صفحات الرأي

الحاجة إلى يسار عربي جديد


روجر أوين *

يعدّ غياب اليسار العربي أحد أبرز وجوه الانتفاضات العربية. صحيح أنّ بعض اليساريين كانوا موجودين بين الثوّار الشباب إلا أنّ عددهم بقي محدوداً وبدوا منقسمين باستثناء تونس ربما التي تملك روابط هزيلة بالمنظمات العمّالية مثل الاتحادات العمّالية. فضلاً عن ذلك، كانوا يؤدون دوراً علمانياً في وجه الأحزاب والحركات الدينية بدلاً من أن يطلقوا فكراً جديداً حول المسائل السياسية والاقتصادية المعاصرة. ويبدو غياب تأثيرهم على كافة الصعد واضحاً لا سيّما أنّ الأنظمة الجديدة التي نشأت في بلدان مثل مصر وتونس بدأت تواجه مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة قد تستوجب بحسب عدد كبير من الأشخاص إعداد خطط على المدى المتوسط والطويل، علماً أنّ هذه العملية كانت مألوفة بالنسبة إلى اليسار القديم في عهد جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة.

أما أسباب هذا الغياب فمعروفة. من جهة، تمّ بسرعة كبيرة إدخال معظم أعضاء اليسار القديم ضمن الأنظمة الثورية التي قامت في الفترة التي تلت الاستقلال وتطبيق سياساتهم القائمة على إصلاح الأراضي وتأميم الصناعات الأساسية، فنفذت منهم الأفكار أو السياسات التي يجب الترويج لها. وتمّ اعتبار البعض الآخر شيوعياً بسبب روابطه بالاتحاد السوفياتي وخوفاً ممّا وصفوه بكفاياته العالية على صعيد تنظيم التظاهرات الشعبية المعارضة في الشارع.

كما أضر بعض اليساريين بذاتهم لا سيّما أنّ عدداً كبيراً منهم كان شعبوياً لكن مناهضاً للديموقراطية وبطيئاً في الانضمام إلى المجموعات التي دعت إلى فرض الديموقراطية وإلى احترام حقوق الإنسان في التسعينات. كما كانوا عاجزين عن التفكير بطريقة مبتكرة في سبل لجعل القطاع العام أكثر حيوية وتنافسية ولتعزيزه خلال فترة الانفتاح أي حين كانت صناعات الدولة تواجه خطراً جرّاء الضغوط التي مورست لاعتماد خصخصة شبيهة بالنموذج العالمي. وتمّ طرح هذا الموضوع في ظلّ موجات التسريح من العمل المرتبطة به فضلاً عن الإشارة إلى ضرورة إيجاد طرق لجعل هذه الصناعات أكثر فاعلية من خلال الاتصال بالعمّال في منشآت الحديد والفولاذ الأخرى المهدّدة والأكثر فاعلية في بلدان مثل الهند والصين.

في هذا الوقت، واجه اليسار مشاكل عدّة بسبب التغيّرات الاجتماعية التي شهدها الشرق الأوسط ومعظم أنحاء العالم. فقد ولّى على ما يبدو زمن الناخبين القدامى من عمّال وفلاحين. وعلى رغم أنه يصعب تأكيد ذلك نظراً إلى غياب الأبحاث المناسبة حول التغيّرات الكبيرة التي حصلت في الريف في عهد أنظمة مبارك وبن علي الديكتاتورية، يبدو أنّ الفلاحين لم يعودوا موجودين بل حلّت مكانهم مجموعة من المزارعين العاديين والعمّال الذين لا يملكون أراضي والأشخاص الذين يعملون في القرى المجاورة، علماً أنّ ذلك يختلف تماماً عن الحاجات السياسية. أما في ما يتعلّق بالعمّال، فمن غير المرجح أن يتمّ توظيفهم في المنشآت الصناعية الكبرى لا سيّما أنهم منقسمون حول مسائل عدّة.

ثمة حاجة إذاً إلى طرح سياسات جديدة وإلى إيجاد طرق جديدة لمعالجة المسائل الضاغطة لا سيما تلك التي تفرضها العولمة إلى جانب إيجاد توازن جديد بين القطاعين العام والخاص والتفكير في ما الذي يجب فعله بالاحتكار الذي خلفه الرأسماليون الفاسدون خلال عهدي مبارك وبن علي. وفي ظلّ وجود ناخبين جدد محتملين، من المرجح أن يبحث اليساريون عن دعم القطاع العام لا سيما مع تقلّص فرص العمل بالنسبة إلى العمّال العرب في أوروبا والخليج. ويأمل البعض في أن يترافق ذلك مع سعي إلى التنافس والممارسة الأفضل القائمة على خطط محدّدة من أجل تعليم العمال وتدريبهم على العمل كما هو الحال في نموذج تعلم الصنعة المعتمد في ألمانيا.

حان الوقت كي تجلس الحكومة والموظفون والعمّال معاً لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر من أجل مناقشة الميزة التي يتمتّع بها البلد مقارنة ببلدان أخرى، ليس في ضوء الفرص العالمية فحسب بل في ظل العوائق الجديدة المفروضة جرّاء تقليص إمدادات مياه نهر النيل. هذا هو الأهم لا سيّما أنّ مراكز أخرى قد تبرز ربما على صعيد الرئاسة أو مجموعة المنظمات غير الحكومية في ظلّ العودة إلى السياسة الانتخابية التنافسية والتركيز على الربح على المدى القصير، لتركز على التفكير في الحاجات على المدى الطويل مثل التنافسية والتدريب والنظام التربوي الإصلاحي على أن يتمّ إدخالها في إطار مجموعة جديدة من الخطط على مدى خمس سنوات.

كما ان ثمة مسألة التوافق الوطني المصري الذي يعتبره صندوق النقد الدولي شرطاً أساسياً لمنح البلد قرضاً بقيمة 3 بلايين دولار علماً أنه يعدّ ضرورياً لتحسين الاقتصاد. ويجب أن يؤدي اليسار الجديد دوراً مفيداً في سدّ الفراغ بين الأشخاص الذين يخشون الاعتماد على المنظمات الاقتصادية الدولية والأشخاص الذين يذكرون الدور الحيوي الذي أدته المساعدة الأجنبية خلال سنوات حكم عبد الناصر.

كما ثمة حاجة إلى يسار ذكي. يمكن إعادة اختراع الصناعة والدليل على ذلك النجاح الذي حققته شركة فورد لصناعة السيارات في أميركا. إلا أنّ ذلك بحاجة إلى ائتمان وإلى تخطيط وإلى إرساء عدد من ممارسات العمل الجديدة. كما يجب دعم ذلك بأفكار وأبحاث نابعة من الصحف ومن منظمات الأبحاث التي تُعنى بالترويج للأجندة السياسية والاقتصادية اليسارية الجديدة بالتعاون مع الأعضاء في الحركات الدينية الذين يتشاطرون التطلعات العملية نفسها في ما يتعلق بالاقتصاد والإصلاحات الاجتماعية. وستكون المساعدة الفكرية الدولية مهمّة لا سيّما من قبل أعضاء اليسار الأوروبي الذين يرغبون في أن ينتقلوا من مجرّد متفرجين متحمسين على الثورات الشرق أوسطية إلى مشاركين أكثر فاعلية فيها.

* اكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى