الخريف العربي الطويل
يوسف بزي
قيل أن “انتفاضة الاستقلال” اللبنانية (ربيع 2005) لم تعمّر سوى أربعة أشهر على الأكثر. بعد ذلك وحتى اليوم، الثورة المضادة هي التي هيمنت، وأطبقت على لبنان، تحت التهديد بإشعال حرب أهلية مدمرة، يفرضها طرف مسلّح، ومعتصم بقوته، على أولئك الذين شكّلوا “رأياً عاماً”، وانتخبوا مرتين ممثّلي “انتفاضة الاستقلال”.
قيل أيضاً أن تلك الانتفاضة ليست سوى يوم واحد، 14 آذار 2005، بعده تفرّق الذين صنعوا المشهد والصورة والحدث والخطاب، وتبدد إنجازهم، ووهنت عزيمتهم، وارتدّوا الى ما كانوا عليه طوائف ومذاهب وعصبيات.. فيما الثورة المضادة توسّعت واستتب لها الأمر، من غير عناء، طالما أن اللبنانيين عادوا هكذا فرقاً وشيعاً متنابذة ومتوجّسة من بعضها البعض.
صحيح أن لا حسم للمعركة الدائرة منذ سنوات عديدة، لكن الصحيح أيضاً أن أهداف تلك الثورة المؤجلة، ستبقى كذلك لسنوات أكثر. وربما سيتمدد التأجيل لعقود. وهذا بحد ذاته هو الطموح المتحقق للثورة المضادة. وبمعنى آخر، سيبقى لبنان من دون وجهة يذهب إليها، مراوحاً مكانه، لكن كمن يمشي في قاع بئر.
يقال أيضاً أن الثورة المصرية دامت أقل من ثلاثة أسابيع، فمن اندلاعها يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2011 إلى تنحّي الرئيس مبارك يوم 11 شباط (فبراير)، احتشد المصريون في ساحات وشوارع وميادين مدنهم لمدة 17 يوماً ونجحوا في إسقاط رموز النظام.
لكن منذ ذلك الحين وحتى اليوم، تعاظمت قوى الثورة المضادة، مستولية لا على النظام والحكم والإدارة فحسب، وإنما على بنى الدولة ذاتها وعلى الفضاء العام للبلاد. فمن وصاية المجلس العسكري، سليل انقلاب عام 1952، إلى تمكين حزب الإخوان المسلمين من السلطة “ديموقراطياً”، تم الإنقضاض على الثورة ومصادرتها، فيما كانت كتابة الدستور بمثابة الختم بالشمع الأحمر على مشهد ثورة “يناير”، بما احتواه من مواد تناقض تماماً كل أهداف الثورة، بل وترتدّ حتى على ما كان “تقدمياً” في الدستور السابق، الذي كان بدوره ارتداداً على الدساتير المصرية الأسبق.
منذ شباط 2011 وحتى اليوم تصارع قوى الثورة من أجل الاستمرار، والعودة بالمصريين الى ما حرّضهم ودفعهم الى الساحات وحشدهم في الميادين، من غير نجاح فعلي، فيما السلطة الجديدة و”دولتها العميقة” تعيد إنتاج “الناصرية الساداتية المباركية”، برمز جديد ملتحٍ لا يحيد عن إرث البطريركية وجبورتها، ولا يتخلى عن الهراوة البوليسية ولا عن النزوع إلى حكم الحزب الواحد.
بالتاكيد لم يستقر الحال في مصر، ولم يستسلم بعد “مجتمع” الثورة، لكن الأكيد أيضاً أن إسقاط النظام (أركانه الفعلية) ليس أبداً “كرنفالاً” شعبياً حدث ذات يوم في ميدان التحرير. لذا ستبقى مصر، على الأرجح، أرض منازعة وفوضى. وهذا ما ارتضته الثورة المضادة، منعاً وصداً لما طالب به المصريون في تلك الأسابيع الملهمة من شتاء العام 2011.
الحال التونسية أيضاً مشابهة، فالإسلاميون أتوا مع الثورة، بوصف الأخيرة “فرصة تاريخية” لهم للإمساك بالسلطة مرة واحدة وإلى الأبد. إنها فرصة تطبيق أيديولوجيتهم لا تحقيق ما طالب به التونسيون: الحرية والعدالة والديموقراطية. هكذا سقط النظام بسهولة، وهكذا بسهولة فائقة أيضاً وصل “حزب النهضة” إلى السلطة، بتفويض شعبي ديموقراطي. لكن ذاك التفويض الإنتخابي كان على أساس تنفيذ أهداف الثورة المعلنة، لا تطبيق أيديولوجية الحزب الإسلامية. وهي، كما “الإخوان” في مصر، تفارق طبيعة الأنظمة السابقة من حيث ترك المجتمع لأهله واحتكار السلطة لنفسها، فهذه الأيديولوجيا الإسلامية تسعى ليس فقط لامتلاك السلطة، لكن أيضاً لـ”تخليق” مجتمع متماه مع أبدية سلطتها.
بهذا المعنى، اكتشف أهل الثورة التونسية، أن الثورة المضادة كانت كامنة بينهم وداخل صفوفهم. وما عاد أمرهم سهلاً ويسيراً. واليوم بين شعارات الثورة وبرنامج “النهضة” يتعاظم التناقض. ومن هذا الأخير يبرز استعصاء كتابة الدستور الجديد حتى الآن. إذ تتنازعه إسلامية “معتدلة” لا تريد إغضاب السلفية المتطرفة، ومدنية “معتدلة” لا تقبل بخذلان العلمانية المتشدّدة.
يترجم هذا الصراع نفسه، في كل من مصر وتونس، في المجال الاجتماعي الحقوقي، فإذا كانت ميزة الثورتين، تلك الحماسة النسائية والمشاركة الأنثوية وحضورها الساطع، فإن الثورة المضادة في البلدين، إنما تستهدف أولاً قمع هذا الحضور وإقصاءه.
وإذا كانت القذافية تعريفاً هي السلطة المستبدة من دون الدولة وهدماً لها، فإن الثورة الليبية لا تزال أسيرة هذا الإرث. وإذ يغيب المستبد تبقى مزاجيته وفوضاه. هكذا يكتشف الليبيون أن “أبطال” الثورة يستميتون للبقاء أبطالاً، يقاتلون ويحاربون حتى بعد اندحار “العدو”. وشرط استمرارية بطولتهم على ما يبدو أن لا تستقر بلادهم على دولة وقانون. ولذا يتفوق السلاح، الذي كان وسيلة وبات غاية. سلاح يقترن بقاؤه وديمومته بإجهاض طموح الليبيين ببناء دولة مؤجّلة منذ خمسة عقود على الأقل.
منذ اليوم الأول للثورة السورية، كانت الثورة المضادة لها. فالمشرق العربي ليس مصر ولا شمال افريقيا، هنا “الحرب الأهلية” الحقيقية أو المفتعلة لا كابح لها. تغيير النظام أو إسقاطه دونه الأهوال وأنهار من الدماء، وعلى شبهة حرب عالمية، أو “مؤامرة كونية”. هنا السلطة، ليس نظام حكم يحتمل إصلاحاً أو تغييراً أو تداولاً، بل هي حرب وجود أو فناء. يمكن القول أن الثورة السورية، كما أرادها مواطنوها ونشطاؤها ومؤيدوها، استمرت نحو عام تقريباً: سلمية، مدنية، تعددية.. واضحة الأهداف والشعارات والوسائل. كانت على قاب قوسين أو أدنى من أن تصير كاسحة، والنظام كان يترنّح بشدة وآيل للإنهيار السريع. لكن هذا النظام السوري ليس من صفاته الحرج من آلاف التظاهرات ولا من موقعه جمل مثلاً، أو من حرق بوعزيزي نفسه. إنه ثورة مضادة دائمة حتى قبل اندلاع أي ثورة.
لقد تأسس هذا النظام أصلاً على مباشرة الحرب، والحرص على استدامتها ضد المجتمع السوري منذ اللحظة الأولى التي استخدم فيها الدبابات للوصول إلى السلطة عام 1970 (إن لم نحسب سلطة البعث منذ 1963). ولذا لم يتوان منذ أصابع أطفال درعا إلى لحظة كتابة هذه السطور عن الدخول في حرب شاملة، بلا هوادة ضد سوريا ذاتها.
في سوريا، الثورة المضادة لم تنتظر الثورة ولا حاولت التسلل إليها أو التموه بشعاراتها ولا منازعتها على الشرعية، بل اختارت افتعال “حرب أهلية”. وبغض النظر عن التعريف الدقيق أو التسمية الصحيحة لهذا الصراع الدموي، فإن الثورة المضادة نجحت في شعارها العدمي “… أو نحرق البلد”.
على الأرجح، ستبقى الثورة السورية موقوفة إلى حين الإنتهاء من هذه الحرب، التي أرادها النظام ولم يجد السوريون خياراً آخر سوى خوضها، والتي من طبيعتها أن تنشئ حتماً واقعاً عنيفاً، ومغايراً تماماً، لما كانت عليه سوريا قبل آذار 2011 ولما كان يحلم به أهل سوريا وثورتهم.
من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا، انتهى “كرنفال” الربيع العربي الوجيز الزمن، وابتدأ “كابوس” الخريف الطويل.
المستقبل