الحرب ندبةٌ فوق مقاعد الدراسة في سوريا/ أيمن الشوفي *
غادر “الكاكي” هندام الطلبة السوريين منذ العام 2004، تخفّفت بدلاتهم المدرسية من أحمال اللون العسكري لتصير ألوانها وفق تدرّجات الأزرق بحسب المرحلة الدراسيّة. كما لم تعد حصص التربية العسكرية الصارمة تدك مداميك ساعات دراستهم. لقد عاش جيلهم سنواتِ الوفرة التكنولوجيّة، تلك التي دبّجت حياتهم باستهلالاتٍ استهلاكية لم تعرفها أجيالٌ سبقتهم.. حتى جاءت الحرب فأعادت الشرط العسكري إلى حياتهم. لم تُدخلهُ هذه المرّة بلون البدلة المدرسيّة، وإنما منساباً من أبواب العنف المشرَّعة. المدرسّون يؤكّدون نمو ظاهرة العنف لدى طلبة المرحلة الثانوية منذ عامين بصورةٍ غير مسبوقة، فيما تتقاعس الإحصاءات الرسمية عن الإحاطة بمسار الظاهرة، وكأنها تتبرّأ من الاعتراف بها كأحد المعطيات الاجتماعية الجديدة للحرب.
أدوات العنف معروضة للبيع
يصيب مارسيل موس عالم الاجتماع والأنثربولوجيا الفرنسي عندما يصف الحرب بأنها “حدث اجتماعي شامل”. ظاهرة تملأ المجتمع بيقينٍ غير مألوف، قادرٍ على مراوغة كلّ أشكال الأمان المتبقّية. في سوريا دمغت الحرب يوميات الطلبة المراهقين كما دمغت يوميات سواهم، استمالتهم إلى تجريب العنف كخيار يطوّق أفعالهم القصديّة، فينحو بها إلى مفترقات الصدام الجسدي القاسي، ومداهُ يُقاس هنا بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الحادة التي أنبتتها الحرب في الحياة الواقعية، ثم في مثالب التفكير الواعي المرافق لها، وخشب مقاعد الدراسة لم يقتصد من محددات نمو السلوك العنيف، فأخضعهُ التغيير الاجتماعي المصاحب للحرب إلى قوّته، وربطهُ بالمفاهيم الجديدة الناشئة المتصلة بالقوة والسلطة والصراع ورفض الآخر وإلغائه، عدا عن التداخلات التي صاغها الفقر والبطالة والمزاج العام السوداويّ، بحيث بات عنف الطّلاب في المرحلة الثانوية يتجاوز الميل الفردي الذاتي للعنف، ليتطابق أكثر مع الشرط الموضوعي له.
لم تبخل الأرصفة خلال الأعوام الماضية على العوام بشيء، حتى أنها باعتهم الأسلحة البيضاء، وضعت في متناول الجميع مدياتٍ بنصالٍ حادة مختلفة الأحجام، وأجهزة صعق كهربائي، بعضها دخل حقائب الكتب للطلاب وصار يرافقهم إلى مدارسهم. وهذا لم يكن بغفلةٍ من السلطة التي أرادت لمنطق الحرب أن يتعمّق في نسيج الحياة اليومية، فكانت تغض النظر عن بيع مثل تلك الأسلحة، وتتفادى الخوض في تبعات ذلك. يستحضر ذلك نظرية “الاختلاط التفاضلي” للعالم الأميركي “سذر لاند”، من أن العنف سلوكٌ يتعلمه الفرد من خلال محيطه الاجتماعي. نستطيع ربط اكتساب الفعل العنفيّ بالتعلم والملاحظة وتقليد البيئة المحيطة. المدرسة في سوريا كما في غيرها، تتيح تعلّم نماذج سلوكية متعددة، واختبارها واقعياً، فيما يثقّل ظلّ الحرب أشكال السلوك والتواصل عامةً، ويرفع منسوب العنف المتوقع، وهذا ليس بالبعيد عن تصورات عالم الاجتماع الكندي الشهير “ألبرت باندورا” صاحب نظرية التعلم الاجتماعي حين بحث أنواع السلوك التي يمكن أن يتعلمها الإنسان من خلال ملاحظتها لدى الآخرين، وهذا تعلّم عفوي، وهنا المشكلة، إذ أن تعلّم السلوك العنيف وفق هذه النظرية يصير مندمجاً بمحددات عملية حتمية لا لبس فيها.
الحل تربويّ لا بوليسيّ
غالباً ما تعجز الإدارات المدرسية في سوريا بمفردها عن فض الاشتباكات الدموية التي قد تنشب في أيّة لحظة، وبلا سببٍ مقنع. معاركٌ تأخذ طابعاً جماعياً، يستخدم فيها الطلاب الصنوف المتوفرة من الأسلحة الحادة، يخرجونها على عجلٍ من حقائبهم المدرسية، ويندمجون في قتالٍ شرس. وهذا لم يكن مألوفاً قبل عامين على الأقل. تحضر الشرطة على عجالة بطلبٍ من إدارة المدرسة، تنظّم محضراً بالواقعة، وتقود على خلفيته الطلبة إلى القضاء، بعضهم تقودهُ سيّارات الإسعاف إلى غرف العناية المشددة في المستشفيات الحكومية القريبة، يسمع جميع الطلبة بذلك، ولا يرتدع أحد، ما هي إلا أيامٌ حتى يتكرر العنف مجدداً في المدرسة نفسها، أو في مدرسة أخرى.
ثم إنّ مفاعيل الإحباط العام المتنامي في سوريا خلال سنوات الحرب قد رعت نمو العنف وأشرفت عليه، وما عنف الطلبة إلا جزءٌ منظور من العنف العام المستشري في لحم البلاد المحبطة، وقد وصف عدد من العلماء الإحباط بالمثير واعتبروا أن العدوان بمثابة الاستجابة، مؤكدين في نظريتهم تلك أن الإحباط ينخفض بعدما يُلحِق الفرد الأذى بالآخرين.
كما ليس صائباً الجزم بتماثل ظاهرة العنف بين الطلبة السوريين في كل المحافظات، وفي كل المدارس، والقول بأنها واحدة. المسألة نسبية هنا، تخضع إلى متغيرات وحوامل ذاتيّة. فالعنف المرصود في العاصمة دمشق أقل منهُ في ريفها بحسب المشاهدة المباشرة (تغيب الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية هنا)، فيما تزداد وتيرة القصص المتناقلة عن العنف بين الطلبة في جنوب سوريا مقارنة بالعاصمة على سبيل المثال.. لكنّ استقدام العنف إلى سلوك الطلاب السوريين يكاد يتشابه في أسبابه الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية وما استجد منها بعد العام 2011.
تصدير العنف تلفزيونيّاً
كثرت الأبحاث حول العنف المقدّم تلفزيونيّاً وأثره في المدرسة، وأهم نتائجها أنّ التعرّض لمشاهد العنف المقدّمة في التلفزيون يكون له آثار سيكولوجية مباشرة، وكأن التعرّض للعنف قد تمَّ واقعيّاً.
وهذا يُدخل عنف الطلبة السوريين في خانة التأثيرات السيكولوجيّة البالغة، ذلك أنهم يشاهدون عنفاً واقعياً تستجير به الحرب لتؤكد هويتها، لا أنهم يشاهدون عنفاً دراميّا تصنّعه “هوليود” أو سواها. يطالعنا “دينر آني” في كتابه الشهير “بيئة الطفل” بأن الهندسة المعماريّة للمدارس هي من الأسباب المساندة لتوسّع دائرة العنف، واللافت هنا أن الهندسة المعمارية للمدارس السورية تُظهرها منبسطة بغرفٍ متجاورة، من طبقة واحدة أو من طبقتين، موحّدة اللون تقريباً، تفتقر للمساحات الخضراء، بذلك تبدو أقرب إلى السجن منها إلى المدرسة بمعناها الرحب والملوّن. وهذا التشابه يضمر مقداراً من استبطانٍ العنف أيضاً، الذي أخذ طابعاً دموياً خاصة خلال العامين الماضيين.
الحرب ليست وحدها مَن استخرج العنف من حنايا سلوك الطلاب المراهقين. ثمة أيضاً أسبابٌ سبقتها إلى ذلك. فالمدرسة التي تشاطر المنزل تربية الطالب، تظهر في سوريا أيضاً كئيبة، قليلةَ الوسائل الترفيهيّة، لا تجامل إنسانيّة الطالب، بل ترغمهُ على المجيء إليها، لا حصصَ موسيقيّة فيها، ولا ألعاب رياضيّة، ولا حتى أنشطة ترفيهيّة. لقد استبدلت المدارس لون “الكاكي” المستمد من عقيدة حزب البعث، وأبقت على سواه من ممارساتٍ ومسالكٍ تربويّة رتيبة تجعلمن المدرسة في سوريا مكاناً لا يطاق.
التدقيق في وجه العنف
لا يمكن قبول أن حالة العنف لدى الطلبة السوريين، خاصة من هم في المرحلة الثانويّة، حيثيّة مسطّحة، فمتغيّراتها عديدة، ما يجعل منها ظاهرة مركّبة.
نعاين إذاً كل هذا العنف، وكأننا نسابقهُ لنتعرّف إليه، نكتشف استطالاتهِ من أوجهه الممكنة، نراهُ يعصفُ هنا، ويدفع بحيواتٍ عديدة هناك إلى مدارات الإرباك والتشظّي. نخشى من أن يصير العنف رداءً يرتديه الجميع بلا قصدٍ منهم وبلا انتباه.
* صحافي من سوريا
السفير العربي