شعارات الثورات.

يحدث كل هذا في بلد صغير، ومتجانس من حيث البنى الطائفية والعرقية، ولا يواجه تحديات جيوستراتيجية، وفيه مستوى من التعليم مرتفع، وعرف قدراً عالياً من التسييس، وصادفه حسن حظ إذ كان بن علي تافهاً، ورجل بوليس فحسب، ينهار حين لا يُجدي الشيء الوحيد الذي يعرفه، أي القمع، ولا يمتلك ايديولوجيا تبريرية تساعده على الاستمرار فيه «إلى الأبد» ضد «المؤامرة». فهرب عند اشتداد الانتفاضة ضده، مكتفياً بسرقة قوالب الذهب من البنك المركزي. وحققت تونس بيسر أول انتصارات الحراك الثوري، ما مثل أملاً كبيراً في إمكان التغيير وشجع الانتفاضات في بلدان أخرى على الاستمرار.

ماذا عن بلدان أعقد؟ في سوريا المدمرة والغارقة بدماء أبنائها، نبشت السلطة من تاريخها «اللجان الشعبية». وهذه مؤسسة على منوال «سرايا الدفاع» سيئة الذكر، والتي حلها الأسد الأب في منتصف الثمانينيات بعد أن استنفدت أغراضها. ولكن للضرورة أحكام. وهناك من يقول: بل هي محاولة لضبط مسلك جماعات الشبيحة وتأطيرها، بمعنى التخفيف من غلواء إجرامها واستباحتها للناس. ونتائج «اللجان الشعبية» (وما كان لها أن تكون سوى ذلك) هي مزيد من تطييف الصراع، وجعله «شعبياً». فهي تبدو مثلا كحيلة لتنظيم الخطف المتبادل على الهوية عموماً على كل الأراضي السورية، وخصوصاً بين أبناء القرى المختلطة أو بالأحرى المتجاورة، (السنية والشيعية/ كما هذا الأسبوع في منطقة القصير) ثم لتبادل المخطوفين. ولعل اللجان تنجح في تجنيب السلطة تكرار فضيحة التبادل المباشر الذي جرى بكل نظامية منذ شهر ونيف، بينها وبين الجيش الحر، وكانت بضاعته الإيرانيين المخطوفين مقابل آلاف المعتقلين السوريين من المعارضين. السلطة في سوريا «منفتحة» على عدة احتمالات معاً: مواكبة المفاوضات السرية الجارية بين الروس والإيرانيين والأميركيين والأتراك (على الأقل)، والتي تتلمس مخارج «سلمية» من الحال الراهن. وسلمية هنا باتت تعني: قبل الإبادة الكاملة المتبادلة. وهو احتمال ماثل (المفاوضات والإبادة)، بدليل أن السلطة، في الوقت نفسه الذي تواكب فيه تلك المفاوضات، تفترض فشلها وخوض معركة مديدة. واللجان مفيدة كأداة في الحالتين: ترفع أسعار النظام في حال نجاح الخيار الأول، التفاوضي وليس الإبادي… وتحسن أداء الإبادة حيث لم يعد القصف بالطيران والمدفعية مجدياً تماماً.

والغرب حيال كل هذا مضحك. فهو يريد ثورة في سوريا ولكنه يريدها على يد أناس يمكنه أن يحبهم، وليس على يد جيش «النصرة». وهو محرَج إذ يقاتل شبيه «النصرة» في مالي والصومال، وقبلهما أفغانستان، ويتحالف ـ وإن موضوعياً ـ معها في سوريا. ويرى في كل ذلك، فوضى لا يطيقها، ويدعو إلى انتهائها. وهو يشبه في هذا رد فعل الملكة ماري ـ انطوانيت حين دعت الناس في بداية الثورة الفرنسية لأكل البسكويت إن افتقدوا الخبز… مما لم يستقم، ولا يستقيم. حيرة فعلاً في «الشرق المعقد»، على حد قول ديغول في زمانه.

وفي مصر، تسير المنقبات إلى جانب المحجبات والسافرات ضد التحرش الجنسي بالنساء والاعتداء عليهن… فيغتاظ الرجال، ويطلب وزير من المنقبات نزع النقاب قبل الاشتراك في المسيرة! هو الآخر لا يحب الفوضى.

وأما العراق، فهو بلد التعقيد تعريفاً. ورغم ذلك، لم ينجح هناك تماماً بعد اختلاط المقاييس أو اضطرابها: بعد موجة التفجيرات هذا الأسبوع التي طالت الأحياء الشعبية الشيعية (وبالأخص مدينة الصدر)، علق أكثر من واحد من أهل الضحايا على ما لحق بهم بالقول: «السياسيون يتصارعون ونحن نموت». حس سليم. وهو يؤشر إلى إدراك، ولو فطري، بأن الصراعات تلك تدور في مجال الماضي وقواه: ما زلنا في بداية العملية الثورية، وهي الأخرى مفتوحة على كل الاحتمالات.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى