الثورات وتنوع المآلات
نهلة الشهال
لدينا تونس التي لا تكتفي برياديتها في إشعال الشرارة، ثم تحقيق الانقلاب على النظام السابق، بل تصر على التحول إلى مختبر للممكن، للممكنات. هنا يجرى التعامل بحذر لطيف مع الغرف المغلقة الحصينة، تلك التي ما زالت تؤوي مرتكزات نظام بن علي: أجهزة الأمن خصوصاً، ولكن وأيضاً كتلة من المصالح الاقتصادية التي لا يمكن شطبها بجرة قلم. ويبدو التعامل الحذر واللطيف متيسراً لأن تونس بلد صغير، قليل المشاكل بالقياس إلى سواه وضعيف الانقسامات التكوينية، يمتلك نخبة فكرية وسياسية وتقنية واسعة، بعضها نأى بنفسه عن الدخول في وحول النظام السابق فحافظ على شرعية مجمع عليها، وها هو يستعيد مكانة مهمة في المرحلة الانتقالية لا يمكن الاستغناء عنها، لا في تونس ولا في أي مكان في العالم يعيش مرحلة انتقالية: خذوا إسبانيا بعد فرانكو، خذوا تجارب العديد من دول أميركا اللاتينية، وهي كلها عرفت فترات سوداء، يبدو معها بن علي شبه حمل وديع!
يلازم ذلك انطلاق لحيوية اجتماعية عامة مثيرة للدهشة والفرح. الجميع يناقش في السياسة وفي الخيارات، فتتشكل يومياً حلقات واسعة ومتعددة في جادة بورقيبة، تستمر ساعات وتتناول كل شيء. بعض السينيكيين يسمونها هايد بارك. ولكنها لا تجرى في ساحة معزولة بل في شريان العاصمة الرئيسي، وهي لا تناقش في جنس الملائكة بل في ما سيجرى تطبيقه غداً. إنها بحق شكل من أشكال الديموقراطية المباشرة، والأهم أنها تعبر عن تسارع قل نظيره في التسييس العام.
على مستوى آخر، يجرى ابتداع أطر وحلول لمقتضيات المرحلة الانتقالية، وهو أمر مكلف ومعقد، لم يتم بسهولة ولا وفق خط مستقيم. اقتُرحت تدابير، وحين لاقت رفضاً في الشارع رغم تسرع قوى ورموز في قبولها (يا لانتهازية النخب! يجرى تغليفها بحجج «الشعور بالمسؤولية»، حتى في أماكن دفعت فيها هذه الأخيرة ثمناً باهظاً من القمع والسجن والمطاردة)، طارت تلك المقترحات-التدابير وتم تبني سواها. الكثير من التلمس والتجريب يقيم هنا، ومعه القدر المعلوم من الحسابات والمخاوف المتبادلة بين الجميع. ولكن التجربة تمضي حثيثاً، ويتناقش اليساريون والليبراليون والإسلاميون (إلا ما ندر)، وتنصبّ عيونهم على المجلس التأسيسي الذي سينتخب في 24 تموز (يوليو)، لتبدأ مرحلة انتقالية ثانية، تتحدد فيها الخيارات الأساسية لتونس الغد. ولو سارت هذه التجربة بلا هنات كبرى، ولو جرى تذليل العقبات والنوايا الشريرة بالسلم والحوار والاحتكام إلى الرأي الأغلب، لوقعنا هنا على نموذج لا يوجد شك في تحوله إلى احتلال مكانة مرجعية في العقول، وإلى تثبيت قدرة هذه المجتمعات على إدارة شؤونها وابتداع مستقبلها.
ليست التجربة التونسية للنقل. فهذا بالطبع غير ممكن، سيما إذا كان المقصود تلك الممارسة الكسولة التي تستنسخ. كما ليست للنقل التجربة المصرية، الأشد تعقيداً. فهنا تدخلت المؤسسة التاريخية لبيروقراطية الدولة، وقد تمثلت بالجيش الذي بقي على حد من التماسك والدينامية بخلاف سواه من المؤسسات، لتطلق مرحلة انتقالية هي الأخرى، تصارع فيها للحد من التغييرات، مراعية في آن كتلة المصالح الراسخة والمبنية خلال عقود من إدارة مصر، كما الضغط العام للمجتمع الذي يصطدم بحدود تلك البنية ونواقصها واستعصاءاتها، ونتائجها الكارثية على الحياة اليومية للملايين من المصريين، اليوم وفي الأفق المستقبلي. وحجة هذا الضغط أنه لا يدافع فحسب عن مكاسب للناس بل عن مكانة مصر، حيث هي أيضاً في الميزان.
بينما تبدو حالة ليبيا موحية كمثال مضاد، أتاح باباً عريضاً للتدخل العسكري والسياسي الغربي، وأطلق ما يشبه حرباً أهلية دامية، يشير كل شيء إلى احتمال استدامتها، وإلى حملها لبذور مخططات تقسيمية، موجودة فعلاً أو هي تولد في سياق التطورات الحاصلة.
وأما تطورات سورية، فهي تثير مسائل متعددة في آن، يمكن البدء بتسجيل أثرها الهائل على مجمل محيطها، بحيث يصح القول إن الأمر لهذه الجهة بلا معادل! فحتى تل أبيب، عدو دمشق اللدود، تبدو متخوفة من نتائج انهيار في الموقف مجهول المدى والوجهة والنتائج. وأما تركيا فقلقة بسبب ما يقال عادة عن طول الحدود وتقاسم المشكلة الكردية. ولكن المشروع التركي لنوع من سوق اقتصادية وتنموية وسياسية للمنطقة لا يستقيم من دون سورية، وبالتأكيد في ظل سورية غير مضطربة.
ويمكن تسجيل انفتاح الموقف في العراق على كل الاحتمالات الخطرة إذا ما سادت الفوضى هناك. هذا عدا معنى ذلك على لبنان والأردن. وتلعب السلطة في دمشق بهذه الورقة ما أمكنها، مستنفرة حس المصلحة لدى كل تلك الأطراف. كما هي تلعب بورقة المثال العراقي القديم، والذي ما زال حاضراً في الوجدان السوري، على الأقل بسبب استمرار وجود مئات ألوف اللاجئين العراقيين في البلاد، وكذلك نقاط الشبه مع المثال الليبي، وهي قائمة أو يمكن الاستدلال عليها، رغم وجود اختلافات كبيرة في الوضعيات الموضوعية للبلدين والأساليب الذاتية لسلطاتهما.
ولكن ذلك كله هو أسوأ إدارة ممكنة للأزمة في سورية! فلا يمكن تسكين الموقف بواسطة التخويف مما هو أعظم من القمع والحرمان، فـ «يرضى الناس بالسخونة بدل الموت»، كما يقول المثل الشعبي. وقد أثبتت هذه المجتمعات، وهذا هو القاسم المشترك الأكبر بين الثورات الجارية، أن تلك المعادلة لم تعد قائمة، وأن شؤوناً مثل قوانين الطوارئ (التي رفعت أخيراً في سورية، ولكن بشكل متأخر وبعدما تجاوزت الحركة العامة هذا المطلب، وسالت دماء كثيرة، ونُطق بكلام بعضه شديد السخف والإثارة للحنق)، وحكم الحزب الواحد قد فات زمانها.
ولأن مأساة حماة غير قابلة للتكرار (على أمل بأن تكون تلك قناعة عامة) يجدر التفكير بالمرحلة الانتقالية السورية. تلك هي المهمة المطروحة، الجسيمة والواسعة والمعقدة، بحيث يبدو معها كل ما جرى في المنطقة حتى الآن «لعب عيال»! فإما تبلور الحركة الاحتجاجية والنظام في آن واحد، وكل من جهته بداية، ثم في مسار حواري وتوافقي، ملامح التسوية الممكنة اليوم في سورية، وإما أن البلاد بصدد الدخول إلى مجهول خطير يصعب إيجاد رابح فيه… وهذه القناعة الثانية عن الخطر والخسارة، هي ما يفترض أن يقود خطى السلطة كما الحركة الاحتجاجية، على فرض امتلاك هذه الأخيرة لبعض التماسك، وامتلاك الأولى لبعض الحكمة، أو حتى الحس بالمصلحة الفعلية. وهي مسؤولية متقاسمة، ولكنها غير متساوية. فعلى السلطة من دون شك يقع العبء الأكبر في الجنوح نحو هذا وفي إبداء حسن النوايا. يا ليت!
الحياة