السلفية الجهادية كظاهرة مسرحية/ ياسين الحاج صالح
هناك عناصر مسرحية في تكوين السلفيين، والجهاديين منهم بخاصة، على نحو ما صرنا نراهم في سوريا في عامي 2013 و2014. تبدأ هذه العناصر من الزي الخارجي، وتطال الطلعة، وتشمل لغة الكلام، وتمتد إلى القناع. الزي النمطي هو الثوب الأفغاني القصير وتحته سروال فضفاض، ويفترض أن هذا هو الزي الإسلامي. وطلعة الرجل يعلوها شعر طويل قد يكون مُجدّلا، ولحية طويلة كثة غير مشذبة، وشارب محفوف. أما المرأة فلا وجه لها ولا جسد، ولااسم، ولاكلام. الكلام للرجال، وهم يتكلفون عربية فصحى لا يجيدها معظمهم. وكان شائعا أن يرتدي عموم الدواعش وغير الدواعش من التشكيلات السلفية أقنعة وقت ظهورهم في الفضاء العام.
كل شيء يعطي الانطباع أن الجماعة لا يكتفون بقناع واحد، يراكمون أقنعة وراء أقنعة، اللغة قناع والزي قناع وقيافة الجسم قناع، فضلا عن قناع على الوجه. هل من أجل ألا يعرفهم الغير؟ من أجل أن ينفصلوا عن الغير؟ نعم، ومن أجل أن ينفصلوا عن أنفسهم في تصوري، عن صور أسبق لهم. كي «يلبسوا» دورهم الجديد، ينفصلون عن الماضي، جاهليتهم الخاصة، ويهيلون عليه طبقات من الأقنعة لئلا ينبعث. يمثلون طوال الوقت دورا لا يستطيعون المضي فيه إلا إذا مثلوا على أنفسهم أنهم لا يمثلون؛ أنهم عثروا، أخيرا، على حقيقتهم.
التوقف عن التمثيل لحظة واحدة يهدد بانهيار اللعبة كلها، كما أن التوقف عن التمثيل أثناء مسرحية يهدد بمحو الفرق بين التمثيل والواقع، فيدمر المسرحية. يجب أن تكون المسرحية السلفية لاهثة الإيقاع محتدمة لا تترك مجالا لالتقاط الأنفاس، «مشرحية» من الدم والقتل والأشلاء، ليس فقط من أجل أن يبقى الجمهور مسلوب اللب وهو يتابعها مذهولا، ولكن كي يبقى الممثلون أنفسهم منشغلين بأدوارهم، لا تتسلل إليهم الهواجس. داعش تجسيد للمسرحة التامة للحياة. كل شيء مصمم هنا كيلا يتسرب شيء من الواقعي إلى المسرح، إلى الجمهور والخشبة. والطموح هو التوسع العالمي من أجل أن يعم المسرح العالم، ويكون سكان الكوكب جمهورا، بحيث يزول أخيرا الفرق بين الخشبة والعالم، بين التمثيلي والواقعي. المسرحية لا تنجح دون ذلك. يبقى كل شيء مهددا بالانهيار إن بقيت هناك مساحات خارج المسرح أو مواقع تحتفظ بالتمايز بين المسرح والحياة الواقعية.
ينكر الإسلاميون المسرح بقدر يتناسب طردا مع جعل الحياة كلها مسرحا. ما يلغونه في النهاية ليس المسرح بل الحياة. وبدل أن يكون التمثيل فسحة مغايرة وانفصالا موقوتا عن جريان الحياة العادي، تغدو الحياة مسرحية مكرورة لا تنتهي. بعد قليل تتراجع جاذبية المشهد ويمله الناس. وحتى قطع الرؤوس الرهيب والصلب المروع والرجم المثير والإعدام الخلاب في الساحات يغدو مضجرا بعد أن نكون قد تفرجنا على 1000 رأس مقطوع و100 عملية صلب، وعشرات عمليات الرجم المثيرة.
لذلك يجب فتح العالم. هذه مهمة تأخذ وقتا طويلا، لكنها توفر رؤسا كثيرة لتقطع وأجسادا لتصلب ونساء ليرجمن.
ولـ»المشرحية» أن تستمر.
لكن ما أصل هذا الميل المسرحي؟ وما الحدث الأصلي الذي أطلق المسرحية وجعل التمثيل جذابا لكثيرين؟
أعتقد أن الأساس العام للمسرحية كلها هو البحث عن البطولة أو المجد. هذا نازع إنساني عام، وهو يمكن أن يدفع إلى مآثر نبيلة وإلى جرائم رهيبة. الحداثة عممت البطولة ودمقرطتها. صار المجد ينتج بالجملة، والبطل يمكن أن يكون أي إنسان. لكن عند أكثر العرب والمسلمين المعاصرين إنتاج فقير للبطولة: الأبطال العسكريون نادرون، والدول لا تحارب غير محكوميها، أبطال العلم قليلون، أبطال الأدب والفن قليلون، والأدب والفن قلما يطعمان خبزا. أبطال الرياضة قليلون جدا، لكون الرياضة اليوم صناعة واستثمار. النضال السياسي مقموع وباهظ الكلفة. وبعد أن كان للحي بطله أو أبطاله، وللقرية بطلها، وللعشيرة أبطالها في أيام ما قبل حداثتنا، صار لدينا بطل واحد متوحش للجميع: حافظ الأسد مثلا أو صدام حسين أو معمر القذافي. بدل تعميم المجد والتوسع في إنتاج الأبطال، حداثتنا أنتجت أبطالا أقل من تقليديتنا المفترضة.
ماذا يفعل شاب يتطلع إلى حياة كبيرة؟ إلى أن يكون له دور في العالم؟
يريد الإنسان المعاصر، في مجتمعاتنا كما في كل مكان، أن يكون له «دور»، وأن «يمثل» دوره على «مسرح» العالم. السلفية وليدة هذا الميل الكوني والحديث، وإن كانت تستفيد من احتقان مخيلة المسلمين بدراما الإسلام الباكر بفعل انحطاط حداثتنا، وتعثر تأليف نص أصيل جديد. في نصنا القديم حبكة وصراع يسهل نقلهما إلى عالم اليوم وتمثيلهما فيه. نريد أن نمثل وأن نرى، ويحول الطغيان دون أن نمثل ونرى ونمارس البطولة. ولا تقترح علينا غير أدوار كومبارس تافهة في مسرحية الغرب الكبيرة. فلم لا نمثل مسرحيتنا «الأصلية» إذن؟ مسرحية «الجهاد» الملحمية المفعمة بالصراع؟
المشكلة أنه لا أصالة البتة في استعادة ما مضى وانقضى، وما نجح مرة لا ينجح مرتين. هذا فوق أن إيحاء المسرحية أتى من الغرب، من دراماه التاريخية الأصيلة.
أتى من مخابراته أيضا، أي من شياطينه ومنابع شره. في المسرح الأفغاني صنعت الفرقة المسرحية التي اسمها القاعدة. يحيل ما قبل تاريخ الفرقة إلى رعاية أجهزة مخابرات أمريكية وسعودية ومصرية وباكستانية. وبحكم هذه التجربة المكونة فإن الرابط بين السلفية المسرحية والمخابرات أصلي، وجهان لعالم الظلام. يجمعهما أيضا شغف «مشرحي»: القتل الفظيع للبشر. وفي 11 أيلول 2001 قامت الفرقة السلفية بمشهدها البطولي الخارق، وأجبرت العالم كله على أن يتفرج عليها، وصنعت ذاكرة وسلسلة نسب لنفسها.
كانت هناك مسرحية ممكنة أخرى: الثورة. بالفعل اقتحم المسرح كثيرون، مثلوا أدوارا بطولية. لكن هذه المسرحية الديمقراطية سُحقت بعنف، وقتل أكثر الأبطال أو حُبسوا أو نفيوا.
السيرة معروفة، وفي محصلتها لم تبق فرصة لغير المشرحيات. داعش هي الفرقة المتمرسة بهذا الفن.
القدس العربي