الثورة.. هكذا تُسرق من السوريّين/ غالية شاهين
قتيبة المحمود (اسم مستعار) ضابط مهندس، خريج الأكاديمية العسكرية في حلب. انشق عن قوات النظام قبل أن يتسلم شهادته. يروي لـ “العربي الجديد” تجربته المرّة قبل خروجه من سورية واستقراره في تركيا من دون أوراق ثبوتية ومن دون عمل يؤمن له لقمة عيشه.
يسترجع المحمود شريط تلك المرحلة المثقلة، فيقول: “مرت سنة ونصف السنة على الثورة، قبل أن أكتشف حقيقة ما يجري. كنا مغيبين، تماماً، عن المشهد، ومنعنا من الإجازات وأجبرنا، يومياً، على الاستماع إلى نشرة سياسية تتحدث عن صمود الجيش وانتهاء الأزمة وانكسار العمود الفقري للإرهاب على عتبات سورية”. يضيف، أنهم كانوا ملزمين على “مشاهدة أشرطة مصورة تحوي مشاهد لعسكريين مقتولين وآخرين يتعرّضون للتعذيب، مع لقطات لحارات وأحياء مهدمة بالكامل بعدما استهدفها الإرهابيون. في ذلك الوقت، كنت أعتقد أننا نحمل رسالة حقيقية وسامية لحماية المدنيين من تلك العصابات الإرهابية”.
بقي المحمود شأنه شأن كثيرين، مقتنعاً بأنه يقوم بواجبه المقدس، إلى أن استطاع أخذ إجازة غير نظاميّة التقى في خلالها بقريب له يقطن في حلب وأمضى معه أسبوعاً غيّر في خلاله قناعاته ورؤيته للأحداث. بالتالي تغيّر مجرى حياته.
يخبر: “التحوّل الأساسي في طريقة رؤيتي للأمور كان بمساعدة بعض الأشخاص من خارج المجتمع العسكري المغلق. لكن الأمر لم يكن سهلاً. وكانت الخطوة الأصعب هي الجرأة على نسف الأفكار والقناعات القديمة، والنظر إلى الأمور من زاوية أخرى. ففي خلال ذلك الأسبوع عرفت الكثير مما كنت أغفله”. يضيف: “كانت المرّة الأولى التي يتاح لي فيها متابعة قنوات مختلفة عن قنوات النظام، والمرة الأولى التي أسمع فيها أغاني الثورة. كذلك كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها على هواتف أصدقائي الخلويّة، تسجيلات لتظاهرات حقيقية كانوا هم أبطالها”.
ويتابع: “قضيت في الخدمة شهراً قاسياً بعد تلك الإجازة. مقاتلو الجيش الحرّ كانوا على بعد شارع واحد منا، وكان بعضهم يصرخ، وهو يقرأ رقم جواله، طالباً منا الاتصال به لو أردنا الانشقاق. فسجلت حينها أرقام ثلاثة منهم، لكنني لم أجرؤ على الاتصال، خشية من أن يخلفوا بوعودهم. تمكنت في النهاية من الحصول على رقم صديق لي كان قد انشق عن قوات النظام قبل نحو شهرَين، وكان يسكن في ريف حلب. فاتصلت به وطلبت المساعدة. لقد كنت خائفاً من الموت في ذلك المكان القذر”.
في العاشر من فبراير/شباط 2013، استطاع المحمود الانشقاق عن جيش النظام ليتوجه مباشرة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في ريف حلب، حيث استقبل استقبال الأبطال. ويقول: “كانت الأيام الأولى حافلة جداً. فقد أرادوا جميعهم التعرّف على الضابط الدرزي الذي انشق عن النظام، وصار في مناطقهم. فكان الأمر يشعرني بالفرح حيناً وبالحزن أحياناً. فأنا لم أترك الجيش حينها بصفتي درزياً ولا لأن النظام يقتل السنّة في سورية، بل انشققت عن الجيش لأنه بجميع طوائفه يستبيح دماء السوريين بجميع طوائفهم”.
ثمانية أشهر قضاها المحمود في ريف حلب. لم يلقَ في خلالها أي إساءات من أحد، بل كان موضع ترحيب من جميع أهالي المنطقة الذين بات يعرف أسماءهم وأسماء عائلاتهم وتفاصيلها. يقول المحمود: “الشعب السوري بشكل عام هو شعب طيب القلب، خصوصاً أهالي الريف. فهم أشخاص ملتزمون بدينهم من دون تعصب، يحبون الضيف وجلسات السمر في آخر الليل، وهم كرماء، يعشقون ويمرحون”.
في خلال هذه الأشهر، بدأت بعض ملامح الثورة في تلك المناطق بالتغيّر تدريجياً. وبدأ المحمود يخشى الأيام المقبلة. فيقول: “مع بداية شهر سبتمبر/أيلول من ذلك العام، كانت الفصائل المقاتلة المتشددة قد بدأت تظهر وتكبر. فراح تنظيم جبهة النصرة ينتشر في المنطقة بشكل كبير، بينما كان تنظيم داعش لا يزال في بداياته. في هذه الفترة، كنت أقيم في غرفة ملحقة بأحد الجوامع، وكان الجامع قد بدأ يأخذ طابعاً جهادياً أكثر. ففيه كان يقيم عدد من عناصر حركة أحرار الشام بشكل دائم، لتتبعهم مجموعة من النصرة من بين عناصرها أمير لم أستطع تحديد البلد الذي جاء منه. لكن طريقة كلامه كانت تشير إلى أنه قد يكون كويتياً. كنت أصلي معهم حينها، وكنا نتناول الطعام معاً. ولم أكن أخفي هويتي عن أحد. الجميع هناك كان يعرف من أنا”.
لكن بعدما عرف أمير النصرة الكويتي أن المحمود من الطائفة الدرزيّة، فاجأه بوضعه أمام خيارَين: “إما أن تشهر إسلامك الصريح أو أن تصبح عدواً يحلل قتله في أي لحظة. فوجود شخص كافر في الجامع أمر مرفوض بإجماع الأئمة”. فلم يكن أمامه إلا إشهار إسلامه. ويخبر: “جمع الشيخ الموجودين في الجامع، وحدثنا قليلاً عن الإسلام والطوائف الأخرى قبل أن يسألني إن كان قراري بدخول الإسلام هو عن قناعة أم أن أحداً أجبرني. فأجبته: بل هو عن قناعة. بعدها، ردّد الشهادتين ورددتهما من بعده، ثم طلب من الحاضرين أن يباركوا لي. أيقنت حينها أن ثورة السوريين بدأت تسرق منهم، وأنني لم أعد بأمان بين هؤلاء الغرباء. وفي أسبوع، حزمت أمتعتي وتوجهت إلى تركيا”.
العربي الجديد