“الإصلاح الديني” أم القطيعة معه؟/ عصام التكروري
تبنى الغرب شعار «الإصلاح عن طريق القطيعة» بعدما تبين أن الدين أو شعار إصلاحه كان سلاحاً طيّعاً للغاية في أيدي الحكام لتحقيق ما تعجز عنه السياسة المحضة.
ربما كان من العسير على دنيس ديدرو (1713 ـ 1784) أن يتصور أن جنازته التي طافت شوارع باريس كانت ستحظى بمشاركة واسعة من رجال الدين وهو القائل ذات يوم: «لن يتحرر البشر إلا عندما يتم خنق آخر مَلِك بأحشاء آخر رجل دين»، موقفه الصارم هذا من الدين ربما كان ردة فعل على حالة السخط التي شعر بها مثقفو مطلع عصر الأنوار (1670ـ 1820) حيال التحالف السيامي الذي كان قائما ما بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، تحالف تجذَّر إلى حد بعيد اثر ظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، الحركة التي ولدت من رحمها البروتستانتية كمذهب إصلاحي قائم على رفض سلطة البابا التي شكَّلت أساسا للحق الإلهي للملوك، واحتضان قيم البساطة التي ميزت المسيحية في عصورها الأولى؛ حركة الإصلاح الديني تلك أخذت أوروبا إلى حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648) التي دارت رحاها بين البروتستانت والكاثوليك قبل أن يتحول الصراع الديني إلى غطاء يخفي حرب مصالح مُستعرة بين الأطراف المتصارعة التي قررت وقف الاقتتال ووقّعت صلح ويستفاليا (1648)، ولعل المفارقة تكمن في درجة التمسك التي ظهرت لدى المتصالحين لجهة تمسكهم بالدين لدرجة دفعتهم إلى تحريم أدنى تدخل في الشؤون الداخلية للدول الموقعة ويكون من شأنه المساس بدين أي من تلك الدول. من هذه النقطة يمكننا أن نؤكد أن من أهم أسباب ترسيخ مبدأ احترام السيادة كان رغبة الدول بعدم المساس بالمذاهب المعتمدة فيها كي لا يندلع الحريق الكبير.
في الواقع، حاجة الحكّام إلى التمسك بالدين ربما برزت أكثر إلحاحا في فترة (إعادة الاعمار) التي تلت حرب الثلاثين عاما، فعلى سبيل المثال انخفض عدد سكان ألمانيا نتيجة لتلك الحرب من عشرين مليونا إلى ثلاثة عشر مليونا، ومع ذلك زاد تمسك الالمان بالدين (بمذهبَيه البروتستانتي والكاثوليكي) بالرغم من مرور ثمانين عاما على اكتساح عصر الأنوار لأوروبا (1670ـ 1820)، لذلك لا يجد حكّام الولايات الألمان بُداً من العودة إلى الدين «لتفعيل» نص ورد في العهد القديم ويبيح تعدد الزوجات، وعليه، صدر عن مؤتمر فرنكونيا المنعقد في مدينة نورنبرغ عام 1650 «فتوى» تسمح لكل رجل بالزواج من امرأتين، وتمنع الاديرة من قبول الرجال تحت سن الستين عاما، وتفرض الزواج على القساوسة ومساعديهم أن لم يكونوا قد رسموا بعد، وفي ظل غياب وسائل الإعلام تم الطلب إلى الكنائس أن تعمم هذه «الفتوى» من على المنابر.
تضارب
قد يبدو مجافيا للموضوعية تعميم تجربة امة معينة وسحبها على باقي الأمم، لكن الأمر قد لا يبدو بهذه الصعوبة حينما يتعلق بتجارب الصراعات الدينية، لا سيما تلك التي تنشأ بعد حملة ترويج واسعة لاصلاح ديني من نوع ما. تعلّمنا تجربة «الإصلاح الديني» في الغرب أن مصطلح «الإصلاح الديني» يحمل من التضارب ما يجعله عصيا على أي عملية مصالحة اللهم ألا إذا كان لها بُعد ديني محض، مصدر التضارب يكمن في أن هذا المصطلح يجمع ما بين (الناسوت) الكامن بالاصلاح، و(اللاهوت) الكامن في الدين، وبالتالي، أي عملية إصلاح لا يمكن لها إلا أن تخضع لفكرة اللاهوت من مبدأ سموها على الناسوت، الأمر الذي يعني إنتاج الأفكار ذاتها التي يُطالب «المصلحون» بإصلاحها، ولكن بفارق بسيط: بضعة ملايين من القتلى في سبيل إله هو ارحم من الجميع.
هذه النتيجة ربما كانت أحد أهم دوافع الغرب إلى تبني ما استطيع أن أطلق عليه اسم «الإصلاح عن طريق القطيعة» بعد أن تبين أن الدين أو شعار إصلاحه كان سلاحا طيّعا للغاية في ايدي الحكام لتحقيق ما تعجز عنه السياسة المحضة. عمليا، كانت الثورة الفرنسية إحدى التطبيقات الهامة لفكرة «الإصلاح عن طريق القطيعة» من منطلق أن «هذه الثورة قد أتاحت ـ بحسب أمين معلوف ـ لرجال الدين أن يكونوا في صفوف المعارضين للسلطة المطلقة للملك. المساحة الحرَّة التي نتجت من اشتباك هذين الطرفين هي التي نفذ منها رجال الفكر المدني ووسعوها بشكل أطاح سلطتَي الملك والبابا معا»، ليبدأ بعدها العمل على فكرة علمانية الدولة كمؤسسة لا تلغي الإيمان أو عدم الإيمان كخيار أمام الأفراد، ولكنها لا تسمح للدين في أن يتدخل في رسم سياسة الدولة. بالطبع، هذا الأمر ما كان ليتم لولا الجهود التي قام بها رواد عصر الأنوار (تحديدا روسو وديدرو وبقدر اقل فولتير) والتي كرّست علاقة الدولة بالحاكم بوصفه نتاجا ناسوتيا خاليا من أي حق الهي، من جهة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم وفقا لنظرية سيادة الأمة (سيس) والسيادة الشعبية (روسو) من جهة أخرى، هذا «الثالوث الناسوتي» كان حاملا لفكرة العلمانية بقدر ما كان نتيجة لها، لذلك كان من الطبيعي أن ينكفئ «الثالوث الديني» إلى الكنيسة بعد أن دفع الأوربيون ـ وعلى مدى أربعة قرون تقريبا ـ ثمنا فجائعيا لكي يثبتوا لأنفسهم أن الدين فعل الهي مٌنجز، وبالتالي، فإن فرضية إصلاحه من قبل البشر هي مسألة تتنافى مع جوهره الإلهي الخالص بدليل النتائج الدامية التي تمخضت عنها محاولات الإصلاح الديني. من هنا كان لا بد من إصلاح العقول حتى تقلع عن تغليف فكرة الحفاظ على المصالح بغطاء «الإصلاح الديني».
الفتوى
في الثامن من حزيران من عام 1992 أُغتيل فرج فودة بسبب كتابته عن الاسلام (الحقيقة الغائبة، النذير، زواج المتعة…)، بالتحقيق مع القاتل عبد الشافي رمضان، قال إنه قتله بناء على فتوى بقتل المرتد أصدرها الدكتور عمر عبد الرحمن ـ مفتي الجماعة الإسلامية ـ في عام 1986، وحينما سُئل القاتل عن الكتاب الذي اثبت له أن فودة مرتد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب، أما في القرن العاشر الميلادي فقد كان أبو الطيب المتنبي يطوف العراق وشبه الجزيرة العربية مُدعيا أنه نبي، هذا الأمر كان يُقابل لدى المسلمين وغيرهم تارة بالسخرية وهز الكتفين، وطورا بتقطيب الحاجبين، لكن هذا الأمر لم يمنعهم من التغني بأشعاره والثناء على موهبته.
(كاتب سوري)
السفير