الانحيازات السياسية: أوهام ومصالح
فؤاد سلامة
لم ينفك أصحاب الرأي عن الإنقسام منذ قديم العصور. ليس كون الإنسان مثقفا مطلعا أو كاتبا «فهيما» أو شخصا مظلوما، يمنحه حصانة ضد الإنحياز إلى الجانب «الخطأ» في الصراع. غالبا ما يكون سبب الإنحياز مصلحة، أو ارتباطا عاطفيا (العصبية الخلدونية/القبلية /الطائفية). ولكن يمكن أن يكون الإنحياز بسبب فكرة مجردة أو «توهم»، وفي هذه الحالة نضع الإنحياز في خانة الأيديولوجيا. إنه الإنحياز العاطفي أيضا ولكنه من النوع النرجسي، الطفولي. وهذه هي حال بعض المثقفين الذين يعجزون عن مغادرة ارتباطاتهم القديمة أو ما يعرف بنوستالجيا الحلم الثوري للصراع مع الشر. وهذه النوستالجيا، زائدا بعض المصالح غالبا، قد تدفع بعض «الفهمانين « إلى البكاء على أسامة بن لادن مثلا أو القذافي أو صدام حسين وغيرهم من الطواغيت والمجرمين «الوطنيين» الكبار، ليس لشيء إلا لأن هؤلاء قد يجسدون زورا، أو وهما، فكرة الصراع ضد الشيطان او الإستعمار، أوالغرب.
يلتقي أشخاص لامعون مع آخرين تافهين في تلميع صورة أشخاص وقادة يرتكبون جرائم كبرى، فقط لأن دولا عظمى اتخذت موقفا سلبيا من هؤلاء القادة في لحظة معينة. والحجة غاية في البساطة: نحن مع كل من تعاديه تلك الدول الغربية لأن تلك الدول لا تريد خيرا للشعوب. تحديد الموقف من الحكام خاضع عند هؤلاء لمعيار موقف قادة الدول الغربية من الحكام المحليين. وعبثا يحاول الواحد البرهان بأن العلاقة بين الحكام المحليين وقادة الدول العظمى لم تكن غالبا علاقة صراع بل علاقة تبادل منافع بين قادة صغار جل همهم الخلود في السلطة، وقادة كبار تتغير مواقفهم كما تتغير وجوههم بتغير الظروف، أي أنهم ليسوا ثابتين ولا خالدين كحكامنا، ولهم مصالح في جميع الأحوال، مع الديكتاتور ومع خصومه.
أحيانا قد تتحدد المواقف بشكل مركب وخاصة عند بعض الأشخاص «الفهيمين». عند «العامة» تبدو المواقف شفافة وبسيطة: الإنحياز يكون عاطفيا أو مصلحيا وغالبا ما يحكمه الخوف أو انكسار جداره. عند «الخاصة» الذين يحاولون التميز قد تلتبس الأمور فتبدو معقدة . بعض الأشخاص يعلنون مواقف متناقضة أي مع وضد. وهؤلاء تتداخل الإعتبارات والمستويات عندهم: موقف مؤيد، أيديولوجي، أو «رعوي»، ومعارض، عقلاني. يزداد الإلتباس في تداخل الإعتبارات الأيديولوجية، المعروفة، والمادية المصلحية، المجهولة أو المموهة. يقولون عن حق «ليست الألوان أسود أو أبيض». من لا يعرف ذلك، ولكن في مواجهة القوة العارية، قوة السلطة القاهرة، ولو المتسترة بإعلام ومخابرات، فإن اللون الرمادي يختفي إو ينبغي أن يختفي بالنسبة للباحثين عن الحقيقة. في لحظة الإنقسامات الكبرى والحاسمة كل يعود إلى صفه: مع الجلاد أو مع الضحية، مع الظالم أو مع المظلوم، مع الحق أو مع القوة، مع الطاغية أو مع المقهورين.
الصراع ليس على الأرض بين قوى الشر المطلق وقوى الخير المطلق: إنه صراع بين بشر أقوياء وبشر وضعفاء، محكومين وحاكمين. وخلف هؤلاء قوى عاتية كبرى وصغرى، ومصالح وأيديولوجيات تموه المصالح. في البداية ينقسم البشر بين تحت وفوق، سلطة قاهرة ومواطنين مغلوبين. ومن ثم يدخل «الخارج» على الخط حسب المصالح والإعتبارات التكتيكية والاستراتيجية، وبوجود ثغرات أو تربة خصبة وملائمة تسهل تسلل الخارج «المتربص دوما». في الداخل يحاول الأسياد الاقوياء الإستفراد بالضعفاء، عزلهم من أجل سحقهم بسهولة ومنعهم من الإستقواء بالخارج أو بالإعلام. وغالبا ما يؤسس الأقوياء لعلاقة مع الخارج تزيدهم منعة وتحصن سيادتهم المطلقة على الرعايا المستعبدين والجلاوزة الصغار. سلطة الإستبداد تغلق المسارب وتحكم آليات السيطرة. وكلما ترسخت سلطة الطواغيت وامتد بها الزمن زاد مقدار اعتمادها على الكذب والتضليل، وعلى إعلام وأبواق، خوفا من انكشاف أمرها وانفضاح سرها.
عندما تنكسر صورة الطغاة وينهدم جدار الخوف وينفتح الخارج على الداخل لا يعود من هم لدى الطغاة غير عزل الداخل من أجل سحقه بعيدا عن الأنظار. الديكتاتوريات تكره حرية تداول الصورة والمعلومة، ولا تريد من الخارج إلا الدعم لأنظمة محكمة الإغلاق. هل ينفع السؤال عن موقف الثائرين ضد الإستبداد من» العدو الخارجي» ؟ بعد عقود من إذلال الشعوب وامتهان كرامتها ما نفع السؤال عن موقف المنتفضين من «العدو القومي» ومن المسائل «الجيوستراتيجية» ؟ وما شأن العدو القومي بانتفاضة «العبيد» ضد السلطان الجائر ؟ «العبيد« المنتفضون يريدون استرجاع إنسانيتهم المسلوبة، إنهم يريدون الحرية والكرامة والعدالة بعد طول اغتراب. وكيف للطغاة أن يمنوا عليهم بالإصلاح بعد عقود من القهر والإذلال، وللثائرين أن يصدقوا الوعود بالمن والسلوى بعد عقود من السحق والتنكيل؟
أولئك الساخطون لأن الثائرين لا يعيرون اهتماما لشعاراتهم «القومية» ولتحليلاتهم الجيوستراتيجية، ينسون أن الشعوب المسحوقة بالجزمات العسكرية والأمنية ليس لديها الترف «القومجي» الذي يتمتع به بعض المثقفين والشعراء والمحللين الهانئين في راحة الكنبات الوثيرة والمستمتعين بحرية الرأي. مقارعة الإستعمار الغربي تحتاج لشعوب حرة وأما الشعوب المستعبدة من أجهزة المخابرات، تلك الشعوب المحرومة من أبسط حقوق التعبير، فلديها هموم أكثر بدائية واولها أن تعيد اكتشاف إنسانيتها المسلوبة وأن تستعيد بلدها المصادر من الطغم المتألهة والعصابات الأمنية المتغولة..
ليس جميع المتخلفين عن الإلتحاق بالربيع العربي من المثقفين والسياسيين والإعلاميين في سلة واحدة وينطلقون من دوافع واحدة. بعضهم لديه أسباب باطنية «رعوية» كما يقول البعض قاصدا الأسباب المذهبية. وبعضهم له ارتباطات مصلحية قديمة أو طموحات مصلحية مستجدة أو قيد التكون. والقليل فقط لديه أسباب أيديولوجية «صافية» من نوع التمسك بالقوالب الفكرية القديمة والعواطف «العقائدية»، إسلامية أو علمانية أو قومية. في مواجهة الإستحقاقات الكبرى التي جعلتها الثورات العربية راهنة وعلى رأسها مسألة الإنتقال إلى الديمقراطية واجتماع الظروف الملائمة لذلك، لا يملك الناس ترف اختيار الوسائل والحلفاء ليقولوا هذا نريده وذاك لا. ليس صحيحا أنه إذا كان الخيار بين «القذافي» و»مصطفى عبد الجليل» فمن الأفضل عدم الإختيار. إنه بالتحديد الموقف الأنسب للطغاة لإدامة حكمهم عقودا وإعادة ترتيبهم للأوضاع بعد سحق معارضيهم. في اللحظات التي «يصنع» فيها التاريخ، في شكل معارك ملحمية ومأساوية ، الموقف سلاح ومن يخطئ وجهة استعمال سلاح الموقف قد يكون مصيره «مزبلة التاريخ» التي ينتهي إليها عادة الطغاة وأعوانهم وإن طال الأجل.
المستقبل