الشعور بالإمبراطورية: خلف تاريخي عميق!/ حمّود حمّود
تذهب رواياتٌ تاريخية إلى أنّ بعضاً من مساجد العراق، وبعد انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، استمرّ خطباؤها بالدعاء للخليفة العثماني المسلم على المنابر. مثل هذه الروايات (سواء صحت أم لم تصح)، وغيرها كثير، توحي بدلالات مهمة كانت حاضرة بقوة داخل أوساط إسلامية واسعة في المشرق وخارجه، وهي لا تعدم الرغبة في مواجهة صعوبة الانفصال عن الحبل السري لـ «الأم العثمانية» الكبرى فحسب، بل أيضاً عدم الاستعداد، على الأقل حضارياً، إلى هجران أسطورة وسيادة البارادايم الإمبراطوري الديني – السياسي، والدخول تالياً في مرحلة الدولة الحديثة.
عدم الاستعداد هذا هو ما جعل الإسلاميين يشعرون في الأوقات اللاحقة، بأنهم تحولوا من أكثرية إمبراطورية كانت لها كلمة مهيمنة، إلى مجرد أقلية تُحكم بواسطة دول صغرى ما هي في نهاية المطاف سوى انشقاقات عن الامتداد الإمبراطوري الروماني.
الإشكال المهم في ذلك، وهو ما سيصاحبنا حتى في الأوقات الحالية، أنّ مثل ذاك الشعور تحول من مجرد شعور إلى أيديولوجية، بل أيديولوجيات كبرى، قامت كلها كردود عنيفة على تلك اللحظات التاريخية الحاسمة: الحلم بإعادة بناء الإمبراطورية – الأمة، بدلاً من العمل على بناء الدولة – الأمة (الأمة المحصورة والمفهومة في نطاق الدولة). هكذا، فقد بقي ارتهان النخب العربية والإسلامية في خياراتهم المــستقبلية على ما تم تخيّل أنه ضاع منهم. فلم يكن وقتها اختراع العدو ومواجهته، وهو الغرب بطبيعة الحال، إلا حجة عميقة للركود والنكوص إلى وراء.
ولأنّ فهم اللحظة التاريخية كان غائباً، بكل ما كانت تحمله لحظة تشكّل الدول من قطائع مع الأزمنة الإمبراطورية (لم يفهم، مثلاً ويُفد من التجارب الأوروبية في كيفية الانتقال من الفكر السياسي الإمبراطوري إلى الدولتي. بدلاً من ذلك كانت دائماً تتهم هذه التجارب بالإمبريالية)، فقد كانت إعادة استدعاء الماضي، بالطبع بعد مسخه من التاريخ، بمثابة الخزان الميثولوجي الواسع، الخزان الذي لا تمكن مساءلة محتوياته، طالما أنّ أركانه تقع في السماء لا الأرض.
هكذا، ليترجم ضياع الإمبراطورية بـ «أحلام أمتيّة»، تقاسمها الشقيقان: الإسلاميون والقوميون. وهو أمر أدى، بين ما أدى، إلى دمج فكرة الإمبراطورية بفكرة الأمة العربية، وكذا الإسلامية، لتتقلص الأخيرة وتلبس اليوم لبوساً طائفياً: «الأمة الشيعية» و «الأمة السنّية». ومثل هذه المفاهيم التي ليس لها دلالات تاريخية نقدية، مع استحقاقاتها المؤلمة في التاريخ الحديث، وبالأخص بعد نهوض الأصولية الإيرانية في قلب المشرق، تمثّل أحد الأسباب العميقة في أنْ تغدو ميثولوجيا الإمبراطورية – الأمة هي «الأصل» بينما التاريخ والدولة بمثابة «العرض والزائل».
من هنا، ليس غريباً أنْ تتكرس الدول الكرتونية العربية وأجهزتها الإعلامية في التذكير الدائم بالأمجاد الإمبراطورية (وهذا على أية حال مسار الذات المنهزمة)، وعلى أنّه لا مجد للأمة إلا بالماضي، فضلاً عن المحاولات القصوى في تحقير الذات المعاصرة لحساب ذوات أسطورية، حضر في فهمها كل شيء إلا التاريخ. يُقال هذا الكلام، ونحن نسمع اليوم كثيراً من الدعوات إلى الاقتداء بالإسلام التركي بصفته الخلاص مما يلمّ بمسلمي المشرق اليوم. وهذه دعوات تتزامن مع أحاديث رجب طيب أردوغان، بين الفينة والأخرى، وهو يذكر الأتراك والمسلمين بما حققه العثمانيون حينما كانوا إمبراطورية إسلامية. وبغض النظر عن سياسيّة هذه الأحاديث الأردوغانية وأبعادها الاستراتيجية في إكمال الإمساك برقبة المشرق من طريق سورية، فإنّ الانجذاب العربي، بخاصة السنّي الهوى منه، إلى هذا النمط الإمبراطوري من الإسلام السياسي (لا بمعنى الإسلام السياسي التقليدي) التوسعي، هو ما يدل مرة أخرى على الافتقار الهائل إلى السياسة والدولة والعمل بما يمكّنه التاريخ من إمكانات.
الإيرانيون، وعلى لسان قادة دينيين وعسكريين، وبحكم إمساك رأس عصا النظام السوري وذيلها، وسيطرتهم على مقاليد القرار الدمشقي، وكذا الأمر في العراق، فإنهم كذلك الأمر، يربطون ربطاً أسطورياً، وبنحو محدد فارسياً، بين الإمبراطورية القديمة لهم وبين توسعهم في المشرق وما وراءه اليوم. من هنا، برز الكثير من الرؤى الإيرانية الذي يرى أن هذه هي المرة الثالثة التي يبلغ نفوذ إيران سواحل البحر الأبيض المتوسط، كما أشار يحيى رحيم صفوي، القائد السابق لقوات الحرس الثوري وكبير مستشاري خامنئي العسكريين.
وفي هذا الإطار يمكن قراءة بعض التصريحات الإيرانية بأنّ «الحرب في سورية لا تقل أهمية عن الحرب العراقية – الإيرانية» كما جاء مرة على لسان حسين همداني، والذي أعلن عن استعداد بلاده لإرسال 130 ألفاً من عناصر قوات التعبئة (الباسيج) إلى سورية. مثل هذه الأحلام الإمبراطورية الأسطورية يلزمها دائماً وقود. وللأسف، فإنّ أحد أعماق هذا الوقود هو العناصر الطائفية في المشرق. هكذا، ليغدو جانب من الصورة أنّ الشيعة العرب يصوبون خلاصهم الإمبراطوري صوب إيران، وجزء واسع من السنّة يعوّل على وعود أردوغان (وتصب في هذا الإطار التبشيراتُ الإسلاموية، خصوصاً «إخوان» دمشق، بالتبشير بـ «النموذج التركي»).
بالطبع، يبقى الغائب في كل ذلك التاريخ وفهمه والدولة والدخول في عملية بنائها. ليست هذه الصورة بالتأكيد تكراراً لجالديران بين الصفويين والعثمانيين، بمقدار ما هي جزء من الانحطاط وجزء من الذهنية التوسعية والأمتيّة: إنها صورٌ مشوهة عن خلف تاريخي عميق، لكنها أيضاً تلبس أشكالاً جديدة وتنميطات، ليس أقلها أشكال ممسوخة من «إمبراطوريات الطوائف».
الحياة