صفحات سوريةعمر قدور

الأكراد والارتباك بين الوطني والقومي


عمر قدور *

تأخر أكراد سورية لفترة وجيزة عن المشاركة في الثورة ضد النظام؛ كان ذلك مبرراً من وجهة نظرهم بأنهم لن يمنحوا النظام فرصة لتصوير الثورة على أنها ذات ثقل كردي، مع ما يثيره ذلك من حساسيات لدى بعض العروبيين، وبخاصة ما قد يثيره من تخوفات في شأن نيات انفصالية محتملة، من دون استبعاد لعوامل التخوف من عدم استمرار الثورة أو إخمادها سريعاً. وعلى رغم المشاركة المستمرة في ما بعد لجزء من الأكراد، إلا أنها لم تكتسب الزخم القوي الذي كان لانتفاضة الأكراد عام 2004 مثلاً، ولم تساير المناطق ذات الغالبية الكردية نظيراتها في التصعيد سواء من قبل الثوار أو من قبل النظام، فخلت من مظاهر العنف الذي بات معمماً باستثناء التشبيح الذي يمارسه فصيل كردي يُعرف بارتباطاته مع النظام.

في الواقع تأخرت الأحزاب الكردية أيضاً عن شبابها المتعطش للثورة أسوة بالشباب السوري عموماً، وقد نالها الكثير من انتقادات الشباب قبل أن تقرر مواكبة تحركهم في الشارع، ومن ثم تأطيرهم سياسياً قدر الإمكان. وبوسعنا ردّ هذا التلكؤ إلى الترهل الذي شاب المعارضة السورية عموماً نتيجة عجزها عن مواجهة النظام، إضافة إلى عوامل الانقسام الداخلي وقدرة النظام على اختراق بعض الكوادر وتطويع البعض الأخر، فبقيت المعارضة الكردية في حالة ملتبسة، إذ أنها بحكم المعترف بها ضمناً وينتدب النظام شخصيات للتفاوض معها أحياناً، مع إبقائها دائماً تحت تهديد الملاحقة والتضييق، ولا بأس بالقول إن بعض القيادات استمرأت هذه الحالة فاستثمرت صورتها المعارضة أمام جمهورها، بينما نأت عن أي صدام حقيقي مع النظام.

من جانب آخر نجح النظام، بمساعدة الطرفين المعنيين، بإيجاد شرخ دائم بين المعارضة الكردية ونظيرتها العربية، وبخلاف كل ما يُفترض أن يقرّب بينهما استقرت نوازع الشك والريبة المتبادلة. لقد بدا مراراً أن سوء الفهم والتفاهم تفاقما لدرجة أن يرى كل منهما التفاهم مع النظام أسهل منالاً، ولم يتوانَ الأخير عن استثمار هذا المناخ لطرح نفسه كأفضل خيار متاح بالنسبة إلى الأكراد. إن ردّ هذه الحالة إلى جهل كل طرف بواقع الآخر صيغةٌ مهذبة تخفي الشرخ المتعمد، الأمر الذي تكشفه الاتهامات المتبادلة وعدم استعداد أي طرف لبذل جهد حقيقي وحثيث من أجل ردمه، مع التنويه بأن اصطفاف كل طرف يكاد ينحصر في مواجهة الطرف الآخر كما حدث في مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة مؤخراً، إذ لا تخفى عوامل التباين والاختلاف ضمن كل طرف.

بالتأكيد ليست قليلة هي العوامل التي تجعل أكراد سورية دائمي التشكي من أشقائهم العرب، ولهذا حديث يطول ويزخر بالمرارة والشجون، لكن اعتياد الأكراد على موقع المستضعَف لا يعفيهم من المسؤولية، إن لم يرتّب عليهم مسؤوليات أضخم لإيصال وجهة نظرهم والمثابرة على توضيحها للآخرين. هذا يتطلب من التنظيمات الكردية ومن المثقفين الأكراد بناء رؤية واضحة للقضية الكردية في سورية، وطرح رؤية مستقبلية لها سواء كان الحل ضمن سورية أم بالانفصال عنها، أم أن يُترك لاستفتاء ديموقراطي يقرر الأكراد فيه مستقبلهم.

لعل عدم وضوح الرؤية هو ما ميّز الأطروحات الفكرية لغالبية الأحزاب الكردية خلال العقود الماضية، وباستثناء قلة منها أعلنت عن نيات الانفصال لم تقدّم تصوراً ناضجاً عن حل المسألة الكردية في سورية، وليس الاستقرار أخيراً على طرح «حق تقرير المصير ضمن وحدة التراب السوري» سوى تسوية غامضة بين الأحزاب الكردية نفسها التي لا تملك تفسيراً متماسكاً يحل التناقض الظاهر بين «حق تقرير المصير» وإلزامية «وحدة التراب السوري». لكن هذا المطلب يُقرأ على الصعيد السوري العام بأنه يتركز خصوصاً على «حق تقرير المصير» الذي أدى في العديد من السوابق الدولية إلى الانفصال، ما يُغيّب مساحة الاختلاف بين الأكراد أنفسهم لصالح التشكك في الأمر واعتباره نوعاً من التقية السياسية. لقد كان لهذه الالتباسات ما يشفع لها في أثناء الحكم الديكتاتوري، حيث اضطرت الأحزاب الكردية إلى تقديم خطاب يرضي جمهورها من دون استفزاز قوي للسلطة؛ الآن ضاق هامش المناورة اللفظية إذ أضحت مطالبة بتقديم خطاب شفاف لجمهورها وللسوريين عموماً.

لا يخفى هنا أن الأحزاب الكردية ترزح تحت ضغط الفكر القومي الطاغي في العقود الماضية، وطالما وجدت نفسها تحت ضغط النزعات الراديكالية لقسم منها فدخلت في مزايدات تبتغي استقطاب أوسع شريحة من الشباب المتحمس، وأسوة بالقوميين العرب كان التصور الرومانسي عن وطن يجمع شتات الأكراد هو السائد، فلم يكن مطلوباً أن تكون القضية الكردية قضيةً سوريةً، بل الأفضل بقاؤها قضيةً كرديةً في سورية، وربما هذا ما يفسر الإصرار مؤخراً على تعبير «الشعب الكردي في سورية». الشاهد القوي على ما سبق هو قدرة حزب العمال الكردستاني على تجنيد الآلاف من الشباب وزجهم في معركته المسلحة في تركيا، ويُقدّر عددهم في إحدى المراحل بما يقارب الخمسة عشر ألفاً؛ أولئك الشباب نشأوا على فكرة كردستان الموحدة فلم يكن مستغرباً أن تبدأ معركتهم من أجل كردستان سورية بكردستان تركيا. سيكون من الخطأ قراءة المواقف الحالية للأحزاب الكردية بعيداً من مقدماتها، فموقفها من «المجلس الوطني السوري» محدد مُسبقاً على أنه «مجلس إسطنبول»، لا كما يروج النظام وإنما على خلفية العداء القومي لتركيا، كذلك يُقرأ الإصرار على سلمية الثورة والنقد الشديد للجيش الحر بأنهما موقف موجه بالدرجة الأولى والأخيرة للعدو التركي الذي يستضيف قياداته. العداء القومي لتركيا كان الموجّه لانضواء بعض الأحزاب الكردية ضمن هيئة التنسيق عوضاً عن المجلس الوطني السوري، على رغم هيمنة القوميين العرب «الناصريين» على قيادتها، وفي حالة شاذة يصعب فهمها أو تبريرها إلا ضمن الاعتبارات القومية قبلت الأحزاب الكردية المنضوية في الهيئة بوجود حزب الاتحاد الديموقراطي PYD، وهو الوريث السوري لحزب العمال الكردستاني، هذا الحزب الذي يتولى الضغط المادي والمعنوي على معارضي النظام في المناطق الكردية!

على الجانب الآخر لا يمكننا استبعاد تأثير النموذج العراقي بعد نجاح أكراد العراق في الوصول إلى استقلالية تدنو من الانفصال الفعلي التام، وبخاصة لما يبدو عليه من حل يوفق بين المسألة الوطنية مرحلياً والطموحات القومية مستقبلاً. هذا النموذج قد يفك شِفرة «حق تقرير المصير ضمن وحدة التراب السوري»، لكنه لا يؤصّل خصوصية التوزع الديموغرافي للأكراد في سورية، مثلما لا يلحظ المسيرة السياسية والعسكرية الطويلة للأكراد العراقيين والتي تتقدم بأشواط طويلة عن نظيرتها في سورية.

من ضمن مفاجآت الثورة أنها وضعت الأكراد أمام استحقاق غير منتظر، فهم بالفعل متصلون بيومياتها السورية العامة على رغم القلق المفهومي بين فكر قومي متأصل ومسألة وطنية مستحدثة. حتى الآن لا يظهر الحل الخاص المناسب متاحاً، ولا توجد مقدمات نظرية لتبلوره؛ هذه مسؤولية كردية بالتأكيد، لكنها بالضرورة أيضاً مسؤولية المعارضة العربية أن ترى فيه استحقاقاً وطنياً عاماً.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى