البغدادي في “موقعة” الساعة/ روجيه عوطة
إنها المرة الأولى، التي يظهر فيها زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية” أبو بكر البغدادي في فيديو متحرك، بعدما اقتصر حضوره على بعض التسجيلات الصوتية، وصورتين فوتوغرافيتين فقط لا غير. التقطت مشاهد الفيديو في جامع الموصل الكبير، وقد حملت تاريخاً محدداً، “6 رمضان 1435″، أي بعد أيام قليلة على إعلان “الخلافة”، وتنصيب البغدادي “خليفة للمسلمين”. بالتالي، حصل الشريط اليوتيوبي (إنتاج مؤسسة الفرقان) على معناه، بإماطة اللثام عن وجه “أمير المؤمنين”، وبالرد على منتقديه، الذين رفضوا مبايعته، نظراً إلى تواريه السابق.
فقد كشف البغدادي عن شخصه، ومتّن هذه الإبانة بخطبة محكمة، اتكأت، في بدايتها، على الصيام، ثم، توجهت إلى “الناس”، المسلمين، بدعوة إلى الجهاد. وبين المتّكأ والأمر، عبارة مفتاحية، “إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فانصحوني”، من أجلها، ارتدى البغدادي ثيابه السوداء، مُمَشْهِداً المذكور في صحيح مسلم عن دخول النبي محمد إلى مكة ” وعليه عمامة سوداء تفقّه”، كما راقب لسانه العربي، الذي أرصنه بالمدة، وثبته بالشدة.
فـ”الخليفة ابراهيم” يمر في امتحان صعب، إنه “يوم الفتح” البصري، الذي يحتّم عليه الوقوف باتزان أمام عدسة الكاميرا، ويجبره على رصد أي خطأ مفاجئ قبل وقوعه. بعد ذلك، بدا ممثلاً دوره باتقان، وكل ما يريده هو اقناع المُشاهدين، وليس المصلين في الجامع فحسب، بأنه قائد “دولة الخلافة”، التي شيّدتها الخرافات، وقوَّتها الصور، وربما، ستبددها مشاهد متلاحقة، علامتها الأساس، تعثر “أمير المؤمنين” في تمثيله، وتعرقله في خطبته.
إلا أن “موقعة” الفيديو، ورغم محاكاتها لباس النبي، واحتذائها بلسان الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، لم تخلُ من شوائب. ففي مشهد “الخلافة” القاتم، ومضمونها الصوتي الآمر، برزت ساعة اليد، التي وضعها البغدادي حول معصمه (الأيمن طبعاً)، وكسر بها المسار التراثي لظهوره، بالفضل عن ساعة الحائط، والمروحة المعلقة خلف رأسه. فبالتحديق في هذه العناصر الثلاث، يخرج الفيديو من الزمن، الذي حاول “الخليفة” أن يغلق ظهوره عليه، محتوياً على إشاراتٍ، تعود إلى المُعاصر من الوقت.
هذا، ما أدى إلى تجاور الأصالة والحداثة في مشهدٍ واحدٍ، لا يمكن القول أنه استقر على تعارض، أو على “عيب” تصويري، لا سيما أن “الدولة الإسلامية” وُلدت في حضن ذلك التجاور، الذي يدل عليه استخدامها التقنيات الجديدة لنشر خرافاتها القديمة. فساعة يد البغدادي، التي رجحت صحيفة “تلغراف” أن تكون من نوع رولكس، أو سيكوندا، أو أوميغا سيماستر، تفتح “موقعة” الفيديو على “واقعه”، مشيرةً إلى أن العلاقة بين الإثنين ليست مقطوعة. فـ”الأمير” ومقاتلوه، لم يظهروا من العدم، بل ولدوا في أكناف الزمن المعاصر، الذي، على متنه، رجعوا إلى أيام الخلافة، ليأتوا بأحكامها، ويمارسوها من جديد.
على ذلك، يضبط البغدادي الوقت الخرافي بساعة يده، مثلما يضبط الوقت الحديث بخطبته. فساعته تطرح سؤالاً أولياً عن موقع الجهاديين الإسلاميين في الزمن المعاصر: ماذا يمثلون، وكيف استطاعوا أن يستخدموا تقنياته في حين يُصنفون “بدائيين أو برابرة”، أو يوصفون بـ”أنهم جاؤوا من خارج الزمن”؟ لقد أخفى البغدادي سره في ساعته، كما كشف وجهه بستر وجوه المحيطين به في جامع الموصل. هذا ما ثبت الأنظار نحو “الخليفة”، وهذا ما أكد أن “الإرهاب” ليس عابراً في زمننا، بل على علاقة شديدة به.
ففي حال التركيز على الجانب البصري للـ”الدولة الإسلامية”، المتسم بالسينمائية، وعلى ساعة البغدادي، التي تروج لها الإعلانات، ويلبسها النجوم، لجرى الإستنتاج أن “الداعشيين” فنانين، وأن “الخليفة” نجم مشهدي، مؤسس جماعة فنية جديدة، يضبط وقتنا، يقول خرافته، ويدفعها نحو المشاهدين…ذاك، بحسب دوران المروحة وشفراتها.
المدن