صفحات العالم

الحل العربي الوحيد الممكن لسورية


د. بشير موسى نافع

في عرف وزير الخارجية الروسي، يعتبر الموقف الغربي من سورية موقفاً غير أخلاقي. مشكلة الوزير، الذي تثار حول انتخابات بلاده البرلمانية الشبهات، والذي خاضت حكومة بلاده حرب إبادة قبل سنوات في شمال القوقاز للقضاء على الجماعات القومية المتمردة على حكم موسكو، أن الدول الغربية تدين العنف الذي يمارسه النظام السوري ضد شعبه وتتجاهل في الوقت نفسه العنف الموجه ضد النظام. بعد تسعة شهور من اندلاع الثورة السورية، ثمة عنف متبادل في سورية الآن.

هذه مسألة لم يعد من الممكن إنكارها. ولكن افتراض التكافؤ بين عنف الدولة وعنف معارضيها، سواء من حيث الأسباب والدوافع أو من حيث الدرجة والأهداف، هو افتراض زائف ومضلل. كان على وزير الخارجية الروسي، ومن يتحدثون بلغته ويتبنون خطاباً مشابهاً، أن يتذكروا أن شهوراً مرت على الثورة السورية كان فيها العنف من جانب واحد، جانب النظام، وكان فيها القتلى والمصابون من جانب واحد، جانب الشعب السوري.

طوال تلك الشهور، لم تسمع إدانة صريحة واحدة للنظام، لا من الخارجية الروسية ولا من أنصار النظام الآخرين، الذين يحزنهم اليوم ما يسمى ‘عنف الجانبين’ في سورية. وهذا ما يستدعي السؤال حول حقيقة الدوافع خلف لغة إدانة عنف الطرفين المتصاعدة.

التطور الرئيسي في الأزمة السورية اليوم هو حركة الانشقاق المتسعة عن صفوف الجيش السورية. كانت الانشقاقات في البداية صغيرة ومحدودة، واقتصرت في أغلب الأحيان على الجنود وضباط الصف وعدد قليل من الضباط الصغار.

ما نشهده في الأسابيع القليلة الماضية هو انشقاقات كبيرة، تعد بعشرات ومئات الجنود، وتضم ضباطاً من كافة المراتب العسكرية، بمن في ذلك ضباط كبار. صحيح أن حركة الانشقاق عن الجيش العربي السوري تقتصر في أغلبيتها الساحقة على الجنود والضباط السنة، وأن أولئك الذين التحقوا بالجيش السوري الحر هم كلهم على الأرجح من السنة. ولكن هذه الظاهرة قد لا تستمر طويلاً، سيما إن اتضح عجز قوات النظام عن إيقاف حركة الانشقاق ومحاصرة الدور الذي تقوم به مجموعات الجيش الحر لحماية المتظاهرين وأحياء المدن الثائرة. هذا المتغير، الذي يتجلى في بروز الدور الذي تتعهده مجاميع الجيش الحر في مختلف أنحاء البلاد، من حمص وإدلب إلى درعا، ومن ريف حلب إلى دير الزور، في مواجهة قوات الأمن وميليشيات النظام ومنع أو تعطيل مساعيها لإخماد الحراك الشعبي والاعتداء على الممتلكات، هو السبب الرئيسي خلف القلق المتزايد في صفوف النظام وأنصاره.

وبالرغم من الاحتمالات المتعددة التي يحملها هذا التطور لمستقبل الثورة السورية، فليس ثمة شك أنه يعيد التوكيد على عجز النظام عن إخماد رياح الثورة، بعد أن عجز طوال شهور من القمع الدموي عن محاصرة الحراك الشعبي ومنعه من الاتساع.

أحد الاحتمالات التي يحملها بروز دور الجيش الحر هو بالطبع أن تصل حركة الانشقاق إلى انهيار أداة النظام العسكرية أو إضعافها إلى حد كبير، بحيث يصبح من الممكن أن تتصاعد الحركة الشعبية، حجماً وجغرافية، إلى أن تؤدي في النهاية إلى سقوط النظام.

ما يتضح في سورية، كما سبق أن اتضح في معظم دول أوروبا الشرقية في مطلع التسعينات، وعدد من الدول العربية التي خاضت تجربة التغيير في الشهور القليلة الماضية، أن المؤسسة الأمنية، مهما بلغت من عدد وعدة ووسائل، لا يمكن أن تصمد طويلاً أمام ثورة شعبية. المؤسسة العسكرية هي جدار أنظمة الاستبداد الأخير وهي أداته الصلبة في مواجهة شعبه، وعلى نمط سلوكها وتصرفها يعتمد مصير الثورة. وكلما كان الانحياز للجيش السوري الحر أكبر، كلما اقتربت لحظة انهيار النظام وانتصار الشعب. ولكن مخاطر انهيار الآلة العسكرية لا تقل عن الوعود التي يحملها هذا الانهيار. فسورية دولة مواجهة عربية، ومهما كان سجل الجيش العربي السوري في الشهور التسعة الماضية، فسورية في حاجة ملحة للحفاظ على مقدراتها العسكرية بعد انهيار النظام وتولي الشعب مقاليد أمره. سورية الحرة لن تغادر جغرافيتها، وستترتب على الدولة السورية الجديدة من المسؤوليات ما يتطلب أن تحافظ البلاد على مستوى ضروري من الاستعداد العسكري لإيقاف من تسول له نفسه باستغلال فترة الانتقال القلقة. ومن الصعب في مثل هذا المناخ من العنف الهمجي الذي تمارسه أجهزة النظام توقع المصائر التي يمكن أن يفضي إليها انهيار آلة النظام العسكري فيما يتعلق بمقدرات الجيش السوري، خاصة الأسلحة التقليدية المتطورة منها، إضافة إلى سلاح الجو. في حالات سابقة، مثل الثورة الإيرانية في 1979، ورث النظام الثوري الجديد المقدرات العسكرية للنظام السابق كما هي تقريباً، نظراً لأن فترة انهيار الآلة العسكرية لنظام الشاه وشللها كانت قصيرة جداً.

الاحتمال الثاني أن تصل حركة الانشقاق إلى سقفها بدون أن تؤدي إلى انهيار أو شلل آلة النظام العسكرية، وأن يسعى الجيش السوري الحر إلى تعويض الخلل الكبير في ميزان القوة باللجوء إلى تجنيد أعداد كبيرة من المتطوعين؛ بمعنى تسارع عجلة تسلح الشعب السوري في مناطق الثورة الرئيسية، التي تتعرض لهجمات مستمرة من قوات النظام وأجهزة أمنه. سينجم عن مثل هذا التطور تصاعد مطرد في معدلات العنف المتبادل. ولأن للأزمات منطقها الخاص، الذي سرعان ما ينفصل عن إرادات أطراف الأزمة الفعالة، فليس من المستبعد أن يتحول هذا العنف إلى عنف أهلي واسع النطاق. نظام يسيطر على مقدرات سورية منذ أربعة عقود لا يمكن أن يكون بلا أنصار، وبأعداد ملموسة، يقاتلون دفاعاً عن بقاء النظام بدوافع طائفية أو مصلحية، أو خشية من حساب محتمل على سجل ثقيل الوطأة. هذا هو الاحتمال الأكثر خطراً على مستقبل سورية والثورة السورية، ليس فقط لأنه الاحتمال الذي يستبطن انقساماً أهلياً، سيصعب تجاوزه حتى بعد مرور سنوات عديدة، بل لأنه أيضاً الاحتمال الذي يفتح أبواب سورية للتدخل الخارجي.

ثمة جدل كبير، داخل سورية وخارجها، يدور الآن حول سيناريوهات التدخل الدولي في الأزمة السورية، جدل يطلقه النظام وأنصاره، وآخر تطلقه بعض الشخصيات المعارضة.

الحقيقة التي لا يجب تجاهلها في تقدير الموقف من الأزمة السورية أن طرفاً إقليمياً أو دولياً لم يقرر حتى الآن، ولا يبدو أنه يستعد، للتدخل العسكري المباشر في الشأن السوري؛ لا الأمريكيين ولا الأتراك ولا أيا من الدول الأوروبية الرئيسة، بالرغم الشائعات والتوقعات المتداولة.

الأسباب خلف هذا الإحجام عن التدخل العسكري المباشر عديدة، ولكن السبب الأهم أن الثورات الشعبية لا يجب أن تستدعي أصلاً تدخلاً عسكرياً دولياً. ما تبقى من سيناريوهات التدخل يتعلق بدعوة المجلس الوطني السوري المجتمع الدولي للقيام بواجبه في حماية المدنيين من القتل اليومي ووحشية أجهزة النظام الفاشستية.

هل ثمة طريقة لحماية المدنيين بدون تدخل خارجي عسكري؟ وهل يمكن بالفعل التوصل إلى توافق دولي على هذه الطريقة؟ هذه على الأرجح بعض من الأسئلة التي تتداولها الأطراف المعنية الآن، والتي لا يبدو أن من الممكن التوصل إلى إجابة سريعة عليها.

اندلاع حرب أهلية هو شأن آخر مختلف تماماً؛ إذ أن انحدار الوضع السوري نحو هذا الاتجاه، سيدفع العديد من الأطراف للتدخل بدون أن تضطر إلى التعامل مع هذه الأسئلة، ابتداء من دول محيط سورية العربي، من تركيا وإيران، وصولاً إلى أطراف دولية تسعى لتعزيز نفوذها في سورية ما بعد النظام والحرب الأهلية.

ووسائل التدخل في الحروب الأهلية لا تعد ولا تحصى، كما أظهرت الحرب الأهلية اللبنانية من قبل. ولأن سورية مفتاح الشرق وفي القلب منه، فإن عدد المتدخلين قد يفوق كل تصور. وتعود سورية مرة أخرى، ولسنوات طويلة ربما، إلى مجرد ساحة لصراعات القوى، بدون أي دور أو فعالية تذكر. هذا، إن لم تؤد الأزمة السورية حينها إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، يتداخل فيها الطائفي والقومي، والمطامع والمثل.

بالرغم من أن أحدهما قد يقل سوءاً وخطراً عن الآخر، لابد أن يطلق كلا الاحتمالين مخاوف عربية جمة، وأن يحمل العرب مسؤوليات مضاعفة تجاه سورية والشعب السوري.

وليس ثمة شك، بالرغم من اتهامات النظام المتكررة، أن الدول العربية لا تريد لسورية أن تنتهي ساحة للتدخل الأجنبي أو أن تخرج، لزمن طال أو قصر، من معادلة القوة العربية والإقليمية. ولكن التحرك العربي حتى الآن لم يصل بعد إلى مستوى المخاطر التي تستبطنها الأزمة السورية أو المخاوف التي يمكن أن تنجم عن تفاقمها.

من أجل حل عربي جاد وفعال، لابد أن ترى الدول العربية حجم العنف الهمجي الذي أطلقه النظام ضد شعبه طوال الشهور التسعة الماضية، وأن ترى تصميم النظام على المضي في طريق مغالبة شعبه بدون أي اعتبار لمسؤولياته أو للقيم المتعارف عليها في عالم اليوم. لابد أن تدرك الدول العربية أن هذا النظام قد فقد كل شرعية ممكنة لأي حكم حديث، وأن من المستحيل أن يستمر في السيطرة على شؤون سورية والشعب السوري.

الحل العربي الوحيد الممكن للأزمة السورية لم يعد البحث عن كيفية عقد حوار بين النظام والمعارضة، بل تهيئة الظروف لبدء مفاوضات جادة وسريعة حول أسلم وأقصر وأنسب الطرق لانتقال السلطة إلى حكومة تمثل الشعب السوري وتعكس إرادته. بهذا فقط يمكن حماية سورية، وجوارها العربي، من الخطر، والحفاظ على دور سورية من الانهيار.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى