الثورة بوصفها مسارا
الياس خوري
يصيب ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي قطاعات واسعة من المثقفين والمتابعين بالذهول. فالعملية التاريخية التي بدأت في تونس، تتخذ مسارات متعرجة، ويعاد تشكيلها مرات عدة.
النظام الاستبدادي المصري لم يسقط بعد، ويقظة شباب ميدان التحرير في ثورتهم الثانية، هو دليل واضح على ان مسار الثورة لم ينته في 11 شباط/ فبراير 2011، بل ان تاريخ سقوط مبارك وعائلته الحاكمة، كان منعطفاً في ثورة ستستمر فترة طويلة، قبل ان تبني مجتمعها الديمقراطي الجديد.
النظام الوراثي السوري لم يسقط بعد تسعة اشهر من الانتفاضة البطولية والدم الذي غطى المدن والدساكر. فالمسار الثوري السوري لا يشبه المسارات الثورية العربية الا في هدفه النبيل، لكنه يواجه آلة قمعية مختلفة، وحلفا اقليميا ودولياً، يحاول اطالة عمر نظام لم يعد انقاذه ممكنا.
المشهد الديمقراطي التونسي، يشير الى استقرار ما، لكن من السابق لاوانه الاجابة على الاسئلة الصعبة التي طرحتها الثورة، كعلاقة الجيش بالسلطة المدنية، ومعنى ارجحية النهضة في مجتمع مدني يحمل تراثا علمانيا…
اما في ليبيا ما بعد الديكتاتور، فالأمور غامضة وملتبسة وتطرح اسئلة عن علاقة الدولة المركزية بالأقــاليم المختلفة، وعن معنى الخطاب الاسلامي الذي اعلنه المجلس الانتقالي، ناهيك عن السؤال الكبير حول دور حلف شمال الاطلسي ووكلائه من انظمة الخليج، التي لا تستطيع تبشير الليبيين بديمقراطية لا وجود لها في امارات النفط وممالكه.
هذا من دون ان ننسى التباسات التسوية اليمنية التي رعاها المليك السعودي، والاختناق البحريني الذي جلبته قوات ‘درع الخليج’، والغموض اللبناني الذي يبدو على شفير الصراعات الطائفية المتمفصلة على الصراع الاقليمي: السعودي- الايراني، بعدما بدأ النظام السوري يتحول من لاعب الى ساحة.
وفي مقدمة الأسئلة يبرز سؤال القيادة التي انيطت بالجامعة العربية في الحالة السورية، وهي قيادة جاءت بعد الدور الذي لعبه مجلس التعاون الخليجي في اليمن، وبسبب عجز مجلس الأمن عن التحرك نتيجة الفيتو الروسي.
سؤال القيادة العربية الخليجية، هو السؤال الأبرز الذي يحيّر المراقب، لأنه يبدو كمحاولة لوضع الربيع العربي، في اطار الصراع الاقليمي مع النفوذ الايراني، ويأخذ شكلا يوحي وكأن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يقف خلف هذا الربيع، الى درجة اوحت للبعض ان الربيع العربي هو مؤامرة امريكية!
هذا الأسئلة الصعبة تأتي نتيجة واقع معقد له سمتان بارزتان:
السمة الأولى هي الانطلاقة العفوية للثورات العربية. فالثورات بدأت من دون خطة، فيها كسر الشعب الخوف واكتشف قوته بشكل تدريجي. وحين نقول ذلك، فهذا يعني ان الثورات انطلقت من دون قيادة، ومن دون طليعة ثورية منظمة. واغلب الظن ان هذه السمة تعكس ازمة الانتلجنسيا العربية، التي لم تستطع ان تبلور مشروعها البديل بعد الهزيمة الحزيرانية، فخاضت نضالات متعددة، من دون ان تصبّ في مشروع سياسي جديد، وانحاز قسم منها للديكتاتورية بحجة محاربة الاسلاميين. وفي مناخات قمع وحشي تعرضت له المعارضات العربية من قبل انظمة الاستبداد.
هذا الغياب للطليعة وللمشروع الواضح، هما سمتان مرتبطتان بعفوية الانطلاقة الثورية. لكن هذه العفوية التي فاجأت الجميع بدأت، وخصوصا مع ثورة ميدان التحرير الثانية، تتخذ سمات اكثر نضجا، وترفع مطالب واضحة، وتدخل المعترك السياسي كي تنظفه من اللغة الخشبية التي هيمنت على لغة العسكر وحليفيه الكبيرين: الاخوان والوفد.
السمة الثانية هي عجز الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عن مواجهة المدّ الشعبي الذي انفجر، وهذا واضح من خلال المواقف من الثورتين التونسية والمصرية. فبعد يأس الامريكيين من امكانية انقاذ حسني مبارك، تقرر اعتماد التحالف مع الجيش، باعتباره يشكل تسوية توحي بانتصار الثورة، ولكنها في الجوهر استعادة للحكم من خلال الثورة المضادة.
انطلاقا من هاتين السمتين يجب ان نقرأ الدورين القطري والسعودي، من دون ان ننسى بالطبع المعركة الاقليمية الطاحنة التي تخوضها السعودية مع ايران عشية الانسحاب الامريكي من العراق، والتي تتخذ لهجة مذهبية مقيتة.
لا يعني هذا التحليل ان على الثورات، وخصوصا في مصر وسورية التراجع، او التوقف، بحجة ان الرجعية العربية والاستعمار يستخدمانها. فهذا الاستخدام ممكن في حالة واحدة، هو انتصار الثورة المضادة، اما اذا استطاعت الثورات العربية في المركزين المصري والشامي هزيمة الثورة المضادة والشروع في بناء المجتمع الديمقرطي المدني، فان ذلك سيشكّل بداية مرحلة جديدة، تتجاوز هذا الاستقطاب الذي يفرضه غياب مركز عربي يقيم توازنا مع المركز الخليجي.
الثورات العربية انطلقت من حاجة عميقة الى التغيير، وهي ثورات تبني قياداتها السياسية والفكرية في العملية الثورية نفسها، وهذه مسألة لا سابق لها في المنطقة وربما في العالم.
لا وجود لنموذج يمكن تقليده، ولا مفر من الخوض في وحل التاريخ. وربما كان الدرس الأول الذي تعلمنا اياه الثورات هو ان الثورة ليست حدثا، بل هي مسار طويل، وهذا ما يميزها عن الانقلاب العسكري الذي اعتادت عليه الذاكرة السياسية العربية.
والمسار يتطلب بناء ثقافة جديدة، تتخلى عن تعالي الطليعة، وتتأسس في التواضع والصلابة والتماهي مع ميادين الثورة وشوارعها. دماء غياث مطر ومينا دانيال ورفاقهما، هي الدليل وهي البوصلة.
هذا التأسيس لا يعني تأجيل الأسئلة الصعبة او تجاهلها، بل يعني البحث عن الأجوبة في ارض المعركة، وبهدف واحد هو ازالة كابوس الأنظمة الاستبدادية، كشرط لبناء افق عربي جديد.
القدس العربي