الشعر حمار الكتابة/ صقر أبو فخر
بحر الرجز، من بين بحور الشعر المعروفة، هو حمار الشعر، لأن جميع الشعراء تقريباً بدأوا في قرزمة الأشعار على هذا البحر لسهولته وطواعيته. بيد أن الشعر نفسه هو حمار الكتابة، لأن كثيراً من الناس ممن شرعوا في كتابة الشعر في بداياتهم الأولى، انتهوا إما إلى السياسة أو الى الصحافة أو إلى التجارة أو إلى الوظيفة. والشائع أن الزُمّار يموت وأصابعه تتلاعب بفتحات الناي. وعلى المنوال نفسه يموت الكاتب وقلمه بين أصابعه؛ إنها «سوسة» التعبير بالكلمات، بل الرغبة الهادرة في التعبير بشتى الوجوه. وهي رغبة متأصلة في نفس الانسان؛ فأول التعبير بالصوت، أي بالبكاء، ومنه جاء الغناء. ثم التعبير بالجسد، أي بالرقص. ثم المحاكاة، أي بالرسم. ثم بالبوح، أي بالكلام الجميل كالشعر… وهكذا إلى آخر الفنون السبعة. ومن النادر أن يطلِّق الشاعر الشعرَ حتى لو قادته مصائره إلى ميادين مغايرة في الحياة، فتراه يعود، بين الحين والآخر، إلى ضرب من ضروب الكتابة الشعرية. ومن النادر أيضاً أن يطلِّق الصحافي الصحافة إلا للانخراط في السياسة. وثمة مثال عجيب في الصحافة اللبنانية هو أمين الأعور الذي كان صحافياً لامعاً في جريدة «المحرر» المعروفة، وأسس مجلة راقية في أوائل سبعينيات القرن المنصرم هي مجلة «بيروت المساء». ولأسباب خاصة يكتنفها الغموض ويلفها الضباب باع المجلة فجأة، وغادر بيروت عاصمة الصحافة العربية آنذاك، وانصرف إلى الزراعة في قرية نائية من قرى جبل لبنان، ولم يعد إلى الصحافة إطلاقاً حتى رحيله.
يُقال: «أدركته حرفة الشعر» أو «طالته لوثة الكتابة». والحرفة أو اللوثة لا تنفك الواحدة منهما عن صاحبها حتى تورثه مجداً أو سهداً أو كمداً، وقلّما تورثه ألقاً، بل قلقاً وسقماً. ومع ذلك، فإن «سوسة» الشعر تتمكن من «الشاعر» حتى لو جف معين الابداع أو خبت جذوة الشعر فيه أو ذبل وغار. لذلك ليس من المستغرب أن يبقى أمثال هؤلاء العابرين في الشعر عند تخومه، أي في مضمار الكتابة. لكن الغريب أن كثيراً من الذين افتتحوا حياتهم بكتابة الشعر، وكانت لهم مساهمات مهمة في هذا الحقل، لم يلبثوا أن أغلقوا مصاريع بيوتهم على هذا الطراز من الإبداع، وساروا في اتجاهات متنافرة.
المصائر المتعاكسة
لو تجولنا بشكل عشوائي في بعض المجلات الأدبية التي صدرت في لبنان وفلسطين ومصر وسورية منذ خمسين عاماً تقريباً، سنعثر على أسماء كثيرة لشعراء بشّروا بلغة شعرية جديدة، وشكلوا شوطاً مهماً في مسيرة الشعر العربي الجديد. ولو تتبعنا مصائرهم اللاحقة سنكتشف أن معظم هؤلاء أداروا ظهورهم للشعر واختاروا ميادين جديدة للتعبير عن أفكارهم وآرائهم ومكنوناتهم. لقد اخترتُ مجموعة من المجلات ميداناً للتنقيب عن أسماء اشتُهرت ثم غار الابداع فيها، ولم يكن هدفي إحصاء هؤلاء جميعاً، بل التأمل في هذه الظاهرة. أما المجلات فهي: مواقف، حوار، الفكر الجديد، ملحق «النهار» الأدبي (لبنان)، القيثارة (سورية)، الكرمل، البيادر (فلسطين)، الفكر المعاصر (مصر). وقد لاحظت أن شعراء وشاعرات، لامعين ولامعات، اشتهروا، في ما بعد، لا كشعراء بل كفاعلين في ميادين أخرى من الكتابة. ثريا ملحس على سبيل المثال كفت عن الشعر بعد ديوانيها «النشيد التائه» (1939) و«قربان» (1952)، وغرقت في التدريس. وفايز الصُياغ أكلته حرفة الترجمة، ورياض نجيب الريس صاحب «موت الآخرين» (1962) اشتهر كصحافي ثم كناشر. وفاروق مردم بك صاحب «قطعة شمس» (1964) صار ناشراً وباحثاً. وسلمى الخضراء الجيوسي (لها «العودة من النبع الحالم» 1960) انهمكت بمشروع «بروتا» للترجمة، وكذلك انصرف جبرا ابراهيم جبرا (صاحب «تموز في المدينة» 1959)، و «المدار المغلق» 1964) من الشعر إلى الرواية والتدريس. ولويس عوض صاحب «بلوتو لاند» (1947) صار كاتباً وناقداً وروائياً وصحافياً وباحثاً، أي كل شيء عدا الشعر. وقلة تعرف أن خليل أحمد خليل بدأ شاعراً، وأن لهنري حاماتي ديواناً عنوانه «إلى الفقر» (1960)، ولعبد القادر القط ديوان «ذكريات شباب» (1958)، ولمجاهد عبد المنعم مجاهد مجموعة شعرية بعنوان «أغنيات مصرية» (1985)، ولسمير صنبر ديوان «غداً نعود»، ولفواز طوقان خمسة دواوين شعرية، ولناجي علوش ثلاثة دواوين منها «النوافذ التي تفتحها القنابل» (1972). وهؤلاء جميعاً نضب الشعر فيهم فتحولوا إلى غيره.
بدأ رفيق خوري حياته في سورية شاعراً، وحين جاء إلى لبنان رغب عن الشعر إلى الصحافة، وأصبح رئيساً لتحرير جريدة «الأنوار». والشاعر السوري بشير البكر، وإن كان لا زال يكتب الشعر، فقد عُرف كصحافي بالدرجة الأولى. وعلى غراره بدأ توفيق صرداوي (فلسطين) حياته الكتابية بالشعر ثم غرق في الصحافة. وطلق كميل سعادة الشعر بعد هجرته إلى أميركا، وكان من جماعة مجلة «شعر». أما حبيب قهوجي (فلسطين) فقد كتب الشعر أولاً، ثم انتقل إلى النضال السياسي والكتابة السياسية، ثم سُجن ونفي. وعلى هذا النحو كانت بدايات وليم نصار الذي بات، في ما بعد، أحد أشهر الأسرى في فلسطين، ومثله عصام محفوظ (لبنان) الذي نشر ديوانَين: «أعشاب الصيف» (1961) و«السيف وبرج العذراء» (1963)، ثم انثنى إلى الصحافة والنقد والمسرح. ولعل من الضروري التذكير بأن ماجد فخري ورينيه حبشي وأنطوان غطاس كرم كانوا شعراء وصاروا أساتذة جامعيين وكفوا عن كتابة القصائد على غرار أمين الريحاني بعد «هتاف الأودية»، وحذا حذوهم عبد الله قبرصي فاستغرقت حياته المحاماة والسياسة. أما شعراء مجلة «القيثارة» السورية في اللاذقية (1946) التي كانت تمهيداً لمجلة «شعر» في بيروت فقد اضمحلوا وذابوا أمثال الشعراء ابراهيم منصور وعبد العزيز أرناؤوط وجوهرة نعمان وفاضل الكنج علاوة على كمال فوزي الشرابي، وهو الوحيد الذي اشتهر من بينهم.
أين صاروا؟
يمكننا أن نرصد بقليل من الجهد أحوال بعض الشعراء، وأين أصبحوا، وما حل بهم، وما فعلته الأيام بأقلامهم، أمثال إدوار طربيه صاحب «المرايا الدائرة» (1966)، والياس مسوح من سورية (له «حنان يا أصدقائي» ــ 1968)، وميشال حايك (له «كف الذكريات» 1961 و«كتاب العبور والمعاد» 1966)، ومحيي الدين فارس صاحب «الطين والأظافر» (1957)، والياس فاضل من سورية (له «أوراق جريحة» 1958 و«تحت شمس آسيا» 1970) وآخرين غيرهم. لكن، مَن يعرف ما حلَّ بالشاعرة السورية هالة ميداني التي نشرت قصائدها في مجلة «حوار» منذ خمسين سنة بالتمام؟ وأين يعيش الشاعر السوري مصطفى خضر اليوم الذي نشر بعض قصائده في «حوار» قبل نصف قرن أيضاً؟ مَن يتذكر محمد عبد الحي (السودان) وحكمت العتيلي (فلسطين) وابراهيم الحسين (السعودية) وخلدون الصبيحي (الاردن) وعبد الحميد القائد (البحرين) وريشار ملحم (ربما هو الصحافي هشام ملحم) وجورج ضو وفادي نون (لبنان) وجلال حسين وردة (العراق)؟ أين رست أشرعة الشعراء توفيق ابراهيم وميخائيل صوايا وياسين أبو خالد وحامد بدرخان وزكريا كايا (من سورية) وميشال بشير، وهؤلاء كانت مجلة «الفكر الجديد» ملعبهم الشعري إبان ترؤس ميشال سليمان تحريرها منذ سنة 1968 فصاعداً؟ ماذا يفعل اليوم الشعراء الفلسطينيون الذين تباروا في مجلة «البيادر» وغيرها منذ سنة 1976 فصاعداً أمثال جان نصر الله وماجد الدجاني ومحمود عوض عباس ومحمد مسعد وفاضل علي وموفق عبد الرحمن وبنايوت زيدان وبتول أحمد القلا وكزار حنتوش ووهيب وهبة وايليا شاهـين وفوزي عبد الله ومؤيد البحش وعدنان الضميري وسمير الداموني ومصطفى رشيد عثمان ومحمد أحمد عويس؟ مَن يدلنا على محمد مهران السيد من مصر ورصفائه ابراهيم داود وعلي منصور وفتحي عبد الله ومهدي مصطفى والسماح عبد الله، ولكل واحد من هؤلاء جميعاً ديوان شعر واحد على الأقل؟ هل كفَّ هؤلاء كلهم عن كتابة الشعر؟ لعلهم تساءلوا في لحظة ما عمن سيقرأ شعرهم بعد خمسين سنة؟
[[[
يلوح لي أن الشعر حمار الكتابة حقاً. بعضهم يصبح، بالمجاهدة، فارساً موصوفاً، وبعضهم الآخر يتحول إلى دروب كتابية موازية أو مجاورة أو رديفة. وهذا هو السباق بعينه: هناك من يصل إلى خاتمة الشوط، وهناك مَن يتخلف في الطريق. وفي معظم هذه الأحوال يعود الكائن إلى بداياته الأولى وإلى أشعاره البدائية كما عاد «أوليس» إلى مدينته «إيثاكا» بعدما أثخنته آلام الغربة ورأى النعيم والجحيم معاً، وذاق الحب بين يدي إلهة «الحرف». ومع ذلك يصرُّ الكاتب على العودة إلى مكانه الأول، إلى «بينيلوب» التي أوقدت في البدء جماره. لكنه يكتشف، يا للحسرة، أن ما مضى لن يعود حتى لو عاد الكائن ثانية إلى قلمه الأول.
صقر أبو فخر
السفير