“الصرخة المخنوقة”: الإغتصاب كسلاح إبادة في سوريا/ روجيه عوطة
“ببلش أنا ولا بتبلش إنت؟”، لم يتفوه بهذه العبارة شخص لغيره داعياً إياه إلى البدء بعملٍ، يستلزم أن ينوب واحدهما عن الثاني للإقدام على جولاته، كنقل بعض الأغراض من مكانها مثلاً. هذه العبارة نطق بها عسكري بعثي لزميله أمام مريم، المعتقلة السورية في أحد سجون بشار حافظ الأسد، مستفهماً منه عن الذي سيشرع في الإنقضاض عليها، واغتصابها.
ذكرت مريم هذه العبارة على مسمع كاميرا الصحافية والمخرجة مانون لوازو في فيلمها الوثائقي، “الصرخة المخنوقة”، الذي يدور حول استخدام نظام الأبد لسلاح الإغتصاب ضد النساء في سوريا. بنبرة مرتعبة، أكملت مريم حكايتها، التي لا تتوقف عند التفظيع الجنسي بها، بل أنها تتواصل في ممارسات أخرى بحقها، وبحق الكثيرات ممن تعرضن لما تعرضت له.
لا تنتهي حكاية مريم بعد اغتصابها، بل أنها تبدأ معه، لوازو تشدد على ذلك. بعدستها، وتعليقها، وطوال أكثر من ساعة، سعت إلى التأكيد على كون سلاح الإغتصاب لا يبيد السوريات حين استعماله لقمع أجسادهن فقط، لا يبيدهن عندما يخلع العسكر باب المنزل، أو يفتحون باب المهجع، ويصدعونهن، لكنه، يبيدهن بطريقة نهائية. ذلك، أنهن، وما أن ينصرفن من السجون، أو من معامل التنكيل بهن، حتى يجري طردهن، ونفيهن من مواطنهن المجتمعية، التي تتنكر لحالتهن وتتكتم عليها، أو تنظر إليهن بعيون الشفقة، أو تحولهن في عيونها إياها إلى مرذولات الحضور، وبالتالي، لا بد من التخلص منهن.
هذا كان وضع خولة، التي اغتصبها جنود الأسد، وبعد فترة وجيزة، أكمل أباها اقترافهم، وقتلها حفاظاً على شرفه الأهلي. الحكاية نفسها تتكرر مع أخريات: من جهة، يغتصبهن نظام الأبد، كي يدون قوته فيهن، ومن جهة أخرى، تنبذهن مجتمعاتهن إلى درجة القضاء عليهن. لا منزلة لهؤلاء النساء، قبل إغتصابهن، وبعد اغتصابهن، وخلال اغتصابهن، هن أجساد لتسجيل كبت الذكور، ثم، هلاك النظام، ثم، انغلاق المجتمعات، وعلى الرغم من ذلك، وعندما ينجون، يقاومن. يكفي أن يكن على قيد العيش، والكلام، لكي يثبتن أن الأبد، ومهما فعل، لن يغتال قدرتهن على الإستمرار بعد “تجحيمهن”.
عندما يغتصب نظام الأبد السوريات، فهذا ضرب من الحداثة، التي يستند إليها لهتك المحرم المجتمعي الذي يتعلق بالجسد النسائي. يتخطى المحرم، وعندما يفعل ذلك، يستهدف المتمسكون به، الذين يعودون، وبنفي المغتصبات، الى إنتاجه من أجل التعلق والإعتصام بما يحسبونه “طهارة”.
وهنا، المشكلة. ذلك، أن السلطات الأبوية، التي تقصي المغتصبات، تظن أنها تتصدى للنظام، الذي “دنسها”، في حين أنها تحذو حذوه، وتغدو على شاكلته، كما أنها تمتنه. المغتصبات في الوسط، بين نظام يمارس حداثته بتدمير أجسادهن بوصفها قوالب المحرم، ومجتمعات تتشبت بالمحرم بإبعاد المدمر من رجائه، وبترسيخه في القوالب من جديد. المغتصبات، دائماً، في الوسط، وهن لما يصرخن:”هذا ما حصل لنا، هذا ما حدث لنا”، يخبرن عن الموت، صحيح، ولكن، الأهم، أنهن يخبرن عن ولادتهن من بعده.
لا يأتي فيلم “الصرخة المخنوقة” بغير ما جاءت به التقارير حول اغتصاب نظام الأبد للنساء في سوريا منذ العام 2011. هذا ما تدركه لوازو جيداً، وهذا ما قالته بطريقة مواربة في إحدى مقابلاتها، بحيث رددت أنها اتصلت بالقائمين على الأمم المتحدة من أجل أن يلتفتوا إلى القضية، التي تناولتها في شريطها. إلا أن السؤال هو: هل فعلاً ثمة مَن ينتظر، أكان من المتفرجين أو من المسؤولين، فيلماً ليعرف، وبعد سبع سنوات من المجزرة المتواصلة بحق السوريين، أن نظام الأبد يستخدم الإغتصاب كسلاح إبادة، وليعرف أن هذا النظام بذاته هو نظام إفنائي؟
فالذي ينتظر ليعرف المعروف، هو، أيضاً، يقف، وكجنود البعث أمام مريم، بعبارة “ببلش أنا ولا بتبلش إنت؟” بإعانتها، وإعانة السوريين، ولا أحد “يبلش”، ولا أحد سـ”يبلش”. وفي أثناء ذلك، ثمة نساء كثيرات الآن يجري اغتصابهن، وأقصى ما يمكن أن يفعله الجمهور، أكان فاعلاً أو متلقياً، هو أن يدون شهاداتهن ويسمعها، مستكملاً ما بدأ معهن من قبل:”ماذا حدث معكن، أخبرونا، أخبرونا لنستهلك موتكم، منا مَن يعتقد أنكم تكذبون، بروباغندا، ومنا مَن يصدقكم، ويتطهر بكم، حقيقة ممثلة”. الشهادة؟ هذه أيضاً فخ، وعنها، حديث قريب.
المدن