صفحات الرأي

 الانعطافات الاستراتيجية الحادة في الأعوام الثلاثة الأخيرة … ومصادرها/ برونو ترتريه

 

 

يحتسب الكتابان الأبيضان (الفرنسيان) في الشؤون الدفاعية، الصادران في 2008 و2013، فكرتي «المفاجأة الاستراتيجية» و «القطيعة الاستراتيجية» في العدة الرسمية الفرنسية التي تعالج قضايا الأمن والدفاع. ويخلط بعض الدارسين والمحللين بين الفكرتين. ولفكرة «المفاجأة الاستراتيجية» مكانةً بارزة في الفكر السياسي والعسكري الغربي المعاصر، وتناولتها مقالات ودراسات كتبها جوفري دولاكروا وأوليفييه دوبوزي وكورونتان بروستلان، إلى كاتب هذه العجالة. ومرجعها هو حادثة عظيمة غير متوقعة أو (حادثة) رأى أصحاب القرار النافذون أن حظها من الحصول ضعيف.

أما «القطيعة الاستراتيجية»، فهي مفهوم فرنسي ومن غير نظير فعلي في الإنكليزية. وسمته البارزة هي كثرة وجوهه: فالقطيعة عسكرية (تتناول سيرورات «الثورة في الشؤون العسكرية») وتكنولوجية واقتصادية ومجتمعية. ومصدر القطيعة غير ذي بال، فتعريفها ينهض أولاً على مفاعيلها الحاسمة والآيلة إلى تغير عميق في دائرة الأمن والدفاع. ولا تقتصر القطيعة الاستراتيجية على هذه الدائرة، ويجوز حصولها في الصناعة النووية، كما حصل في كارثة تشيرنوبيل. والمفاجأة والقطيعة نسبيتان أو قياسيتان: فالمفاجأة تقال قياساً إلى وقائع وطنية أو إقليمية، وهي ليست كذلك قياساً إلى أخرى. وعلى هذا، فالمقارنة هي السبيل الى تفحصها.

والمفاجآت كلها ليست من باب القطيعة، وعكس هذا صحيح. وبعض الحوادث يدخل تحت بابي الاثنتين: فعملية برباروسا (الهجوم الهتلري على روسيا في تموز- يوليو 1942) وهجوم بيرل هاربور ونصب الصواريخ (السوفياتية) في كوبا (خريف 1962) واجتياح أفغانستان (1979) وسقوط جدار برلين (1989)، إلى هجوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وأزمة 2008 المالية العالمية والأوروبية الخاصة، أو الثورات العربية هذه كلها من هذا الصنف. لكن حرب تشرين (أكتوبر) 1973 كانت مفاجأة استراتيجية فعلية من غير أن يصح القول فيها إنها قطيعة، على رغم أن زيارة السادات القدس، وهي ثمرة الحرب جزئياً، تدخل في باب القطيعة. وعلى خلاف هذا، كانت حرب الأيام الستة (حزيران- يونيو 1967) وتصدع الاتحاد السوفياتي والتجربة النووية الكورية الشمالية الأولى، من باب القطيعة غير المفاجئة.

وشهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة، عدداً غير مسبوق من الحوادث الاستراتيجية الكبيرة أحصي منها 8 حوادث: 1) تعاظم استغلال الطاقة الهيدروجينية والنفطية غير التقليدية في الولايات المتحدة وترتيبه نتائج على استعادتها استقامتها الاقتصادية، وعلى إضعاف بعض الدول النفطية الكبيرة (روسيا، إيران…)، ونسج علاقة جديدة بدول عربية؛ 2) استعمال نظام بشار الأسد السلاح الكيماوي على نطاق واسع؛ 3) تمدد تنظيم «داعش» المزعوم تمدداً إقليمياً وعسكرياً خاطفاً، ورسوُّه على قوة مالية غير مسبوقة، وتردد أصدائه في أنحاء العالم؛ 4) ضم القرم وتدخل روسيا المباشر في أوكرانيا؛ 5) انتشار عدوى وباء إيبولا على نحو شديد الخطورة وغير معروف سابقاً، فالفيروس كان على الدوام لا يتخطى البؤرة التي يظهر فيها؛ 6) مهاجمة أجهزة شركة سوني اليابانية المعلوماتية؛ 7) الهجوم الإرهابي المثلث على فرنسا في كانون الثاني (يناير) 2015 وذيوله؛ 8) التدخل الروسي في سورية.

وهذه الحوادث ليست من صنف واحد، فأزمة الأسلحة الكيماوية السورية وقضية القرم وتعاظم قوة «داعش» مفاجآت وقطيعة معاً. ولا شك في أنها انتهكت 3 محرمات لازمت الحرب الباردة وما بعدها. فأحلّت استعمال أسلحة «دمار شامل» لأول مرة منذ 1988 في حلبجة بكردستان العراق. ورضخت لتغيير حدود دولية بالقوة المسلحة، فمحت الحدود السيادية السورية – العراقية، وتوسلت باستفتاء صوري للاستيلاء على القرم. وثورة الوقود الهيدروجينية والنفطية قد تكون قطيعة إلا أنها ليست مفاجأة، فهي متوقعة منذ عقد من السنين. وحوادث كانون الثاني 2015 من هذا الصنف: فهي قطيعة من المنظار الفرنسي وحده، وبالكاد. والهجوم على سوني ووباء إيبولا لم يفضيا إلى قطيعة على رغم سرعتهما وسعتهما المفاجئتين.

وتقع الأزمات الاستراتيجية الكبيرة في أربع دوائر جغرافية كبيرة، فالعاصفة الشرق الأوسطية تتفاقم وتفضي إلى فشل العراق وليبيا وسورية واليمن، وإلى تعاظم قوة أشباه دولة «حزب الله» و«داعش». وتتشابك 5 أبعاد في هذه العاصفة: 1) الهزات السياسية التي سميت «الربيع العربي» وأدت إلى استقرار سياسي في أحوال قليلة (تونس ومصر في صورة عودة إلى الحال السابقة)، وإلى تدمير دولتي سورية وليبيا في أحوال أخرى، 2) انبعاث «الجهادية» المقاتلة على نحو عريض، وعلى صورة لا مبالغة في تسميتها «الإسلامية الشمولية» وامتدادها إلى المنطقة الصحراوية– الساحلية والمنطقة السورية– العراقية، والمدار أو المحور الليبي بينهما، 3) المضي في المجابهة المذهبية وتطرفها، واتساع العمليات الإيرانية حول الهلال الخصيب الذي يبدو أن إيران تسعى إلى جعله «هلالاً شيعياً»، وفي اليمن، 4) أزمة النووي الإيراني الذي تبدو حظوظ حله نهائياً على المدى القريب ضئيلة، 5) دوام النزاع الإسرائيلي– الفلسطيني.

وتنتهك القضية الأوكرانية، ومعها القرارات الاستراتيجية الروسية منذ أواخر 2013، الإطار السياسي– الحقوقي الذي أقر في تسعينات القرن العشرين، وتعود إلى تجديد قضية الأمن الأوروبي والبحث فيها، بينما لوَّحت نهاية الوصاية الدولية على كوسوفو في 2012 بختام الأزمات البلقانية وحلها.

والفضاء السيبرنيطيقي اليوم ميدان مجابهة استراتيجية لا تفتر، وتدور فيه رحى هجمات بعضها شديد الحدة وواسع، فالهجوم على سوني «ردت» عليه عملية تعطيل خدمات البنى التحتية الكورية الشمالية، على سبيل المثل.

وتعاظم حدة النزاعات بين الدول الآسيوية لم يكبح. فالعلاقات الهندية – الباكستانية تحت رحمة «عملية بومباي جديدة» (بعد عملية 2008). وكوريا الشمالية بقيادة كيم– جونغ أون لا تزال على نزعتها العدوانية، وخطر استفزاز يخلف تداعيات متناسلة يخيم على شبه الجزيرة. والسفن الصينية لا تكف شرقاً وجنوباً، عن تحدي البلدان المشاطئة وبحرياتها.

لكن الأزمات والمفاجآت والانعطافات الحادة، وإفضاءها الى «سيولة» العلاقات الدولية، ينبغي ألا تحجب التيارات العميقة والتطورات الزمنية المديدة، ففي بعض الأحوال ترقى الأزمات المقيمة إلى عشرات السنين، وتضرب جذورها في حوادث وقرارات تعود الى أواخر أربعينات القرن العشرين. وهذا شأن المسألة الإسرائيلية– الفلسطينية، وهي حال شبه الجزيرة الكورية، والنزاع الباكستاني– الهندي، وقضية تايوان. وترجع مقدمات أزمة النووي الإيراني إلى نيف و30 عاماً، شأن تحول «حزب الله» كياناً على مثال الدولة، وتفاقم الحرب الأهلية السورية إلى حد ما، وبعضهم يرد إلى هذا الوقت تعاظم دور الحوثيين اليمنيين. وهذه الظواهر تفرعت عن الثورة الإسلامية (الإيرانية) في 1979، وعن نازعها الحاد إلى مناهضة الغرب.

زعزعة الاستقرار في الدائرة الأفغانية– الباكستانية، المزمنة على الأرجح، هي ثمرة تدويل الأزمة في 1979. وفاقمتها عوامل بنيوية (الحوكمة الضعيفة، وحلقة الحرب الأهلية المفرغة، وهرم الأعمار المواتي للعنف…). ومنذ نيف و10 سنوات انفجرت أزمات أوروبا وشرق آسيا، ومردها الى احتدام النزعة القومية في الدولتين الكبيرتين، روسيا والصين، والى تظاهرها أو التعبير عنها بواسطة التوسع العسكري (عموماً) المقنَّع، والانتهاكات الإقليمية البرية والجوية والبحرية والتعدي على جوارهما القريب. وهذا عدا التلويح بالورقة النووية مثل إجراء التجارب الصاروخية في أوقات ديبلوماسية مختارة. والظاهرة الجهادية المعاصرة استأنفت غليانها في تربة الربيع العربي، بموازاة انقلاب «القاعدة» منظمة مفرطة العنف، ذات ركن إقليمي متماسك، وتجهيز وثراء يفوقان التجهيز والموارد السابقة، إلى احتراف غير معروف في حقلي الدعاية والتجنيد.

* أستاذ بحوث في مؤسسة الدراسات الاستراتيجية بباريس، عن موقع «فونداسيون بور لا رُشرش ستراتيجيك» الفرنسي، 2/11/2015، إعداد م. ن.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى