التفسير الثقافي لترهل القوميات/ رستم محمود
أن يخرج أكراد مدينة ديار بكر في تظاهرات حاشدة، تأييداً ودفاعاً عن تيار الإخوان المسلمين المصريين، والرئيس المعزول محمد مرسي؛ في حين لا يشغلون بالاً بحالة “ذويهم” الأقربين من الأكراد السوريين، هؤلاء الذين دخلوا منذ شهور، في صراع مسلح مع التيارات “المتشددة” المناوئة لتطلعاتهم القومية. وأن ينقسم المصريون – مركز وهج القومية العربية لنصف قرن كامل- بين تيار سياسي ديني محافظ، وتيار سياسي مصري آخر، متمركز حول التطلعات الوطنية مصرية، مع غياب تام لأي تيار “قومي عربي” ذي حجم ومكانة في ذلك الانقسام السياسي، في هذه الدولة المركزية. وأن تنخرط تركيا في جل الشروخ السياسية والمجتمعية في كل الدول العربية، مقابل إنعزال وهامشية الدول العربية في المساهمة في شؤون الدول العربية الأخرى، وأن يلقى اللاجئون السوريون في تركيا، ترحيباً شعبياً، و”تعاوناً” حكومياً أكثر إيجابية وحميمية مما يلاقونه في باقي الدول العربية التي لجأوا إليها، وأن تبدأ عملية التفاوض الفلسطينية-الإسرائيلية من دون أي انشغال أو وصاية من أنظمة أو أحزاب أو مجتمعات الدول العربية الأخرى… كل ذلك يشير بعمق إلى مدى هزال فاعلية الإيديولوجية القومية في كامل مشهد “المشرق العربي” ومحيطها الحيوي.
لا يغطي هذا الترهل اللوحة السياسية فحسب، فهذه النزعة ليست مجرد خيارات لأنظمة سياسية تتوخى تحقيق مصالحها المباشرة، ولا حتى خياراً إيديولوجياً خاصاً بتيار حزبي في عدد من البلدان؛ بل هو أقرب للعزوف العام، الاجتماعي والثقافي والسياسي، عن القومية وخطابها وسلوكها وخياراتها.
تجتمع مداخل ثقافية ثلاثة متنوعة، لتشكيل هذا النمط الحديث من ضعف في حضور النزعات القومية في الشأن العام، في هذه الدول والمجتمعات.
الأول ثقافي تاريخي، يتعلق بسياق تشكل الإيديولوجيات القومية في منطقتنا. فهي لم تكن كمثيلاتها التأسيسية في المنابت الأوروبية، حيث جاءت الإيديولوجية القومية كانعكاس وتطور للعلاقات الاقتصادية والثقافية والمجتمعية في تلك البيئات الأوربية، لذا كانت القومية وإيديولوجيتها تعبيراً عن مصالح تلك البيئات. فحين لم تعد أنماط التوافق والعقود الاجتماعية-السياسية التقليدية، الإقطاعية والدينية والمناطقية تلبي مصالح تلك المجتمعات، كانت القومية سياقاً تاريخياً يستطيع مجاراة حلول البورجوازية الأوروبية مكان الإقطاعية التقليدية، وحلول أنواع من العلمنة السياسية والمجتمعية مكان سيطرة رجال الدين. في منطقتنا حدث العكس تماماً. فقد بدأت النزعة القومية من التبني الثقافي لبعض نُخب المدن المتواصلين مع حركة الجامعات الأوروبية، ثم قويت تلك النزعة مع حضورها النسبي في بعض البيئات الاجتماعية “الأقلوية” في المشرق العربي، وأخيراً لمعت مع تبينها من قبل عسكر الانقلابات في التجارب الناصرية والبعثية. أي أن النزعة القومية لم تكن تكويناً مجتمعياً ثقافياً تاريخياً في حالتنا، وكانت الحالة التركية أقرب لهذا النمط العربي، والكردية انعكاساً لهما.
العامل الآخر ثقافي اجتماعي، فشكل حضور الإيديولوجية القومية في مجتمعاتنا كان نمطاً من السيطرة بقوة الدولة، لا الهيمنة بفعل أدوات الحُكم الناعمة والمتوافق عليها. فمجتمعاتنا التي دخلت القرن الجديد بحجم نسبي هائل للريف وقيمه، وأشكال تقليدية من التراتبية وعدم الفاعلية، مجتمعات متخمة بالأمية والفقر والعقل الغيبي. مجتمعات كانت قد سلمت أقدارها لعدد بسيط من نخبها الأعيانية “من أعيان” وقادة جيوشها. حيث استطاعت الأنظمة التي سيطرت على مقاليد الحُكم في دول هذه المجتمعات، أن تحول عقيدتها الحزبية القومية، إلى دين للدولة وعُرف عام، واستطاعت أن ُ تمظهر الجماهير بقبول وتبني خطابها القومي هذا. لكن تفككت عرى تلك النزعة، مع تفكك قدرة هؤلاء “الزعماء” على ضبط مجتمعاتهم.
المدخل الأخير، ثقافي له علاقة بالذاكرة. فمثلما تركت النزعات القومية الأوربية إرثاً من دمار بلدنها، أنهاراً من دماء قتلى الحروب، مدناً محطمة وأنظمة إقصائية تتمركز حول عبادة الفرد واستثنائية العرق. أنظمة منطقتنا، تركت ما لا يقل عن ذلك في ذاكرة مجتمعاتها، من إقصاء وتعنيف للجماعات الأقلوية في هذه البلدان، إلى قمع عام يستقصد الهندسة الاجتماعية، مروراً بالاستخدام الأداتي للإيديولوجية القومية، كسبيل لسيطرة جماعات وعائلات وافراد على عرى الحكم، سجون ومساجين، حروب وشهداء وعشوائيات وفساد وسوء تخطيط… الخ. ذاكرة مجتمعاتنا مع النزعة القومية، أهم فاعل لنبذها.
المدن