صفحات الناس

طريق خوف طويل يربط حلب النظام بحلب المعارضة

 

 

مشوار الخمس دقائق في المدينة نفسها بات يحتاج 10 ساعات

لأنهم مرغمون على إعالة أسرهم، يتحمّل سكان حلب رعباً وشقاء يتمثلان في الانتقال من حي (إقامتهم) إلى آخر مجاور (حيث عملهم)، في رحلة باتت تستغرق 10 ساعات بعدما كانت المسافة نفسها تقطع قبل الحرب بـ 5 دقائق، مارّين خلالها على حواجز كثيرة تابعة لأطراف عدة، تبقى “داعش” أخطرها، حيث الجلد مصير مخالف تعليماتها.

حلب: يصعد كل من الموظفين الحكوميين أبو أسعد وأبو عبدو باكرًا في باص صغير: الأول ينطلق من منطقة واقعة تحت سيطرة النظام في حلب في شمال سوريا، متوجّهًا نحو حي تسيطر عليه المعارضة، والثاني يقوم برحلة معاكسة في المدينة التي قسمتها الحرب إلى شطرين.

كان المسار يتطلب عشر دقائق على الأكثر قبل اندلاع المعارك في حلب في تموز/يوليو 2012. أما اليوم، فيستغرق الانتقال بين المنطقة والأخرى نحو عشر ساعات على طريق تنتشر عليها كل أنواع المخاطر من القنص إلى حواجز الجهاديين وقوات الأمر الواقع المختلفة.

جاران بمسافة دولتين!

يعمل أبو أسعد (45 عامًا) سائقًا في مؤسسة حكومية لعشرة أيام متواصلة في الجهة الغربية من حلب، الواقعة تحت سيطرة النظام. في أيام استراحته، يستقل باصًا عند محطة الحافلات في حي حلب الجديدة، ينقله مع آخرين إلى حيّ الشعّار في شرق حلب، الواقع تحت سيطرة الجيش السوري الحر. ولا تبعد المنطقتان سوى خمسة كيلومترات، إلا أن الطريق التي تسلكها الحافلات للربط بينهما باتت تمتد على مسافة 400 كلم.

يسلك الباص طريقًا يمر بمنطقة يشرف عليها الجيش السوري، وصولًا إلى أثريا، ثم يتجه شرقًا، ليمر بمنطقة صحراوية، لا سيطرة لأية جهة عليها، قبل أن يصل إلى مدينة الباب، الخاضعة لسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” الجهادي المتطرف. ومنها يدخل إلى حلب، الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة.

يقول محمد، سائق الباص، الذي يقوم بثلاث رحلات بين حلب وحلب الأخرى شهريًا، لوكالة فرانس برس، “قبل الوصول إلى نقطة التفتيش التابعة لداعش (الدولة الإسلامية)، تنتقل النساء للجلوس في الخلف ويضعن الحجاب. وبحسب قوانين الدولة الإسلامية، لا يسمح لهن بالسفر بمفردهن. يجب أن يرافقهن زوج أو شقيق”. ويتابع “أتحقق بنفسي من كل شيء، وإلا فأنا من سيدفع الثمن”.

مهنة مرور

بالنسبة إلى أبو أسعد، تمثل كل رحلة قفزة في المجهول. ويروي: “يطلع عنصر داعش (الدولة الإسلامية) إلى الباص، وهو مسلح، ليس برشاش، بل بسيف (…) يدقق في أوراق جميع الركاب، ويطلب من الذين يشتبه فيهم النزول، مهددًا إياهم بسلاحه”. ويضيف: “أقول عندما يسألني أنني أعمل خياطًا، فلو أفصحت عن عملي الحقيقي سيقوم باعتقالي”.

إلا أن أبو أسعد يوضح أن لدى كل من الأطراف الثلاثة، المعارضة والنظام وتنظيم “الدولة الإسلامية”، لوائح وأجهزة كومبيوتر. ويضيف “أي وشاية أو غلطة أو زلة لسان يمكن أن تقتل صاحبها”.

تنقسم حلب إلى جزأين، بينهما خط تماس، يمتد من الشمال نزولًا نحو الجنوب. وتسيطر المعارضة المسلحة على أكثر من نصف المدينة، بينما يفرض النظام سيطرته على نحو 40 في المئة منها، ويسيطر الأكراد على عشرة في المئة. وأغلق قبل عام طريق بستان القصر، الذي كان يشكل نقطة عبور بين المنطقتين بسبب أعمال القنص.

الحاجة أم المخاطرة

يسلك أبو عبدو، الذي يعيش في حي الصاخور في شرق المدينة، من جهته، الطريق نفسه، إنما بالاتجاه المعاكس، حتى يصل إلى مقر عمله التابع لإحدى الوزارات.

يقول “نعاني من مشاكل كثيرة خلال سفرنا من حلب إلى حلب. في البداية، كان الطريق يستغرق خمس دقائق. أما الآن فنقضي عشر ساعات تقريبًا” على الطريق. يضيف: “هناك حواجز ومخاطر، لكنني مضطر لأن أسافر لكوني موظفًا، وهذا مصدر رزقي الوحيد. أحيانًا، أسافر مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع (…). الله يعين!”.

في موازاة الوقت الطويل، الذي بات يستغرقه الطريق، ارتفعت أيضًا أسعار الرحلة، التي تنطلق من مناطق النظام: من عشرين ليرة سورية إلى 2500 ليرة (12.5 دولارًا).

يسلك نحو 800 شخص يوميًا الطريق في اتجاه الأحياء، التي تسيطر عليها المعارضة، بينهم موظفون وطلاب وتجار، وغيرهم (…) ويغادرها العدد عينه تقريبًا، بحسب ما يقول منير، المسؤول عن محطة الباصات في حلب الجديدة. كما يدفع الركاب إلى جانب مصاريف الرحلة، رشى إلى بعض الحواجز هنا وهناك.

محطات داعش للجلد

بالنسبة الى السائقين، فإن أخطر محطات الرحلة هي المنطقة الخاضعة لسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”. ويقول أحدهم إنه تعرّض مرة للضرب بالسوط ثلاثين جلدة، لأنه كان حليق الذقن. ويفرض التنظيم على الرجال في مناطق سيطرته إطلاق لحاهم. بينما تعرّض سائق آخر، هو أبو عمر، بدوره للجلد، بعدما نسي أن يطفئ جهاز الراديو في الباص، وكانت الموسيقى تنبعث منه. وسجن ثالث لمدة 48 ساعة، حتى تعلم “الصلاة بشكل صحيح”.

وغالبًا ما يشعل السائقون سيجارة أخيرة، ويطفئونها قبل الصعود إلى حافلتهم، لأن التدخين ممنوع أيضًا بموجب قوانين “الدولة الإسلامية”.

ويقول أبو أحمد، الذي جاء لزيارة طبيبه في المنطقة الخاضعة لسيطرة الحكومة، “إنه طريق الرعب. فالخروج من المدينة، والسير لساعات في الصحراء، للوصول إلى حي آخر في المدينة نفسها، أمر منافٍ للعقل. تقسيم حلب على كل حال بهذه الطريقة، أمر لا يصدّق”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى