الاستبداد الراكد والاستبداد الحيوي: النموذجان التونسي ـ المصري والليبي ـ السوري
وسام سعادة
ثمة سؤال ضمنيّ أساسيّ طرحته الأنظمة المومياقراطية على الشعوب، أو بالأحرى على “السكّان”، في العقود المديدة الماضية: ما الذي تفضّلونه، الإستبداد الراكد أم الإستبداد الحيويّ؟ الإستبداد الراكد كان يحبّ أن يتسمّى “استقراراً”، والإستبداد الحيويّ كان ينشد “المجد”.
وهكذا، حين اندلعت الثورات الشعبية العربية تباعاً، أخذ كل نظام مومياقراطيّ يزن أموره وفقاً لثنائية الركود والحيوية. البداية كانت مع نظام “7 نوفمبر” المشؤوم في تونس، هذا النظام الذي تتلخّص “ضرورته التاريخية” في المعادلة التالية: فرّغ الإرث “البورقيبيّ” العقلانيّ الجريء من مضمونه ليسلّم البلاد إلى “حركة النهضة” الإسلاميّة. لقد بنى النظام البائد نفسه في الحالة التونسية على معادلة أنّ الإستقرار المطلق يساوي الركود المطلق، وحين اندلعت الإحتجاجات الشعبية الغاضبة ابتداء من مدينة سيدي ابو زيد، ارتأى الركود المطلق الحاكم أن طبيعته تلك لا تسمح له بحيوية قمعية استثنائية، فسارع إلى عروض تنازلية يكاد يكون من اليوم الأوّل، فكان سقوطه السريع، الذي بعثَ شعوراً قويّاً للاعتقاد بأنّه بمجرّد خلق قاعدة أوليّة احتجاجية في أي بلد عربيّ، يمكن أن تندلع الشرارة في الهشيم، وتبدأ العروض التنازلية من طرف الطاغية، وتتفرّق من حوله الأجهزة، أو تطلق عليه رصاصة الرحمة. وبما أنّ كلّ بلد عربيّ فيه من الخصوصية الشيء الكثير قياساً على البلدان الأخرى، صحّ اعتبار هذه النظرة “حسبة رومانسية”، إلا أنّ الاقتناع المتعاظم بها جعلها “واقعاً ماديّاً تاريخياً” بامتياز، في ظلّ تأثيرات ثورة المعلومات والإتصالات، وأيضاً في ظلّ اتساع النطاق الجماهيريّ للمجتمع الإستهلاكيّ في البلدان العربية، بما فيها البلدان الأكثر فقراً، وفي ظلّ انقلاب “التديّن المنزليّ” على الأنظمة المومياقراطية التي روّجت له، في معرض محاربتها للحركية الإسلامويّة وللحراك المدنيّ سواء بسواء.
وعندما انتقلت الشرارة إلى الساحة المصرية اعتبر النظام أن “قوّته في ركوده”، وتوهّم في ذلك “حنكة براغماتية”، وأمام إتساع النطاق الجماهيريّ للثورة المصريّة سرعان ما صار النظام يمارس “البراغماتية” على نفسه، ويفاوض على رأسه، إلى أن وقع الرأس، وكان حسني مبارك يعتقد في الأشهر الفاصلة بين تنحيّه واعتقاله أنّه لم يزل رئيساً “سرّياً” للبلاد، من “متصرفية شرم الشيخ”. في الحالة التونسية، كان الإستبداد الراكد واقعياً جدّاً لدرجة أنه اعتبر منذ البدء أنّ الحيويّة الوحيدة المتبقية له محصورة في القمع التقليديّ “لعلّ وعسى” وتقديم العروض التنازلية “إلى حين توضيب الحقائب”. أما في الحالة المصرية، فاعتبر الإستبداد الراكد أنّه أعرق من حسني مبارك، وأنّ عمره يقاس بآلاف الأعوام، فظنّ أن حيويّته تكون بالتخلّص من رأسه وتكييف قالبه مع الضغوط الداخلية والخارجية، إلا أنّ استمرار الحالة الثوريّة لـ”ميدان التحرير”، واحتمال تجدّدها في أي لحظة، تكفّل بتبديل المشهد رأساً على عقب، إلى الدرجة التي يمكن بها القول، رغم كل العثرات والمطبّات، أنّ مصر اليوم في صلب التحوّل الديموقراطيّ، بل أنّ قضية الديموقراطية في العالم أجمع تكاد تتكثّف في قضية مصر.
وفي مقابل الإستبداد الراكد “الذي يعرف هشاشته” كما في تونس، و”الذي يعوّل على عراقة مماحكته” كما في مصر، دخل النظامان الليبي والسوريّ في تحدّ من نوع آخر: اتخاذ الثورة الشعبية عليهما مناسبة للعودة من “الإستبداد الراكد” إلى “الإستبداد الحيويّ”، وهل ثمّة ما هو أكثر حيويّة من سفك الدماء؟
في الحالة الليبية، خرج العقيد معمّر القذافيّ يعلن الزحف الجماهيريّ لوأد الثورة قائلاً ما معناه: “أنا الثورة”، فـ”أنا ألّفت النظرية الثورية”، وأنا “بنيت النهر الصناعيّ العظيم”. أما بشّار الأسد في سوريا فواجه الثورة بمنطق مماثل، وإنّما على طريقته فقال ما معناه “أنا الإصلاح”، بل أنا “الإصلاح إبن التصحيح”.
التحدّي الذي وضعه الإستبداد الراكد في الحالتين الليبية والسوريّة أمام عينيه هو أن يتحوّل من جديد إلى إستبداد دمويّ، من طريق التأكيد على هويّته الثوريّة أو الإصلاحية، ومحاربة الثائرين كأعداء للثورة والإصلاح.
إلا أنّه في كلّ حالة، قدّمت وصفة لـ”البقاء” مختلفة عن الأخرى.
لم تكن لدى القذافيّ نظريّة “معقولة” للبقاء. صحيح أنه لو ترك له الأمر لكان أباد مدينة بنغازي عن بكرة أبيها، إلا أنّ زحفه عليها، في ظروف ما بعد تدخّل “حلف شمال الأطلسيّ” ارتدّ سلباً على أي تعويل من جانبه على ابقاء ليبيا منقسمة بين شرق وغرب، وفي النهاية لم يجد القذافيّ ما يعوّل عليه غير انتظار “جماهير” وهمية تنصر “جماهيريّته العظمى” على “ثوّار الناتو”. إلا أنّ الجماهير عملت بمقتضى ما كتبه بنفسه ذات يوم في وصفه جموع الناس في مجموعته القصصية “القرية القرية” حيث يقول: “كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكني كم أخشاها وأتوجس منها!” ويضيف: “كم هي قاسية في لحظة الغضب، فتآمرت على هانيبال وجرعته السم وقدمت بطلها دانتون للمقصلة وحطمت فكي روبسبيير خطيبها المحبوب وجرجرت جثة موسوليني في الشوارع”.
كان “الأخ العقيد” يعوّل إذاً على ما تناهى إليه من شظايا “سيكولوجيا الجماهير” في شكلها الأكثر انحطاطاً، أي في الشكل الذي يعتبر فيه الديكتاتور نفسه “رجل ولا كل الرجال” في مقابل “الجماهير” التي تتمثّل لديه في صيغة “أنثى” عليه أن يحتاط من تبدّل مزاجها وكيدها وغدرها.. ربّما لأجل ذلك كان يسعد بمنظر “الحارسات الأمازونيّات” من حوله.
في المقابل، يمتلك بشّار الأسد في ذهنه “نظرية كاملة” للإستمرار في البقاء.. سنهمّ بشرحها في الجزء الثاني من هذه
المستقبل