صفحات سورية

الأزمة السورية وآفاق حلها في ميزان المصالح الأمريكية

د. خالد المشعان

لبرهة قصيرة، بدت دوائر القرار في الولايات المتحدة وأوروبا مقتنعة تماماً بأن تداعيات التدخل العسكري المباشر في سورية، باتت أقل مخاطرة من ترك الحبل على الغارب للنظام وحلفائه يعيثون فساداً ويعبثون بالتوازنات الدقيقة في المنطقة، حتى أصبح هناك شعور عام بأن الحرب على الأبواب، بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية عن إرسال شحنات من الأسلحة المتطورة إلى المعارضة السورية، مع الاحتفاظ بجزء كبير من قواتها المشاركة في مناورات الأسد المتأهب في الأردن. وذلك بعد تأكيد أجهزة الاستخبارات الغربية بأن النظام السوري استخدم غاز السارين ضد المدنيين، مما اعتبر اختراقاً للخط الاحمر الذي رسمه الرئيس أوباما، الموقف الذي أيدته بريطانيا وفرنسا وقيادة حلف الناتو. الموقف الغربي سرعان ما تغير، وعادت تصريحات المسؤولين الغربيين لتصب في اتجاه دعم الحل السياسي، مما زاد من حالة الغموض والتردد إزاء المسألة السورية. ويبدو أن هذا التردد يرتبط بالدرجة الأولى بسياسة الرئيس باراك أوباما الخارجية، التي خط مبادئها خلال حملاته الانتخابية، التي وعد من خلالها بعدم السير على خطى سلفه جورج بوش الابن. حالة التردد هذه أوحت لبعض القوى الدولية بأنّ عصر الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط قد ولى، تاركاً الساحة لقوى عالمية تقليدية، كروسيا الساعية للعودة بقوة إلى الساحة الدولية، أو لقوى إقليمية ناهضة، كإيران الباحثة عن دور إقليمي تعتقد أنها وجدته في شرق أوسط منهك تتنازعه الحروب والأزمات.

لقد بدت سياسات باراك أوباما، الرئيس الأمريكي الثاني في القرن الواحد والعشرين، قرن الحرب على الإرهاب والديمقراطية المحمولة على ظهور الدبابات، مترددة ومبهمة وعاجزة تماماً عن بلورة مواقف واضحة تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط، إن كان ذلك لتحريك قضايا تاريخية كالقضية الفلسطينية، التي لا يزال شعبها يعاني من عنجهية الكيان الصهيوني المستمر في اعتداءاته على القدس وفي بناء المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية، أم لحل قضايا أحدث، كالقضية السورية، التي تجاوز عدد ضحاياها، خلال اكثر من عامين المئة الف شهيد، حسب الأرقام الرسمية، كي لا يذهب المرء إلى أرقام المعارضة السورية التي تتحدث عن أضعاف هذا الرقم، ناهيك عن النازحين والمهجرين واللاجئين لدول الجوار. ويبدو أن حالة التردد المهيمنة على مراكز القرار الأمريكية لم تمس دوائر التخطيط الاستراتيجي وحسب، بل انها طالت أيضاً النخبة السياسية الأمريكية، التي تبدو هي الأخرى منقسمة حول الدور الذي يمكن أن تلعبه القوة الأعظم في العالم، إن لم يكن لوقف حمامات الدم ومنع انفجار المنطقة، فعلى الأقل للمحافظة على دور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى.

إشكالية التدخل الخارجي تلك، ورسم صورة الولايات المتحدة كقطب أعظم وحيد في العالم، كانت المحور الرئيس لكتاب جوزيف ناي، استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد وصاحب نظرية القوة الناعمة، الصادر عن منشورات جامعة برنستون الأمريكية تحت عنوان ”القيادة الرئاسية وخلق العصر الأمريكي’. نـــاي المسكون دائماً بهاجس إشكالية القيادة الأمريكية لعالم ما بعد الحرب الباردة، لا يعارض، من حيث المبدأ، التدخلات الأمريكية والغربية في النزاعات العالمية، بل يراها واجبا أخلاقيا على العالم المتحضر لإحلال السلام والإزدهار، وهما الركنان الأساس في الاقتصاد المعولم، وأنما يرى هذا التدخل واجبا، ولكن بآليات ليس لها أن تكون بالضرورة عسكرية. فالوسائل الدبلوماسية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية، يمكن لها أن تكون البدائل الفعالة المتاحة أمام الدول الباحثة عن نفوذ عالمي بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، مع الأخذ بعين الاعتبار البعد الأخلاقي لأي تدخل، وذلك بإخضاعه لسلسلة من المحاذير؛ كعدم الانفراد بقرار التدخل أو تجاهل مصالح الآخرين أو تخريب البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة، مما قد يعني فشلاً أخلاقياً لهذا التدخل، بل على العكس، قد يأتي التدخل بدون الاعتبارات الأخلاقية تلك بنتائج كارثية. على ضوء سلسلة المحاذير تلك، يحلل نــاي في كتابه المذكور، عمل ثمانية من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، الذين أرادوا بناء نظام عالمي يكون فيه للولايات الأمريكية موقع القيادة، إن كان ذلك من خلال نـظرة مثالية لموقع الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، أم من خلال نـظرة واقعية. ويخلص الكاتب إلى أن أيّاً من الرؤساء الأمريكييـن الثمانية موضوع المقارنة، لم يحقق ما يطمح إليه بشكل كامل، بل أن نتائج سياساتهم تلك، سلبية كانت أم إيجابية، لم تظهر إلا بعد انقضاء فترات طويلة من الزمن. ولكن ناي بكل الأحوال يعتبر أن جميع الرؤساء الأمريكييـن موضوع التحليل، سواء كانوا من المثاليين أو الواقعييـن، يتفقون على الإيمان العميق بالدور الريادي للولايات المتحدة الأمريكية. وقد ساهموا جميعهم، بشكل أو بأخر، بتكريس هذا التفوق وبترسيخ صورة الولايات المتحدة الأمريكية كقطب عالمي.

في سياق حالة التردد والانقسام الأمريكي حيال المسألة السورية، نشرت مجلة ‘التايم’ الأمريكية في شهر أيار/مايو الماضي أيضاً مقالين متناقضين في مقاربتهما للمسألة السورية. المقـال الأول تحت عنوان ‘سورية: التدخل لن يؤدي إلا للأسوأ’ لزبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، الذي يرى في مقالته تلك، أن الحل الوحيد للخروج من الأزمة السورية هو: إقناع كل من روسيا والصيـن بدعم عملية انتخابية واسعة ترعاها الأمم المتحدة، التي يمكن من خلالها، مع قليل من حسن الحظ، إقناع الأسـد بعدم المشاركة. المقال الثاني كان لجون ماكين، تحت عنوان ‘سورية: التدخل في مصلحتنا’، الذي يؤكد فيه أن التكاليف البشرية والسياسية المترتبة على سياسة عدم التدخل الأمريكية في سورية، تفوق تلك المتأتية عن التدخل، مما يشكل تهديدا فعليا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، على رأس القائمة إسرائيل بالطبع، ثم الأردن ولبنان وتركيا.

يحذر بريجينسكي في مقاله المذكور، من أن تدخل الولايات المتحدة العسكري المباشر في سورية، سيقود حتماً لتعبئة المجموعات الجهادية ضد الولايات المتحدة، بما فيها تلك التي تحارب حالياً نظام الأسد، وهذا التدخل سيقود أيضاً إلى امتداد الحريق السوري إلى كل من لبنان والأردن والعراق، وبالضرورة، سينتهي إلى صراع مفتوح مع إيران، الحليف الأول للنظام السوري، أي بعبارة أدق، التدخل العسكري الأمريكي المباشر سيشعل المنطقة برمتها، مما سيعطي فرصة ثمينة لروسيا، الطامحة بطبيعة الحال، لاستعادة مكانتها كقوة عظمى، مستغلة بذلك ضعف الولايات المتحدة الأمريكية المتعبة والغارقة في مستنقعات الشرق الأوسط. ويؤكد بريجينسكي أيضاً أن على الولايات المتحدة، إذا كانت جادة حقاً بمشروع الإطاحة بنظام الأســد، فلا مناص لها من تجييش كامل قوتها، بما فيها إشراك الحلفاءالإقليميين، إسرائيل الغارقة في قلقها من المشروع النووي الإيراني، تركيا المشغولة بمسألتها الكردية بالدرجة الأولى، ثم الأردن الجار الأضعف لسورية بأزمته الاقتصادية المزمنة، ثم لبنان وبقية الحلفاء. أما التدخل الجزئي عن طريق قصف بعض مراكز النظام في دمشق، أو فرض مناطق حظر جوي، فإن ذلك لن يأتي بأية نتائج حقيقية حاسمة، لا للولايات المتحدة ولا لحلفائها، بل على النقيض، سيقوي ذلك من شوكة النظام ويزيد من التفاف القوى المناهضة للولايات المتحدة حوله، وسيضاعف بالتالي من معاناة الشعب السوري.

على النقيض من بريجينسكي، جون ماكين، يؤكد في مقاله المنشور في نفس العدد، أن جميع المحاذير التي عددها بريجنسكي، كانت قد تحققت عملياً بعدم تدخل الولايات المتحدة، وبالتالي فهو يدعوها إلى تدخل قوي ومباشر، إن كان ذلك عن طريق تسليح المعارضة، ملاقياً بذلك توصيات اللجنة المصغرة لمجلس الأمن القومي الأمريكي التي انعقدت العام الماضي والتي دعت أيضاً إلى تسليح المعارضة، أو بقيام الولايات المتحدة وحلفائها بضربات استباقية حاسمة لتدمير القواعد الجوية لنظام الأسد ومهاجمة بطاريات مدفعيته ومرابض صواريخه، مع السعي الجاد لإنشاء مناطق آمنة داخل سورية، ونشر بطاريات صواريخ باتريوت على الحدود لحماية الحلفاء الاقليميين. مسوغ آخر للتدخل الأمريكي المباشر يسوقه ماكيـن في مقاله، أخلاقي هذه المرة، مذكراً بالمسوغات التي دفعته للوقوف في صف التدخل الأمريكي في البوسنة في ظل رئاسة كلينتون، فهو يرى أن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالدفاع عن القيم الأمريكية بشكل خاص والقيم الغربية بشكل عام، وبالتالي فالدفاع عن القيم الأمريكية، في المحصلة، دفاع عن المصالح الأمريكية. وبالتالي، فإن لب المسألة المطروحة اليوم أمام الأمريكيـيـن، كما يراه ماكين، هو الدافع الأخلاقي الذي يحتم التدخل العسكري في سورية لوقف مجازر النظام ضد شعبه.

المقالان، على تناقضهما، يتفقان على أمر أساسي، وهو أن المحرك الحقيقي للسياسات الغربية في المنطقة بشكل عام، والأمريكية بشكل خاص، كان ولا يزال، المحافظة على المصالح الغربية والأمريكية، إن كان ذلك بدواعي أخلاقية أم لمصالح سياسية؛ على رأس تلك المصالح أمن الحلفاء، إسرائيل بالدرجـــة الأولى. محاذير بريجينسكي، يبدو أنها بالفعل جاءت متأخرة، كما لمح ماكـين. فالمجموعات الجهادية لم تتوقف يوماً عن مناهضة الولايات المتحدة، والحريق السوري امتد عملياً إلى كل من لبنان والعراق. أما روسيا وإيران، فلم تعدا تخفيان تدخلهما السافر في سورية، إن كان ذلك بشكل مباشر عبر الدعم العسكري واللوجستي للنظام، أم بتدخل حزب الله والميليشيات العراقية بحرب مفتوحة ضد الثورة السورية نيابةً عن إيران، بحجج واهية، كحماية المراقد الشيعية أو منع نظام ‘الممانعة والمقاومة’ من الانهيار.

الإشكالية الأولى، التي أغفلها بريجينسكي وماكـيـن في مناقشتهما للموقف الأمريكي من الثورة السورية لتبرير التردد وعدم وضوح الرؤية وهيمنة الحذر إزاء المسألة السورية، هي أن النفوذ الأمريكي في المنطقة، ومنذ بدء الربيع العربي، لم يعد من المسلمات البديهية، كما أن مقاربة المسألة السورية من منظور وحيد، هو التدخل العسكري فقط، وإغماض العين عن بدائل وآليات دولية لإيقاف المجازرة القائمة ليل نهار في سورية، كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو محكمة جرائم الحرب الدولية، ما هي إلا محاولة لترسيخ الدور الريادي للولايات المتحدة الأمريكية كفاعل وحيد على الساحة الدولية. الإشكالية الثانية في تلك المقاربة هي أن ارتباط السياسة الخارجية الأمريكية بعوامل السياسة الداخلية، لا يعفي بقية الدول الغربية من المسؤولية الأخلاقية لإيقاف حمام الدم السوري. فالموقف الأخلاقي المطلوب في ظل الظروف الدولية الراهنة، هو تفعيل الآليات والقوانين الدولية المتاحة، بعيداً عن المصالح الغربية الضيقة. القضية السورية من ألفها ليائها، هي انتفاضة شعب ثائر يطالب بالكرامة والحريـة، ومن أجلهما يتعرض لأبشع المجازر من قبل نظام جمع بين يديه كل مساوئ الأنظمة الدكتاتورية، فعاث في الأرض فساداً وخراباً أمام نظر العالم وتخاذله.

‘ باحث سوري مقيم في سويسرا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى