التدويل .. لمصلحة مَن؟
فواز طرابلسي
إذا كانت سياسة «الممانعة»، في وظيفة من وظائفها، قامت على اكتساب موقع وشرعية وقوة خارجية للنظام السوري جرى توظيفها لأغراض السيطرة الداخلية، وإذا كان الاستقواء على الداخل بالخارج عن طريق الأدوار العربية والإقليمية والدولية شكل نهجا ثابتا للسلطة السورية الحالية على امتداد اكثر من أربعة عقود على وجودها، يجوز التساؤل الآن، والإجماع قائم على اعتبار ان الازمة في «منعطف» جديد: أليس النظام الحالي يكرّر سياسة الخورجة هذه، اي يعيد استخدام نهج الاستقواء بالتعريب المدوّل على معارضة شعبية عارمة، تفرّع عنها جناح عسكري؟ علما ان المهمة الآن ليست فرض السيطرة وإنما إطفاء ثورة وإنقاذ نظام؟
منذ أن كانت الأزمة الدموية السورية لم يتردد الحكم في دمشق مرة في استدعاء الوساطات الخارجية. بدأ بتوسيط تركيا. وانتقل منها الى وساطة قَطَرية موجزة تولت الإمارة الغازية بسرعة تجييرها الى الجامعة العربية. وبعد التعثر المبتسر لمهمة المراقبين العرب، استعجلت السعودية وقطر نقل ملف الازمة الى الامم المتحدة. في الحالات الثلاث المذكورة، شكلّت الوساطات أغطية لنهج ثابر عليه النظام في كسب الوقت وتصوير أزمته على أنها حرب يخوضها ضد مجموعات بدت «تخريبية مسلحة» الى ان انضوت دعايته في خط «الحرب الدولية ضد الارهاب» فصارت الصيغة الرسمية للعدو هي «مجموعات إرهابية مسلحة ». طبعا، لم يقتصر الامر على تصوير الازمة. عولجت الازمة عمليا على اعتبارها حربا عسكرية وأمنية تمارس أنواعا دموية شتى من
الترهيب والترويع على المدنيين المتظاهرين في مئات من مواقع الاحتجاج في طول البلاد وعرضها.
فجأة اكتشفت وزيرة الخارجية الاميركية ان «تنظيم القاعدة» قد اخترق المعارضة السورية. ومهما تكن الدلالة بعيدة المدى لذاك الاكتشاف فإنه غطّى، ولو جزئيا، بدء مرحلة جديدة من الحل العسكري سمّيت مرحة «الحسم» كانت ذروتها اقتحام أحياء من مدينة حمص وعمليات كرّ وفرّ في سائر المدن والبلدات والمواقع الخارجة جزئيا أو كليا عن سلطة النظام وقواه العسكرية والامنية على مدار البلد.
لم يحسم «الحسم» الى الآن. لكنه فتح المجال امام مرحلة جديدة من الخورجة تتولاها المؤسسة الدولية حيث أمكن للفيتو الروسي فرض تسوية، أميركية ـ روسية، تلتقي أقلا عند أولوية وقف إطلاق النار من الطرفين والانسحاب (انسحاب المدرعات خصوصا) من المدن، في ظل رقابة ثلاثمائة رقيب دولي خلال مهلة ٩٠ يوما. ومع ان المبادرة تدعو عمليا الى إطلاق سراح «المعتقلين عشوائيا»، الا ان التباس الصيغة وفقدان آليات الرقابة الفعلية عليها تفقدها أية قيمة عملية.
في اليوم الثالث عشر من وقف إطلاق النار والثالث على بدء مهمة المراقبين الدوليين، إذ يستعجل المبعوث الدول كوفي أنان الانتقال الى «العملية السلمية»، سجلت بورصة الدم في سوريا، قبل حلول المغرب من يوم امس، مزيدا من القتلى معظمهم في مدينة حماة. وقف اطلاق نار غير مطبق عمليا والانسحابات شكلية. والجيش النظامي مستمر في استخدام السلاح المدفعي خصوصا على الاحياء المدنية. حتى أن بان كي مون، والرجل الذي يحتاج للا أقل من مئة جثة يومية لينطق، اضطر لإدانة «الهجوم الوحشي المروع» .
باختصار، لا شيء يشبه قرب الانتقال الى «العملية السياسية» المنشودة. على ان المبادرة تستدعي هذه الملاحظات.
÷ أولا، تفصل المبادرة بين الامن والسياسة. وهو النهج الدائم للقوى الغربية في التعاطي مع الثورات العربية جميعها حيث ان فرض الامن سبق البحث في عوامل الازمة وأسباب الاحتجاج، أي أسباب اختلال الامن. التمسك بحكم العسكر في مصر مثالا. عدا المبادرة الاميركية الخليجية في اليمن حيث جرى إهمال كل عوامل الانفجار والقوى المعارضة، باستثناء المعارضة الرسمية، باسم الأمن.
÷ ثانيا، نحن بإزاء تدويل منافق يزعم تسليم الامر للسوريين. «يجب ان يقرر السوريون بأنفسهم مصير سوريا »، تقول الخارجية الروسية. وعلى اللاعبين السياسيين الخارجيين «ان يساعدوا السوريين على بدء الحوار السياسي بهدف إقامة نظام ديمقراطي تعددي». وحقيقة الامر ان ما يفرض على السوريين هو نمط من التدويل يساعد اكثر ما يساعد على المحافظة على النظام القائم والاوضاع القائمة.
÷ ثالثا، يتبيّن ان ما يسمّى «البرنامج الاصلاحي الشامل» الذي صاغه النظام هو برنامج مدوَّل بامتياز. يستلهم الخارج ويتوجه له، إذ يسعى لأن يبدو منسجما مع رطانة ليبرالية رسمية سنّتها إدارة جورج بوش عن التعددية وحقوق الانسان والعمليات الانتخابية.
هكذا لديك عدم اعتقال الصحافيين. ولكن لا حرية صحافة ولا حرية لتأسيس وسائل الاعلام.
ولديك تعددية حزبية. ولكنها خاضعة للإجازة من السلطة التنفيذية.
وحق التظاهر مصان بشرط الاستحصال على إذن مسبق من وزارة الداخلية.
وثمة قانون انتخاب يكرر القانون السابق ويقسّم المرشحين الى ثلاث فئات تسمح بالتحكم السلطوي والحزبي فيها: عمال وفلاحين ومستقلين
وفي قمة كل هذه «الإصلاحات» يتربّع دستور جرى إقراره بواسطة استفتاء تعترف مصادر النظام قلة الاقبال عليه. يريدنا نائب وزير الخارجية ان نصدق انه «يعدّ من الدساتير العصرية في العالم». إذا كانت عصريته تعني أنه من أواخر الدساتير التي صدرت، فهذا أكيد. أما عن كونه ينطوي على أي إصلاح جاد للنظام القائم فأمر آخر. فجلّ ما يعد به الشعب السوري هو العودة الى بيت الطاعة في ظل نظام سياسي قائم على تعددية سياسية واعلامية وحزبية مضبوطة في ظل حاكم فرد مطلق الصلاحيات يجمع السلطات التشريعية والتنفيذية والامنية والعسكرية الى كونه غير قابل للمساءلة أو المحاسبة.
وحتى لو وضعنا جانبا ان النظام لم يعترف بالمعارضات السورية على تعددها مع انه يشكوها للقاصي والداني بأنها لا تريد محاورته، فإن الحوار الفعلي الذي يجريه كناية عن اتصالات مباشرة او عبر وسطاء مع كتل معارِضة دون سواها وخصوصا مع شخصيات معارضة او مستقلة يجري البحث معها بالدرجة الاولى في تشكيلة وزارية تقطع الطريق عمليا على «الحوار» العتيد.
هل أن السلطة مستعدة لوضع «برنامج الاصلاح الشامل» هذا موضع حوار على طاولة «الحوار الوطني»؟ كيف يمكن تصديق ذلك عندما يقرأ المرء ان المصادر الرسمية السورية لا تزال تعتبر ان ثلاثة عشر شهرا دمويا هي نتاج «الهجمة الاعلامية الشرسة التي تتعرض لها سوريا عن طريق بعض القنوات الفضائية التي باعت شرفها المهني، لتشارك في سفك دماء السوريين عن طريق أكاذيبها».
السفير