الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة: في إشكالية الطائفية/ عزمي بشارة
الفصل الأول من كتاب”لطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة”
في إشكالية الطائفية
من منظور المؤرخين، لم يُبحث موضوع الطائفة والطائفية على نحو وافٍ على مستوى التأريخ المتعيّن، ولم يُنظِّر علماء الاجتماع بشأنه على نحو وافٍ أيضًا على مستوى مناهج البحث الاجتماعي، ونظريات العلوم الاجتماعية[1]. وهذا البحث حول الطائفية هو محاولة في الفكر وعلم الاجتماع التطبيقي والتاريخ في الوقت ذاته. وسوف نتعامل مع الموضوع نظريًا وعلى مستوى مناهج البحث أولًا، ثم تاريخيًا عبر استعراض حالات تاريخية وتحليلها. ويتطرق المبحث النظري أيضًا إلى بعض النماذج التاريخية.
نحاول في هذا الكتاب تطوير نظرية في الطائفية وعلاقتها بالطائفة من جهة، ونشوء الطوائف المتخيّلة من جهة أخرى[2]، من حيث الدور الكبير للمتخيّل في بناء الحقائق الاجتماعية والذوات التي تعيشها وتعيد إنتاجها على حد تعبير موريس غودلييه من دون تجاهل حقيقة أنه «توجد حقائق ثقافية تتجاوز العلاقات الاجتماعية المحلية التي ينخرط فيها الفاعلون، والتي تؤثّر في تاريخ مجتمعاتهم»[3].
ولا ننشد في هذا الكتاب معالجة هذه العمومية؛ أي المتخيّل الاجتماعي عمومًا، بل سنعالجها في سياق موضوعنا على نحو أقرب إلى الدور الذي يفرده تشارلز تايلر للمتخيل الاجتماعي؛ بمعنى «الطريقة التي يتخيل بها الناس العاديون محيطهم الاجتماعي، وهذا ما لا يجري التعبير عنه على نحو نظري غالبًا، لكنّه يكون محمولًا في الصور والقصص والأساطير»؛ «إنه ذلك الفهم المشترك الذي يجعل الممارسات الاجتماعية ممكنة، إضافة إلى الإحساس المشترك بالمشروعية»[4]، ويتجاوزه في الوقت ذاته إلى إنتاج الجماعات المتخيلة كما سوف نبيّن. ونأمل أن يُغني هذا البحثُ النظريةَ في المتخيلات الاجتماعية وشروط استثمارها السياسي وعلاقتها بالدولة. والمتخيل الاجتماعي المقصود في حالة الطائفة هو تصور التبعية (المولودة غالبًا) لدين أو مذهب بالاشتراك مع ملايين البشر، الذين لا يعرفون بعضهم، ولم يشكلوا يومًا جماعة بوصفها انتماءً إلى طائفة اجتماعية دينية كبرى بناء على ماضٍ مشتركٍ من المرويات والقصص والأساطير، وما يترتب عليه من ممارسات وفهم محدد للمشروعية.
نحن نميّز بين الطائفية الاجتماعية والطائفية السياسية، على الرغم من التداخل بينهما في المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة، حيث لا تنفصل العناصر السياسية عن العناصر الاجتماعية في الجماعات الأهلية، وحيث تكون السياسة بما هي سياسة شأنًا سلطانيًا أو ملكيًا فحسب. وفي حالة المجتمع التقليدي لا معنى للفصل بين طائفية سياسية واجتماعية، وحتى بين طائفية وطائفة، ولا وجود لطائفية بوصفها أيديولوجيا منفصلة عن البنية الاجتماعية ذاتها. لقد أصبحت ظاهرة الطائفية السياسية ممكنة في المجتمعات الحديثة التي لم تُنجِز فيها سيرورة الحداثة علمنةَ الوعي الاجتماعي، أو، على الأقل، لم تتراجع فيها أهمية الروابط الأهلية لمصلحة الروابط التعاقدية على مستوى المجتمع المدني، ولا لمصلحة العلاقة بالسلطة والدولة.
وسوف نبحث في علاقة الطائفية السياسية بتشكّل الطوائف الدينية بوصفها كيانات اجتماعية تاريخية سابقة عليها؛ ولكن موضوعنا الرئيس هو كيفية تشكيل الطائفية لطوائف دينية معاصرة، هي في الحقيقة كيانات متخيلة. نتعامل مع طوائف هذا العصر الدينية كواقع متخيّل يقوم على انتماءات قائمة فعلًا «تبعثها» الطائفية السياسية انطلاقًا من عناصر انتقائية في تاريخ الجماعة، وتعيد إنتاجها على مستوًى مختلفٍ كليًا، في شروط تاريخية – سياسية جديدة، وبوظائف جديدة.
يتطلب هذا الجهد بحثًا مقارِنًا بين بعض النماذج التاريخية. ويتمحور هذا البحث حول الطائفية في الأقطار العربية، وتنطلق المساهمة النظرية من استقرائها مقارنة بتجارب أخرى، ويجري تطوير المفاهيم والمساهمة النظرية من تجربتها، وليس من التجربة الأوروبية، ولكن من خلال التفاعل مع المفاهيم النظرية التي طُوِّرت في بحث الحالات الأوروبية، وبيان صلاحيتها التنميطية من عدمها (وغالبًا عدمها) في السياق الذي نعمل على فهمه.
لا يأتي هذا الكتاب مصادفة، ولا يقوم مؤلفه بتمارين نظرية في فراغ وجداني، بل يحاول الإجابة نظريًا بأدوات التحليل العلمي عن أسئلة، يتميّز بعضها براهنيته وإلحاحيته في ظروف تستعر فيها سجالات كلامية – أيديولوجية – سياسية بوسائل إعلامية، ومواجهات أخرى دموية بوسائل قتالية. فالمشرق العربي، ولا سيما في العراق وسورية واليمن (وسبقهم لبنان)، يعيش مرحلة يبدو فيها، كأنه دخل أتون حرب أهلية طائفية تشبه في بعض الوجوه حرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوروبا، ويؤرَّخ لها عادةً في الفترة 1618-1648؛ وهي الحقبة التاريخية التي شهدت فيها أوروبا تداخلًا بين الصراع المذهبي، الذي تحوّل إلى صراع سياسي (والعكس أيضًا)، والنزاع بين السلطات الزمنية (الأمراء) من جهة، والكنيسة والإمبراطورية الرومانية المقدسة من جهة أخرى، وبين ملوك إسبانيا وفرنسا والسويد أيضًا، بحيث لم يعد حل الصراع بين الأمراء البروتستانت والكاثوليك في وسط أوروبا ممكنًا من دون تسوية الصراعات بين الممالك الكبرى في وستفاليا، واعتماد الدولة الوطنية حلًا للمسألة الطائفية.
ولا تقتصر النزاعات الطائفية، أو التي تتخذ شكلًا طائفيًا، على بلداننا، فيكاد لا يمر شهر من دون أن نسمع أخبار نزاعات (بين هندوس ومسلمين وسيخ، وسنة وشيعة) في شبه القارة الهندية، وكذلك في أفغانستان. وشهدت جمهورية أفريقيا الوسطى أعمال قتل وتهجير جماعيين وصفت بأنها كانت على خلفية إثنية وطائفية، وذلك خلال عامي 2013-[5]2014. وتبدو كلها من بعيد اشتباكات طائفية، فهذا طابعها مع أنّ لها أسسًا اجتماعية سياسية. وثمة تداخل بين السياسة والطائفية. واتخذ الصراع السياسي في العراق شكل اقتتالٍ طائفي منذ عام 2006، ومعسكرات طائفية في العملية السياسية. ولم يعد ممكنًا تجاهل المسألة القبطية في مصر التي تشهد من حين إلى آخر حوادث عنفٍ طائفيٍ في مناطق يعيش فيها مسلمون ومسيحيون أقباط، ولا تخلو مواقف التأييد والاستنكار لهذه الأفعال من اللغة الطائفية التي لا تسلّم بالمواطنة المتساوية.
شهد لبنان حربًا أهلية طويلة نسبيًا (1975-1990) اتخذت أشكالًا طائفية، ولم يخلُ الاقتتال الأهلي الشرس من ارتكاب مجازر جماعية وأعمال تطهير ديموغرافي. وانتهت تلك الحرب بتسوية دولية إقليمية طائفية/سياسية في اتفاق الطائف (1989). ولكن لبنان أصبح أكثر طائفية بعد تطبيق اتفاق الطائف ومأسسته دستوريًا. وأصبحت الطوائف اللبنانية الفاعل السياسي الحصري في السياسة اللبنانية، ولم يطبَّق الهدف المنصوص عليه في الاتفاق وهو إلغاء الطائفية السياسية في مرحلة لاحقة. وبعد لبنان، تورط العراق في حرب أهلية دامية إثر الاحتلال الأميركي، اشتدت منذ عامي 2006-2007 بشكل أكثر تحديدًا.
وبعد أن كانت الطائفية محصورةً في بلد صغير هو لبنان في حربه الأهلية الطويلة حتى اتفاق الطائف، ظهرت بوادر هذه الحرب على المستوى الإقليمي بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وتغلغل النفوذ الإيراني فيه مسلحًا أيديولوجيًا بنظرية «ولاية الفقيه» الشيعية الممأسسة في أجهزة دولة ذات مصالح قومية على المستوى الإقليمي المحيط بها على الأقل، وفي أساس القانون الدستوري الإيراني. وقبل ذلك كان الصراع الإيراني – السعودي منذ الثورة الإيرانية قد ساهم في تطييف الخلاف السياسي حيثما حل تأثيره؛ من شبه القارة الهندية حتى المشرق العربي. ثم انتشرت الطائفية كالنار في الهشيم بعد أن هزَّت الثورات والانتفاضات الشعبية النظام العربي، وهيبة الدولة عام 2011.
وفي سورية، كانت الطائفية الموضوع الحاضر دائمًا والمسكوت عنه في الوقت ذاته؛ الفيل الأبيض المنتصب في غرفة المجال العمومي، الذي يتظاهر الجميع أنه لا يراه. يُصمت عنه في هذا المجال، ويعوض عن ذلك بالتعبير عنه بحدة ومبالغة في المجال الخاص. ولا شكّ في أنّ الصراع في سوريّة أكثر تعقيدًا وتركيبًا من أن يُعتبر صراعًا طائفيًّا، ولكن تجاهل العنصر الطائفي، أو عنصر الهويّة الطائفيّة في الصراع على يد ناشطين ديمقراطيين، ولا سيّما من اليسار والتيارات المدنيّة في الثورة السورية، فيه قدر من السذاجة، أو التساذج تجنبًا للخوض في الموضوع، ولم يساهم كثيرًا في فهم الصراع[6].
روّج النظام السوري لسرديّة مفادها أنّ أجيال السوريين الأخيرة تعالت عن الخلافات الطائفيّة، وأنّ النظام السوري الحالي هو ضمان للسلام والتعايش بين مختلف الطوائف تحت شعار الوحدة الوطنية، وأنّ أي تهديد لهذا التعايش هو تهديد خارجي من عملاء أو وكلاء لمؤامرات خارجيّة. في مقابل هذه السرديّة، نشأت سرديّة المجالس الخاصّة التي تُقسّم الفاعلين السياسيين إلى سنّة وعلويين في سورية، وسنة وشيعة على مستوى المنطقة، وأخيرًا دروز ومسيحيين وإسماعيليين. واستنادًا إلى السرديّة الأولى، كانت تهمة التحريض الطائفي تُوجّه إلى المعارضة في المحاكم، وينجُم عنها عقوبات في السجن لسنوات عديدة. ومنذ بداية الثورة رُوّجت في دمشق شعارات مشبوهة مثل «العلويين عالتابوت والمسيحيين عبيروت»، وطرح بشار الأسد نفسه كحامٍ للأقليات، وجرى التحذير في الخطاب الرسمي عدّة مرات من صعود الطائفية في اتهام سافر استباقي لأي تحرك شعبي يطالب بالعدالة والحرية أو يعارض الاستبداد والفساد. وجرت على نحو مدروس مخاطبة خوف الأقليات من الأكثريّة في حالة سقوط النظام. كما خوطب خوف القوى المدنيّة والعلمانيّة، بما فيها السنية، من احتمال سيطرة التيارات الإسلاميّة على سوريّة. وحاولت القوى المدنية في الثورة إفشال هذه الدعاية بدعاية مضادة تتلخص بشعار «الشعب السوري واحد». ولكن خطاب الفصائل الإسلامية، وذلك المنبعث من بعض الفضائيات المؤيدة للثورة، أكد المخاوف، وعزز خطاب النظام أنه المدافع عن الأقليات.
وبرزت في الثورة السورية بعد عامين على وقوعها – ومنذ تحولها إلى العسكرة بسبب قمع النظام، و«اختطاف» بعض التنظيمات الجهادية المتمرسة بعمليات التعبئة والتنظيم والتحكم والسيطرة للثورة – نبرةٌ طائفية تتلخص بالتعبئة ضد النظام على أساس كونه نظامًا أقلويًا علويًا يقمع السنة. وعلى الرغم من أنه نشأت في سوريّة هويات كثيرة غير الانتماءات الطائفيّة، فثمّة هويات محليّة مرتبطة بالبلدة والمدينة، مثل حمصي ودمشقي وحموي وحلبي، بحيث تجمع الطوائف المختلفة، كما أنّه توجد علاقات تبادل متينة جدًا بين السوريين من أبناء الطوائف المختلفة. ولكن هذه العلاقات تراجعت أمام مخاوف السوريين الحالية. لقد أصبحت أغلبيّةُ سكان سورية، من المقيمين والمهجّرين، تشعر بأنها مهدّدة من جميع الاتجاهات، من النظام والتيارات الإسلامية المتطرفة، ومن الطوائف الأخرى، ومن الطائفية ذاتها. ولا يجوز تجاهل هذه الحالة النفسية.
وتمكّنت حركات دينية متشدّدة من استغلال النقمة الطائفية في العراق وسورية، فاختلطت التعبئة الدينية من أجل إقامة دولة إسلامية بعد التخلص من الاستبداد بالمشاعر الطائفية. وبذلك لم يعد الموضوع الطائفي في المنطقة العربية مجرد تمويه لصراعات أخرى، طبقية أو وطنية ضد المستعمِر، وأصبح من الضرورة تناوله بالبحث التاريخي والتحليل النقدي النظري أيضًا.
كانت الطائفية كامنة في بنية الدولة الهشة بنيويًا «القوية» ظاهريًا في سورية أيضًا، وفي بعض دول الخليج، حيث سهلت هذه الهشاشة البنيوية على نخب سياسية ودول إقليمية استدعاءها للدفاع عن النظام القائم وللتحشيد ضده، لأن التفسير الطائفي لنظام الأشياء في الدولة ولبعض خطواتها وإجراءاتها كان قائمًا في وعي الناس، مكبوتًا أو معبرًا عنه في المجال الخاص، وأيضًا لأن عاطفة المظلومية الطائفية وأيديولوجيتها المستحضرة في حمى الصراع كانتا قائمتين في ذهن الحكام والمحكومين. ومن هنا اشتركت النظم السياسية في أقطار الوطن العربي (التي تخمَّرت فيها الطائفية أو اندلعت) بتأكيد شعار «الوحدة الوطنية»، الذي يموّه الإحساس بالهشاشة الاجتماعية والوطنية.
يضاف إلى ذلك أن الدولة الحديثة العربية، غالبًا ما نشأت في إقليم لم يمثل وحدة جغرافية – سياسية. وكان تأسيس الدولة الحديثة قطعًا لعلاقات أقاليم دولتها مع أقاليم مجاورة لها كانت تشكّل معها وحدة جغرافية وديموغرافية. فأصبحت هذه الأقاليم خارج الحدود السياسية. ونشأ عنها قضايا الخلاف الحدودية، فلا تكاد أي دولة عربية تخلو من هذا النزاع مع دولة عربية مجاورة أو أكثر لها. وفي المقابل، عنى تأسيس الدولة إنشاء علاقات بين أقاليم أكثر بعدًا، لم تشكل وحدات جغرافية وديموغرافية، ولم يقم بينها تواصل اقتصادي وثقافي وثيق. وساهم هذا القطع مع أقاليم، والدمج مع أخرى، في توليد الشعور بالمظلومية الجهوية أو الإقليمية، التي لا تلبث أن تشهر اختلافها الديني أو المذهبي مع الأقاليم الأخرى في الدولة، ولا سيما في حالة الجهات التي تطغى عليها إثنية أو مذهب، وتتضخّم المظلومية في حالة التفاوت في التمثيل السياسي.
لقد شهد جيل كامل بأم العين عملية تشتيت الصراع ضد الدكتاتوريات والأنظمة السلطوية في المشرق العربي بإخضاعه إلى صراع بين محاور إقليمية (إيرانية وسعودية) تتبنى خطاب الشحن المذهبي والطائفي، وسنحت له فرصة معاينة فعل السياسة الدولية في إثارة الطائفية. وقد ساهم هذا الاستقطاب في تهميش مطالب الشعوب وتطلعاتها إلى الكرامة والحرية.
واتخذ توسع النفوذ الإيراني في المشرق العربي شكل العمل في أوساط التجمعات السكانية الشيعية متوقعًا منها الميل إلى إيران الذي قد يصل حد الولاء، كما اتخذ الشكل الأخطر من ناحية حساسيّته في إذكاء الطائفية، وأقصد محاولة التشييع المذهبي والتبشيري وليس السياسي فقط لبعض الجماعات بما فيها فئات سنية. إن محاولة تشييع فئات سنية هو ما جرى على نحو نموذجي في بعض البلدات والقرى السورية، وفي أوساط العمال السوريين في لبنان، ولا سيما الأكراد المحرومون من الجنسية (البدون)[7]. وقابل ذلك النشاطُ التبشيري للجماعات السلفية. وهكذا بدلًا من سياسة «التقريب بين المذاهب» التي بدأت منذ أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، أحلت النشاطات التبشيرية المذهبية الإسلامية السلفية، الوهابية خصوصًا، والشيعية في المجتمعات الإسلامية تعزيز التباين حتى «التكفير». ولكن إيران دعمت عمومًا التيارات الإسلامية داخل المجتمعات الشيعية، مثل المجلس الأعلى الإسلامي العراقي وحزب الدعوة الذي تأرجحت علاقته بإيران تاريخيًا، وحزب الله في لبنان الذي يعتنق شرعيًا نظرية «ولاية الفقيه» الرسمية أو المرسّمة في إيران. كما دعمت إيران، في إطار استراتيجيتها الإقليمية المتنافرة مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، حركات مقاومة غير شيعية مثل حماس والجهاد الإسلامي، ونظام استبداد علماني مثل نظام حافظ الأسد. وتبنى المحور السعودي خطابًا محافظًا معاديًا للثورات والتحولات السياسية في العالم العربي، إلا أنه انحاز إلى الثورة في سورية فقط بسبب الصراع مع إيران المعبّر عنه بلغة مذهبية صريحة في الخطاب الإعلامي. وراهنت القوى الإسلامية السياسية غير الشيعية في المقابل على تركيا، بعيد انكفاء الدول العربية عن تأدية دور في العراق بعد الاحتلال، وفي مرحلة بروز ما بعد الكمالية فيها، أي حكم العدالة والتنمية، ونسجت توقعاتٍ وآمالًا بأن تكون داعمة للسنة مثل دعم إيران للشيعة. وسبّب ذلك كثيرًا من سوء الفهم والخيبات نتيجة للفرق المؤسسي البنيوي الشاسع بين النظام السياسي «الإكليركي» في إيران، والعلماني في تركيا.
وهذا لم يمنع تركيا، وهي الدولة القومية في الإقليم، من إقامة العلاقة بالحركات الإسلامية، وبخاصة الإخوان المسلمين، ودغدغة المشاعر السنية من حين إلى آخر ضمن مصادر النفوذ والتأثير، والاستخدام الأداتي لأهداف سياسية قومية في المنطقة؛ بينما اصطدمت السياسة السعودية (وما زالت تصطدم) بمشكلة مؤسساتها التاريخية الأيديولوجية المولّدة للفكر السلفي، وتهديد خريجيه الراديكاليين لأمنها الاجتماعي والسياسي. ومع ضعف الدول العربية، ولا سيما في مرحلة الثورات منذ عام 2011 (أو بعد حرب عدوانية كما في حالة الحرب على العراق عام 2003) وضعف الدولة من دون ثورة في لبنان، نشأت حالة تداخل بين الصراع الإقليمي والتقسيمات الطائفية في البلدان العربية، ما هدّد بالعودة إلى حالة الصراع السابقة بين العثمانيين والصفويين وتأثيراته الهدامة في النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية، حيث تعيد بعض الجماعات والقوى تخيل الصراعات ذات الطبيعة المذهبية السنية – الشيعية اليوم في ضوء فهم غير علمي ولا تاريخي (أسطوري غالبًا) للصراع العثماني – الصفوي.
لم تكن الطائفية، ولا حتى المظلومية الطائفية، تحتل الصدارة في المشرق العربي في الماضي القريب، فقد حيّدتها تفسيرات أخرى لطبيعة الدولة وسياساتها مسنودة بأيديولوجيات غير طائفية غالبًا، وانتماءات أخرى همشت الطوائف بين الانتماء المحلي والانتماء الوطني والقومي، وتغلّب عليها أحيانًا حتى الانتماء الحزبي السياسي القومي أو اليساري. وبدا كأن الطوائف الدينية، بوصفها كيانات اجتماعية – سياسية، متجهة إلى زوال. ولكن الطائفية ظلت قائمة في الخفاء أو العلن. وعندما سنحت لها الفرصة التاريخية، للتحول إلى خطاب سياسي ووعي يحكم القيم السلوكية في الحياة اليومية، أعادت إنتاج الطوائف على نحو مختلفٍ كليًا عما كانت عليه، كما أسلفنا. لقد أعادت إنتاجها طوائفَ متخيّلةً.
ينزع اليساريون والقوميون، بل الوطنيون عمومًا، إلى تجنّب بحث موضوع الطائفيّة، وكأنّ بحث الموضوع يوقظ هذا التنين من سباته، على نحو غدا فيه محرّمًا، أو غير مقبول في الحد الأدنى، كأنّ ذكر الطائفة ذاتها عبارة عن «حجاب» أو تعويذة يطلق النطق بها أشباحًا من أقبية المجتمعات، أو يوقظ ذكرياتٍ وخصومات قد تهدد وحدة الأمة، فهي إذا وقعت يكون لها فعل لعنة سحرية لا فكاك منها.
ويسود مثل هذا التهيّب من الخوض في الموضوع والتردد في معالجته حتى في زمن سفور الصراع الطائفي. ويصل التطهّر من أي لوثة طائفيّة إلى درجة تطهير الشعب كلّه وحتى تاريخ البلاد من أي نوع من الطائفيّة، وذلك بادعاء التآخي والتعايش الدائمين بأثرٍ تراجعي في التاريخ، وأيضًا باعتبار الشعب والثقافة المحليّة مسالمين بطبيعتهما وبريئين من أيِّ خلافٍ طائفي راهن. فالشعب، من هذا المنظور يعني الوحدة، وقد كان دائمًا موحّدًا ومسالمًا وطيِّبا بحكم تعريفه، أما الطائفية فما هي إلا من صنع أيد خفية، ووليدة مؤامرةٍ خارجيّة[8].
تشمل الاعتراضات الشائعة على التركيز على مسائل الأقليات[9] في الأدبيات المختلفة، مساءلة المعايير التي بموجبها تضع حدود هذه الهوية ومن تشمل، ونبذ جماعات الهويّة بوصفها جماعات متقادمة تاريخيًّا وذات راهنيّة أقل من الاصطفاف الطبقي، وانقسامات الريف والمدينة مثلًا، والمساءلة، المحقة غالبًا، لتعريف الجماعات على أساس ديني لأنه يقسّم الدولة – الأمّة ويشظيها، خاصّة إذا اتبع هذا التعريف في الحياة السياسية. يقول باحثان إنّه من المفترض أخذ هذه الاعتراضات في الاعتبار، ومع ذلك لا بدّ من موازنتها بخطر تجاهل الادعاءات المؤسّسة على الهويّة، والتي يُدّعى أنّها تندرج ضمن الهويّة الوطنيّة. فخلال ستين عامًا من بناء الأمة ما بعد الاستعمار، ومنذ إنشاء الأمم المتحدة هيمنت عمومًا الأكثريات المسيطرة وأقصيت الجماعات غير المسيطرة. إنّ إثارة قضايا الهويات الجماعيّة داخل الدول حيث هي قائمة، أو في الدول التي توجد فيها، وذلك بخطابات مختلفة حول الحقوق السياسيّة قد يساهم في إخماد الصراعات وليس إشعالها[10]. ونحن في بحثنا هذا نتفق مع هذه المقاربة، أي إن التعامل مع التنوع وعدم إنكاره هو الطريق لمعالجة القضايا المترتبة عليه. ولكننا لا نقبل بـ «المسلمة» القائلة إن الأكثريات المسيطرة حكمت في البلدان المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية. فقد حُكِم باسمها، ولم تحكم. وربما تبدو هذه مقولة بديهية في حد ذاتها. ولكن كونها بديهية لا يعني أنها غير مهمة. فمن الضروري تأكيدها في تفكيك سياسات الهوية التي توهم المنتمين إلى «نحن» و«هم» كأنهم حاكمون ومحكومون، ما يساهم في تأجيج العصبيات، ومنها الطائفية. كما لا نقبل أنها دائمًا أكثريات. فغالبًا ما شعرت الأكثريات بأن من يحكمها أقليات. مع أن المنتمي إلى أقلية لا يحكم باسمها، بل يفعل ذلك غالبًا باسم الأمة أو الشعب. ولا بد من تفكيك هذه الإشكالية أيضًا في سياق التعامل مع التنوع والتعددية في الدول العربية.
وفي الوقت الذي يعتبر فيه الوطنيون أنّ الهويّة الوطنيّة والقوميّة هي القاعدة، والهويّات الفرعيّة هي الطارئة، غالبًا ما يعتبر الخطاب الاستشراقي الغربي الهويّات المحليّة أو القبليّة هي الطبيعية، أو حتى الحقيقية، وأنّ القوميّة والوطنية في البلدان العربية مصطنعة، أو حتى زائفة. وكأنها لم تُصطَنَع تاريخيًا في الغرب نفسه قبل أن تصبح «طبيعية» في بلادهم و«مصطنعة» في الشرق.
والحقيقة أنّه ثمّة تداخلٌ وتعايشٌ وتكاملٌ وتناقضٌ وتصارعٌ بين مركّبات هذه الهويّات، فلم تنشأ الواحدة مكان الأخرى تمامًا، بل تجاورت الهويات وتداخلت في كثيرٍ من الحالات على الرغم من هيمنة هويّة على أخرى في مراحل تاريخيّة محددة وظروفٍ معيّنة. فالعروبة ثقافة مشتركة وهوية قائمة لا يمكن إنكارها في المجتمعات العربية، وحتى في حالات الثنائية اللغوية في المجتمعات العربية بالنسبة إلى من ينحدرون من أصول إثنية غير عربية مثل الكرد في المشرق العربي، والأمازيغ في بلاد المغرب العربي الكبير، وغير العرب في جنوب السودان أو موريتانيا؛ إذ غدت الثقافة العربية الإسلامية من المكونات الداخلية لتلك الهويات الجماعية أُلفةً وتوترًا. ويؤدي إنكارها في المجتمعات العربية إلى تشوّهات كثيرة، ولكنّها تضعف وتقوى بحسب الواقع الاجتماعي والسياسي، بما في ذلك أيديولوجيا الأنظمة الحاكمة ومواقفها.
ويجمع الميل لتثمين الأصالة ورفض اعتبار الكيانات البشرية الجديدة «واقعًا حقيقيًّا» بين المستشرقين والأصوليين في الوقت ذاته، فكلتا الجماعتين تعتبران أن «الحقيقي» هو القديم المفترض وليس الحديث، مع أنّه غالبًا ما يكون «الحديث» هو الحقيقي، و«القديم» هو المفترض والطارئ. بمعنى أنّ تفسيرات معاصرة معيّنة للقديم تسقطه بشكل انتقائي على التاريخ بشكلٍ تجعل منه طارئًا عليه. وبهذا المعنى، فإن «القديم» قد يكون مصطنعًا ومفترضًا ومتخيلًا. فيمكن القول مثلًا إن فرض معنى مصطلحات مثل «الطائفة الدينية» أو «الدولة» بدلالاتها الحالية على كيانات اجتماعية تنتمي إلى مراحل تاريخية سابقة، هو إسقاطٌ على التاريخ. ومن ناحية أخرى، فإن الطوائف الدينية ذاتها «تُفرَض» على الواقع الجديد باستخدام أدوات حديثة مثل السياسة، والصراع على المصالح والنفوذ محاصصةً في الدولة، والإعلام والأحزاب الطائفية. وهذه الأدوات تجعل من الطوائف الدينية ظواهر مختلفة تمامًا عما كانت عليه.
يُصِّر عددٌ كبير من المستشرقين على التعامل مع الكيانات السياسية التي تولّدت بعد الاستعمار كتجمعات مصطنعة «غير عضوية» (Unorganic) مؤلّفة من جماعات تراحمية عضوية (Organic) كالطوائف والعشائر. وكأن هذه الأخيرة بقيت كما كانت منذ سجّلها التاريخ. ويفترض المتدينون الأصوليون وحدة أمة دينية سابقة على الانقسام الحالي، أما القوميون فغالبًا ما يفترضون تاريخًا قوميًا جامعًا موحدًا لفئات لم تكن موحدة في الماضي، مثلما يسقط اليساريون مصطلحَي «الشعب» و«الطبقة» على ماضيها، كأن الشعوب كيانات اجتماعية سياسية كانت دائمًا قائمة في مقابل الدولة، أو يفترضون مصطلح الطبقة (الاقتصادية المحضة) من النظام الرأسمالي في القرن التاسع عشر ويسقطونه على الفئات الاجتماعية في الماضي ما قبل الرأسمالي، حيث لم تكن ثمة طبقات اقتصادية محضة؛ إذ كانت البنية الاقتصادية متضمّنةً في البنى الاجتماعية.
وإضافة إلى الثقافة العربية المشتركة، تبلورت في بعض الدول العربية مشتركات تجمع بين سكانها. وتشكّلت هوية وطنية متفاوتة الصلابة. وهي نفسها منقسمة في حالات كثيرة. ففي لبنان ثمة وطنية لبنانية مارونية ووطنية لبنانية سنية، ونشأت مؤخرًا وطنية لبنانية شيعية تتميز منهما. ولكلٍ من هذه «الوطنيات» تفسيره المختلف للتاريخ والحاضر لتاريخ لبنان وحاضره، ويحمل ذاكرة مختلفة. وحاليًا تنشأ «وطنيات» عراقية ذات علاقة بالانتماء الطائفي. وتسقط هذه الطائفيات صراعها الراهن على التاريخ، محاولة إثبات حق الأولوية على الأرض، والفضل في نشوء الكيان السياسي، وادعاء المظلومية الدينية والتاريخية.
وإذا اعتبرنا الطائفية تحديدَ الفرد لهويته بالتعصب لانتماء ديني أو مذهبي إلى الجماعة أو الطائفة، بحيث يتحدد بموجبها سلوك الفرد تجاه بقية الأفراد داخل جماعته هذه وخارجها، أو إذا اعتبرنا الطائفيّة «تحديد الأعمال والسلوكيات والممارسات بواسطة الإيمان بالفوارق الدينيّة الناجمة عن جعلها حدودًا تمثّلُ التراتبيّة الاجتماعيّة والصراعات»[11]، وذلك في حالة وجود تديّن وصراعات دينية فعلًا، فيمكننا القول إنه، على مستوى الهوية، لم تكن الطائفة الدينية دائمًا إطار التعريف حتى حين كانت الثقافة الدينية هي السائدة.
فحتى في ظل هيمنة ثقافة دينية، أدت بنى اجتماعية مثل القبيلة والعشيرة والعائلة الممتدة أدوارًا أكثر أهمية كثيرًا في حياة الفرد، وكان لها أثرٌ كبيرٌ في تحديد هويته وسلوكه في الماضي. وثمة أدلة تاريخية على أن بعض العشائر العربية والكردية كانت متعددة مذهبيًا ودينيًا، وأن المذاهب تعايشت في إطار العشيرة الواحدة، من دون أن تتحول إلى طوائف تفكك العشيرة.
إن التحول إلى عصبيّة الجماعة على أساس الدين، وليس القرابة (أو ما كان يسمى قرابة الدم)، هو ما ميّز الفِرَق الدينية الصغيرة، أو المنشقة على الأقل، كما ميّز الأقليات التي شدَّ الاضطهاد والتمييز الديني من عصب انتمائها. ولكن غالبًا ما ساهم في ذلك وجود قاعدة عشائرية أو قبلية للفرقة الدينية في بعض الحالات كما سوف نرى. فقد كان سر نجاح استمرار الفرق أو الطوائف في العصور الوسطى الإسلامية ذلك اللقاء بين علاقة القبيلة والمذهب، أو الفرقة؛ أي إن الفرقة التي لم تتماه مع قبيلة، أو بنية اجتماعية، أو مناطق ريفية محدودة التواصل والتبادل مع غيرها من المجتمعات يصعب أن يكتب لها الاستمرار. وهذا هو سبب صمود فرق الخوارج والإسماعيلية والقرمطية طوال فترات طويلة نسبيًا. ولكن هذه العصبية لم تميز الانتماء إلى مذاهب وديانات كبرى. فهذه كانت فرقًا في بداياتها، وربما تطابقت مع عشائر وبنى أهلية أخرى في تلك البدايات. ولكنّها، منذ أن أصبحت ديانات كبرى، لم تتحول إلى «طوائف»، بمعنى «جماعات»[12]، أو كيانات اجتماعية، إلا في الحداثة. وهو ما قد يسمى في عصرنا انتماءً طائفيًا، أو هويةً طائفيةً. وثمة ظروف تاريخية محددة لبروز الطائفة الدينية جماعةً مرجعيةً للفرد، ومن ثمّ نشوء الطائفية كأيديولوجيا.
لقد بلغ الانقسام الاجتماعي السياسي حدّ إيحاء المحللين ووسائل الإعلام الشعبية للرأي العام في بلدان المشرق العربي أن الطائفية هي في الحقيقة عودة إلى حقيقة المجتمعات العربية وتاريخها، وكأنها جوهر هذه المجتمعات الثابت، وما كنا نعيشه من حالة الحركات الوطنية والدولة والأحزاب وغيرها هو الوهم. ومن هنا تكمن أهمية دراسة موضوع الطائفة والطائفية وعلاقتها بالدولة. فهل الطائفة جماعة قائمة فعلًا بوصفها جماعةً في الحياة اليومية؟ أم جماعة متخيلة، لا تقل خيالية (بمعنى نتاج المخيلة) عن القومية بوصفها جماعة، مع الفارق في تحديد جماعة الانتماء ووظيفتها التاريخية والاجتماعية الراهنة وعلاقة الدولة بكل هذا.
فتاريخيًا كان منطق الدولة هو الإجابة النظرية والتاريخية عن الحروب الدينية الأوروبية؛ حروب المئة عام ثم حروب الثلاثين عامًا. ومن هذه الزاوية التاريخية يمكن القول إن الطائفية في العالم العربي اليوم تعبر عن سيرورة معاكسة للتجربة الأوروبية، أي إنّ فشل الدولة الوطنية معطوفًا على الصراعات الإقليمية أدى إلى الطائفية السياسية ونشوء الطوائف المتخيلة.
في أوروبا، قادت الحروب الدينية إلى الدولة بحثًا عن السلم الأهلي. وفي العالم العربي، قاد فشل الدولة إلى الطائفية السياسية. ولا نعرف إجابة عنها في الحالة العربية سوى الدولة، ولكن المقصود ليس الدولة التي فشلت، بل دولة المواطنين.
كان تثبيت مؤسسات الدولة في أوروبا هو الجواب عن الصراعات الطائفية والحروب الدينية. وكانت الدولة الوطنية ومعها أيديولوجيات وظواهر اجتماعية سياسية وثقافية مثل الوطنية والقومية والتسامح إجابات حديثة عن الطائفية. وثمة فرق، على كل حال، بين وظائف هذه المتخيلات الاجتماعية الكبرى. فتخيل الرابط القومي كأنه جماعة قاد غالبًا إلى التوق إلى السيادة على أرض محددة، في حين أن الطائفة الدينية لم ترتبط بفكرة السيادة تاريخيًا، وحين استُخدمت لتغذية النزعات الانفصالية، إنما كان ذلك قومنة للطائفة الدينية.
أولًا: الجماعة والجماعة الطائفية المتخيّلة
إن مهمة التمييز بين الجماعة والجماعة المتخيلة في حالة الطائفة هي أكثر صعوبة وتعقيدًا من التمييز بينهما في حالة الأمة، لأنه حتى أصغر الأمم هي جماعة متخيلة كما سبق أن اقتبسنا من بندكت أندرسن. ولكن كانت ثمة طوائف دينية صغيرة يمكن اعتبارها جماعة أهلية أو جماعة محلية، وذلك في الممارسة الحياتية اليومية المباشرة. وثمة طوائف دينية محلية تجتمع غالبًا على طقوس وشعائر وأعراف. ومن هنا تبدو صعوبة إقناع الإنسان المنتمي إلى طائفة دينية متخيلة عابرة للحدود، مثل «السنّة» و«الشيعة» و«المسلمين» و«المسيحيين» والكاثوليك، أو إلى طائفة الروم الأرثوذكس (في سورية واليونان وروسيا سويةً مثلًا)، بأنه ربما يؤمن بمذهب، أو بدين واحد مشترك، أما الطوائف الدينية هذه التي ينتمي إليها، فهي جماعات متخيلة؛ إذ هو يصنعها بهذا الانتماء المتخيل ذاته.
المشكلة أن الطائفية المتولِّدة في الحاضر تقوم عمليًا بإنتاج الطوائف بتحويل الانتماءات الدينية والمذهبية هذه إلى جماعات متخيلة تشكّل مرجعية سياسية للأفراد الذين ينتمون إليها، وذلك في بلدان انقرضت فيها الطوائف ككيانات اجتماعية، وأيضًا في بلدان أخرى لم تتشكل فيها طوائف دينية كبرى ككيانات اجتماعية من قبل أصلًا. الطائفية في عصرنا تنتج طوائفَ هي جماعات متخيلة، وذلك خلافًا لتصورات رائجة حول مجرى الأمور. فهذه تهيِّئ لنا أن الطبيعي هو أن الطوائف تنتج الطائفية.
وإذا كانت الطائفية في عصرنا تنتج الطوائف، فالأخيرة تبدو راهنًا انتماءاتٍ متجاوزة للجماعة الأهلية أو المجتمع المحلي ((Community إلى جماعات كبرى هي في الحقيقة غير قائمة على شكل كيانات اجتماعية، لولا تخييلها وإعادة تخيّلها وإنتاجها بواسطة الطائفية كأنها جماعة متجانسة ذات تاريخ مشترك ومتميز ومصالح مشتركة، ومن ثمّ أهداف مشتركة. ولهذا يبدو من الطبيعي أن تكون عنوان انتماء الفرد، وأن يحدد هذا الانتماء مواقفه في شؤون عديدة، مع أن هذا الانتماء ذاته هو الذي يصنعها بنسب هذه المعاني إليها. فهي غير قائمة من دونه.
إن مهمة الطائفية الأولى هي إذًا استدعاء الانتماء الطائفي لدى الفرد، ومنح الانتماء هذه المعاني، وفي مقدمتها الـ «نحن»، ودائمًا في مقابل «هم». يحتاج ذلك إلى أدوات مثل استثمار الماضي، وفرض سردية محددة عليه واستخلاص رموز منه ومنحها معانٍ جديدة، وكذلك صنع رموز في الحاضر، مثلما تشكلت الطائفة الدينية في الماضي من إيمان بدين أو مذهب، وطقوس دينية مشتركة تعيد تصوير العقيدة وتتيح للفرد ممارستها.
الطائفة في الأصل جماعة محلية أهلية. ولكن الطائفيّة داخل الدولة الوطنيّة الحديثة تعني جماعةً كبيرةً من السكان لا يلتقيها الإنسان في حياته اليومية، ولا يتواصل معها بوصفها جماعة مباشرة، بل يتخيلها كأنها جماعة كهذه بالانتماء بواسطة الطقوس والشعائر والأعياد الدينية المتزامنة؛ كما يجري تخييل مصلحة واحدة للطائفة في العلاقة بالدولة لناحية حساب حصتها في الدولة ونصيب أعضائها فيها، وتخييل ماضٍ مشترك للطوائف ومتواصل تاريخيًا ويشمل مظلوميات وشهداء وأبطال وأصحاب إنجازات يتم التركيز على انتمائهم الطائفي (حتى لو لم يَعن لهم شيئًا في حياتهم)، وأماكن مقدسة دينية أو علمانية وقعت فيها معارك في الماضي، أو كانت مسرحًا لأسطورة منشأ الطائفية الدينية، وتحديد علاقة تشكيك في نيّات الطوائف الأخرى بناء على تجارب مصوغة، وتنمية ذاكرة مشتركة حية لا علاقة لها بالتاريخ الحقيقي.
إن أهم ما يميز الظاهرة المسماة «الطائفية» حينما تظهر في العصر الحديث ما يلي:
-1 تغلّب الانتماء الطائفي على بقية هويات الفرد؛ فالطائفة الدينية لم تنشأ في الحداثة، بل كانت قائمة في الماضي أيضًا على مستوى محلي، إلا أنها حين تبرز في عصرنا بوصفها «طائفية» إنما يكون ذلك في صراع مع الهويات الأخرى للفرد، بعد أن نشأ فردٌ ذو انتماءات متعددة، ووعي اجتماعي قابل لرفع هوية واحدة فوقها جميعًا ولإخضاع الهويات الأخرى لها.
-2 أنها تظهر في عصر المجتمع الجماهيري كجماعة متخيلة؛ فهي تستعير مفردات الطوائف الدينية التقليدية ومصطلحاتها ورموزها المتوارثة، ولكنّها تستخدمها في إنشاء جماعة متخيلة لا تشكل كيانًا اجتماعيًا متجانسًا أو ذا مصالح مشتركة، بل تتغذى على الانتماء وحده، وبناء مفهوم المصلحة الجماعية على أساس وحدة الانتماء الطائفي.
وهنا يُطرح السؤال: ما الفرق إذًا بينها وبين القومية؟ أليست الأخيرة أيضًا جماعة متخيلة؟ السؤال لازمٌ، وهو يُطرح عن حق. يكمن الفرق في أن القومية بسلبياتها المعروفة، المتمثلة بالتمركز الإثني ولا سيما حينما تتحول إلى أيديولوجيا قومية أو أيديولوجيا دولة، ظاهرة حديثة بكُليتها، لا تقوم على أساس تخيل جماعة بالانتماء إلى دين أو مذهب، بل تخيل انتمائها إلى لغة وثقافة. وهي من ثمّ أقرب إلى واقع المجتمع الحديث، كما أنها غالبًا ما ترتبط بالتطلع إلى السيادة وحق تقرير المصير، وتشكيل دولة ذات سيادة، كما بينّا. لقد نشأت القومية في ترابط مع هذين المبدئين. والقومية أكثر تأهيلًا لتوحيد المجتمع المتعدد الطوائف في هوية واحدة. وتبني المعطيات التي تقوم عليها القومية علاقاتٍ أفقيةً بين أتباع الأديان المختلفة والمذاهب والطوائف. أما الطائفية فيعني تحويلها الطائفة الدينية إلى متخيل تفكيكَ العلاقات التي نشأت بحكم نشأة الدولة الحديثة، وتشتت الوحدة الوطنية؛ وهي من ناحية أخرى لا تنجح في المهمات التي تخفق القومية في إنجازها، مثل توحيد مجتمع متعدد القوميات في كيان سياسي واحد؛ فضلًا عن احتمال تدخل رجال الدين في السياسة الطائفية، أو اللقاء بين الطائفية والتدين السياسي، أي الاستغلال المتبادل بين الطائفية والحركات والتيارات التي تقوم بتسييس الدين. وثمة حالات تاريخية يلتقي فيها الانتماء الوطني والديني، كما في حالة الصراع ضد الاستعمار (إذا كان المستعمِر من ديانة مختلفة).
ثانيًا: هل الجماعة الطائفية هي «إثنية»؟
لقد استخدمت السوسيولوجيا الأميركية مصطلح «الإثنية» (Ethnicity) و(Ethnie) لتمييز الجماعات المهاجرة إلى أميركا والمنحدرة من ثقافات وقوميات مختلفة عن الأميركيين الأفارقة من جهة، وعن الأمة الأميركية التي تجمع المواطنين، من جهة أخرى. ومن الواضح أن انتشار مصطلحات مثل «الإثنيات» و«الثقافات» بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب جاء محل مصطلحات مثل «الأعراق» و«الأجناس» التي لوَّثت بدايات العلوم الاجتماعية في سعيها للعلمية بواسطة الاستعارة من البيولوجيا ونظريات التطور وغيرها، بإنتاج مزاعم معيارية عن تفوّق عرقٍ على عرقٍ آخر معرفيًا، تبرِّر استعماره وإعادة استبنائه.
ولكن هذا لا يجعل الإثنية في حد ذاتها مصطلحًا علميًا. المصطلح مستمد من لفظ (Ethnos) اليوناني، ويعني فئة من الناس أو الأشياء التي يجمعها مميزٌ أو أكثر، وليس من مفهوم العرق، تمامًا مثل لفظ «الطائفة» في أصوله اللغوية العربية البسيطة، قبل أن يتحول إلى مصطلح يدل على طائفة من البشر (الطوائف والحرف وغيرها) وأخيرًا على جماعة (محلية أو متخيلة) تعتنق دينًا أو مذهبًا بالذات (وسوف نعود إلى أصول اللفظ ومعانيه لاحقًا).
ويُستخدم مصطلح «الإثنية» الحالي بكثرة في الدراسات السوسيولوجية والسياسية العربية بدلالات أوسع وأشمل من «قومية» و«قبيلة» وغيرهما، مع أن بعض المنظرين يرون أنه أساس لأي قومية. وهو يدل، بحسب أنتوني سميث، على «جماعة سكانية ذات أسطورة منشأ وسلف وذاكرة تاريخية مشتركة، وعنصر ثقافي مشترك واحد أو أكثر، وقدر من التضامن، على الأقل بين النخب»[13]. ويرى سميث أن الإثنية نواة نشوء القوميات بتوسط من الدولة. ولكن يمكن أن تندثر أو تندمج أو تتهمش كثقافة فرعية، فلا تنشأ منها قومية[14].
وبحسب دونالد هوروفيتس في كتابه الكلاسيكي حول الصراعات الإثنية في العالم، فإن المشاعر الإثنية صعدت مع انتشار أيديولوجيات تتضمن مبادئ مثل المساواة، وتحصيل المكاسب، وهذا ما ساهم في إطلاق ادعاءات ومطالب إثنية، مثلًا بين الفلمنكيين في بلجيكا، والأفارقة السود في أميركا الشمالية، وسكان كيبيك في كندا[15]. ويشمل هوروفيتس في تعريفه للإثنية الفوارق المعرّفة باللون واللغة والدين أو أي صفات أخرى تتعلق بأصل مشترك[16]. وإن الصراعات بين الجماعات القبلية و«الأعراق» والقوميات والتي تفرقها عوامل الدين واللغة واللون وغيرها هي الصراعات الإثنية ذاتها، وليست صراعات مختلفة في الجوهر[17].
والحقيقة أنه من الصعب تصور كيفية بناء نظرية على أساس تعريفات بهذه الشمولية، إلا إذا تركزت بالعوامل النفسية للإنسان ومسألة الانتماء والهوية عند الإنسان في العصر الحديث. وما عدا ذلك، يصعب رؤية المشترك الاجتماعي السياسي الاقتصادي بين هذه الظواهر المختلفة، لا سيما أن الكاتب يراها أيضًا عابرة للتاريخ، ولا يتركز بالحداثة مثلًا. فهو لا يرى الصراعات الإثنية نتاجًا لعملية التحديث. وفي نظره، تعجز المقاربة التحديثية عن تفسير وجود صراعات إثنية ما قبل الحداثة، وكذلك الحروب الأهلية في أقل مناطق العالم تعرّضًا للتحديث[18].
ولكننا في هذا الكتاب نميّز بين الصراعات القبلية وغيرها في عصر ما قبل الحداثة، والصراعات على الدولة الوطنية في الحداثة. وإليها تنتمي الصراعات الطائفية في رأينا منذ مرحلة التنظيمات العثمانية ونشوء مفهوم المواطنة، والتي مرت بمراحل عدة في حقبة الاستعمار، وبعد نشوء الدولة الوطنية، وأيضًا بعد نشوء الأنظمة الاستبدادية، والتدخل الأميركي المباشر في العراق، والصراع الإيراني – السعودي، وغيرها من المراحل التي مرت بها المنطقة العربية، والتي اختلفت طبيعة الصراعات الاجتماعية والسياسية جوهريًا في ما بينها، وكذلك التعبيرات الطائفية عنها.
وعند هوروفيتس، يكون للأحداث السياسية عواقب إثنية في المجتمعات التي يتغلغل الانقسام الإثني في حياتها. و«حيث تنقسم الأحزاب على طول صدوع إثنية، تؤدي الانتخابات دورًا شقاقيًا. وحيث تنقسم القوات المسلحة إثنيًا قد تُستخدَم الانقلابات العسكرية التي تزعم أنها جاءت للقضاء على الفوضى والفساد من أجل تعزيز قوة جماعات إثنية على حساب الآخرين […] في مثل هذه المجتمعات حتى الاستبداد يتخذ شكلًا إثنيًا لا تخطئُه العين»[19]. وهو لا يرى الدور الاندماجي الذي يمكن أن تقوم به الدولة، والذي يزيل فوارق طائفية كانت شبه إثنية فأصبحت مجرد فوارق دينية، كما لا يمكنه بهذه الأدوات أن يرى أنّ فشل الاندماج قد يحوِّل الطائفة الدينية من جماعة دينية إلى جماعة إثنية. فالجماعات الإثنية عنده معطى قائم في كل حال. أما معالجتنا للطائفية والطائفة المتخيلة فتنفّذ هذه التمييزات النظرية والتاريخية، وتبني عليها.
ولا ينجو عنده الدين من الإثنية، وذلك «للشرقيين»، أو من يعيشون في «الشرق» فقط (؟). ففكرة اختيار الدين بوصفه إيمانًا فرديًا طوعيًا فكرةٌ غربيةٌ عند هوروفيتس، «لكن خارج الغرب ظل الدين انتماء معطى. وبالنسبة إلى الكثير من الجماعات ليس الدين مسألة إيمان وإنما معطى، وهو يشكل جزءًا تكامليًا من كينونة شعب (peoplehood) […] بالنسبة إلى جماعات مثل العلويين السوريين، المتحدرين من الجبليين الذي مزجوا العقيدة الشيعية بعبادة الطبيعة فإن الدين والإثنية يتطابقان». وينطبق الأمر على لبنان المجاور حيث «الانتماءات الطائفية أهلية ولها طابع تعاضدي»[20]. وهو يستند في وصفه هذا إلى سورية ولبنان إلى أبحاث تبيثا بيتران ومايكل هدسون[21]. وبغض النظر عن عدم دقة هذه التعريفات التي تؤثنن المذاهب عند العرب (وجهل كاتبها بأصول العشائر التي تقطن جبل لبنان وجبال العلويين)، فإننا نعتبر التطابق بين الإثنية والانتماء الديني مسألة متغيرة. وقد شهد العالم العربي انفصالًا بينهما تحديدًا في الوقت الذي التقيا فيه في البلقان واليونان في الصراع ضد العثمانيين. ففي ذلك الوقت، شهدت بلاد الشام نشوء هوية عربية عابرة للديانات والمذاهب ومتصارعة مع الطائفية، ومتجاوزة لعروبة الدم العشائرية؛ ولا سيما بعد انتهاء مراحل الفتن الطائفية الكبرى في حلب ودمشق وجبل لبنان؛ أي بعد عام 1860، وهذا لا يعني أن الفتن الطائفية توقفت بعد هذا العام. فقد استمرت إبان مرحلة الاستعمار الفرنسي في سورية، وخلاله وبعده في لبنان، وأصبحت مذابح القرن التاسع عشر مكونًا في ذاكرتها، غير أنها باتت تجد في مواجهتها خصومًا جددًا مثل الوطنية والقومية.
والإثنية، بحسب تعريفنا في هذا الكتاب، هي جماعة كبيرة من البشر ذات سمات مشتركة، ثقافية غالبًا، يُسلّم المنتمون إليها بأنها معطيات موروثة بسبب أصلٍ مشتركٍ، وهمي غالبًا، أو تاريخٍ مشتركٍ، وللدقة ذاكرة تاريخية مشتركة (تشمل تذكّرًا ونسيانًا، وحقائقَ وأوهامًا، وتاريخًا صحيحًا ومتخيلًا)، وتداخلت في حالات مع «الديانات الإثنية» في مراحل تاريخية مبكرة، وما زال التداخل في بعضها قائمًا حتى يومنا هذا (اليهود، الأرمن، الكلدان، وديانات آسيوية وأفريقية كثيرة ترتبط بشعوب وقبائل محددة يصعب حصرها في هذا المقام).
وغالبًا ما نشأت الدولة القومية الأوروبية من عملية تمدد «إثنية نواة» وسيطرتها على أقاليم ذات إثنيات أخرى ودمجتها بالقوة بعنف الدولة أو باستخدام الدين المشترك والروابط الأرستقراطية الإثنية. هكذا قامت الدولة القومية، أو الدولة – الأمة في فرنسا وشمال أوروبا عمومًا. وقد تستوعب الإثنية النواة مهاجرين من إثنيات أخرى، كما في حالات الولايات المتحدة وكندا وأستراليا بدرجات متفاوتة من النجاح. وثمة مناطق فشلت فيها هذه العملية، إذ انتشرت الأيديولوجيا القومية قبل نشوء الدولة الوطنية، وجرى تسييس الإثنيات المهمشة لهويتها، كما في البلقان وأوروبا الشرقية، واعتبرت الدولة مجرد تعبير عن هيمنة إثنية أو قومية أخرى تقمعها أو تميز ضدها. وفي كثير من دول العالم الثالث لم تنجح الإثنية الرئيسة وممثلوها (غالبًا من الإنتلجنسيا والعسكر) في فرض سيطرتهم نتيجة ضعف الدولة والاقتصاد وعجزهم عن الدمج، ومالت الجماعات السكانية لتسييس هويتها باعتبارها مظلومة من قبل القومية أو الإثنية أو الطائفة المسيطرة. وفي حالات أخرى جرت أثننة المذهب أو الدين للسبب نفسه (مثلما شهدنا في بعض بلدان المشرق العربي).
وغالبًا ما تسعى الطائفية السياسية إلى أثننة الطائفة الدينية، أي التعامل معها باعتبارها جماعة يشترك المنتمون إليها بصفات موروثة ثابتة منفصلة عن الإيمان أو عدم الإيمان بالدين، وباعتبار التبعية التاريخية لهذا الدين كافية لتشكيل أسطورة منشأ الطائفة والذاكرة التاريخية (المظلومية والأمجاد الغابرة في آنٍ معًا)، والصفات الثقافية المشتركة.
وتتجسد الإثنية في عصرنا كما هو معبّر عنها في مشاريع سياسيّة وخطاب قومي، وفي الحياة اليوميّة أيضًا في التصنيفات العمليّة للمعطيات التي يصادفها الإنسان في حياته اليوميّة إلى فئات وخرائط معرفيّة وأطر خطابيّة وروتين وأنماط تنظيميّة وشبكات اجتماعيّة ومؤسّسات. هكذا هي إثنيّة الحياة اليومية، أو إثنيّة الأيام العاديّة[22].
وعلى الرّغم من تأثير النظريات البنيويّة في العلوم الاجتماعيّة ونقد التشيُّؤ في الأنثروبولوجيا وغيرها من التخصّصات، والمساهمات النسويّة وما بعد البنيويّة وما بعد الحداثيّة التي زعزعت استقرار النظريات الاجتماعيّة، والقبول العام بفكرة أنّ الثقافات والجماعات والقبائل والأمم والأعراق والجماعات الإثنية ليست جوهرًا اجتماعيًا ماديًا، ولا كيانات حصريّة ذات حدود واضحة، فإنّ الناس يستمرون باعتبارهم فاعلين اجتماعيًا. لقد أصبح الأمر مفروغًا منه في العلوم الاجتماعية أنّ الجماعات والهويات مصنوعة، وتُصنع. ومع ذلك، تستمر في تحديد سلوك البشر ورؤيتهم للمجتمع كأنها هويات أصلية «طبيعية»، لأن البشر لا يتصرفون في حياتهم بموجب التنظير السوسيولوجي أو التحليل التاريخي لنشوء هوياتهم المصنوعة.
حاول روجر بروبيكر طرح فكرة الإثنية من دون الجماعاتيّة، أي من دون افتراض وجود مجموعات مغلقة تشكّل حالة جوهريّة في المجتمع الإنساني، فالصراع الإثني في رأيه ليس دائمًا صراعًا بين جماعات إثنيّة. ولكنّه لم يتمكن من تفسير كيف يمكن أن يجري ذلك في الواقع، وظل يراوح عند نقد الخطاب، لأنه لم يأخذ في الاعتبار الفرق بين الجماعة والجماعة المتخيلة. فيمكن ألا تكون ثمة جماعات حصرية في الواقع، ولكن تقوم سياسات الهوية بإنتاج جماعات متخيلة ذات حدود حصرية موضوعة.
يقول بروبيكر إنه من الصعب تصوّر أي علم اجتماع من دون مصطلح المجموعة (Group)، أمّا المجموعتيّة (Groupism) فهي ميلٌ إلى رؤية الجماعات المحددة والحصريّة كمركّبات أساسيّة في الحياة الاجتماعيّة ومحرّك للصراعات الاجتماعيّة ووحدة أساسيّة في التحليل الاجتماعي، إنه الميل إلى إنتاج جماعات إثنية وقوميات وأعراق كوحدات جوهريّة يمكن أن تُنسب إليها مصلحة وفعل اجتماعي سياسي. فيُنظر إلى هذه كأنّها متجانسة داخليًّا محدّدة ومحصورة، وحتى كفواعل سياسيّة موحّدة ذات أهداف مشتركة. إنّه الميل إلى تمثيل العالم الاجتماعي والثقافي كفسيفساء مؤلّفة من وحدات ثقافيّة وإثنية وعرقيّة[23]. وهكذا تقارب النظرة الطائفية المجتمعَ بوصفه مؤلّفًا من طوائف تشكل جماعات ذات حدود ووصفات مشتركة.
ما المشكلة في اعتبار النزاع الإثني صراعًا بين جماعات إثنية، والطائفي صراعًا بين طوائف دينية، والقومي صراعًا بين شعوب؟ إنه الفرق بين مصطلحات السياسات الإثنية والطائفية والقومية وغيرها ومصطلحات التحليل الاجتماعي؛ فالعلوم الاجتماعية لا تسلّم بأنه صراع بين جماعات؛ إذ يفترض أن تبحث في شؤون مثل: من هم أصحاب المصلحة في الصراع؟ ومن هم الفاعلون السياسيون فعلًا؟ وكيف ينشأ الصراع بين جماعات؟ ولكن يُفترَض أن تدرك هذه العلوم أن الصراع قد يتحول فعلًا إلى صراع بين جماعات. صحيح أنه غالبًا ما تكون المصطلحات المجموعاتيّة أدائيّة كما يقول بورديو بحيث تميل إلى إنتاج ما يظهر أنّها تصفه[24]، واستحضار ما يبدو أنه حاضر تتعامل معه. ولكن هذا قد يحصل فعلًا في النهاية ويطور دينامية خاصة به، وهذا ما لا يأبه به بعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية الذين تقتصر وظيفتهم على تفكيك الظواهر الاجتماعية واكتشاف القوى والمصالح «الحقيقية» خلفها، ويتجاهلون أن المتخيل يطور قوى ومصالح حقيقية، وأنه لا يختفي بتحليله نظريًا.
ليس العنف الإثني إثنيًّا في جوهره، بل يُصنّف كذلك بواسطة الصحافيين والرسميين والباحثين وعاملي الإغاثة والفاعلين والضحايا. ولذلك في ما عدا النزاع أو الصراع، ثمّة ميتا – نزاع (أو ميتا – صراع) يدور حول تعريف الصراع وطبيعته، وهو جزءٌ من الصراع ذاته[25]. أمّا بالنّسبة إلى الجانب المعرفي، فإنّ الإثنية والعرق والقوميّة هي أساسًا أشكال في فهم الواقع الاجتماعي وتفسيره وتمثيله. إنّها ليست أشياء في العالم بل زوايا نظر إلى العالم، وهذا يشمل آليات في الإدراك والتجاهل والتذكّر والنسيان[26].
والفئة (Category) أو الطائفة ليست جماعة بل تحديد لجماعة[27]؛ لأن الجماعة حتى في أقل تعريفاتها كثافة، وأكثرها ضمورًا، تتضمن ما هو أكثر من الحدود التي تفصلها عن غيرها؛ إنها تشمل تضامنًا وعلاقات متبادلة وتواصلًا بين الأفراد والوحدات المكونة لها. وتوظف العمليّة المعرفيّة الاجتماعيّة التي تستخدم الفئات والتصنيفات لفهم العالم الاجتماعي بربطها بأفكار وصور نمطيّة وتوقعات من أعضاء الجماعة هذه مع التداعيات العاطفيّة والأحكام المعياريّة، وتُستخدم في سياق علاقات تبادليّة تفعّلها قوادح وإشارات أو رموز ظرفيّة، هي عملية إنتاج الجماعة المتخيلة.
يتواصل هذا الحديث الأكاديمي عن الجماعات كمخططات ثقافية ومؤسسات خطابية وكزوايا نظر «أخّاذة»، وفي هذه الأثناء يستمر القتل وممارسة الصراع على الدولة كأنه صراع بين جماعات. فهل يؤثّر النقد في العالم الواقعي؟ أم هو نقاش في برج عاجي؟ وما الفرق العملي الذي يشكّله؟ إنّ تصنيف شخص في قوميّة معيّنة أو طائفة معيّنة قد يحدّد في مجتمعاتٍ معيّنة كيفيّة السلوك تجاه هذا الشخص، واللغة المستخدمة معه، وربما يعني أيضًا قتله عند حاجز تُقيمه ميليشيا طائفية. فكيف يمكننا القول إن هذا ليس حقيقيًا.
وبهذا المعنى، فإن الفرق بين الفئة والفئوية، والطائفة والطائفية، هو بالضبط أن الفئوية والطائفية ترسمان الحدود، وتنتجان جماعة من خلال رسم الحدود ذاتها، جماعة متخيلة. وذلك خلافًا للجماعة العضوية التي تُنتِج هي حدودها مع الخارج.
ليست هذه مسألة نظرية. الصراعات الطائفية تنتج جماعات فعلًا، وكونها متخيلة لا يعني أنها غير قائمة. ويبدو لي أن تفكيكها لا يكون بمجرد استنتاجات نظرية ناجمة عن التحليل التاريخي، بل إنه يتطلب أكثر من استراتيجيات نقد الخطاب. فهو يتعلق بمدى نجاح تأسيس المواطنة والسياسة الاندماجية والعدالة في الواقع، أو بنجاح التوافق بين الجماعات أو استمرار الصراع والانفصال. وقد يساهم في ذلك النقد العلمي النظري لعملية تشكل الجماعات، وزيف الأيديولوجيا الجماعتية، الطائفية في حالتنا، إذا تحول إلى جزء من ثقافة نخب قادرة على التعبير عنه في قنوات ثقافية ذات رواج كما في الخطاب السياسي والأدب والفن والوسائل الإعلامية وغيرها.
ثالثًا: في تحول الطائفية المتخيّلة إلى بنية اجتماعية فكرية
مهيمنة على الأفراد
كما في حالة الإثنية، تتحول الطائفية إلى بنى وعلاقات اجتماعية مفروضة على الفرد حتى لو لم يكن طائفيًا. وقد استنتج باحثون من تجربة إيرلندا الشمالية أن الطائفيّة ليست مجموعة أعمال فرديّة شاذة أو منحرفة، بل هي بنية اجتماعية ذات خصائص غير متعلقة بصفات الأفراد بالضرورة. فمن الممكن أن يكون الأفراد طائفيين أو غير طائفيين، بمعنى أنهم يحملون أفكارًا مسبقة ضد الآخرين، ولكنّهم بالضرورة مطيّفون أو يجري تطييفهم في المجتمع الطائفي، أو في النظام الطائفي، حيث الأسماء، وأماكن السكن، وفرق كرة القدم، وأمور كثيرة أخرى ترتبط بالانتماء الطائفي[28].
ويُحتمل في مثل هذه المجتمعات أن تترتّب على معرفة الهويّة الطائفيّة للشخص المقابل أمور كثيرة، وربما تكون مسألة حياة أو موت، كما ذكرنا من قبل. فروبي مكفي (Robbie McVeigh)، مثلًا، ميز بين القتل على أساس طائفي وبين القتل خلال المواجهات في إيرلندا، واعتبر القتل على أساس طائفي هو القتل على الهويّة بسبب كون الشخص بروتستانتيًا أو كاثوليكيًا فقط. ومن ذلك يذكر حالة جرت يوم 15/8/1994 وأثارت ضجّةً كبرى لأنّها وقعت في مرحلة وقف إطلاق نار، وكان القتل لمجرد كون الشخص كاثوليكيًا[29]. ويمكن لأي لبناني أو عراقي (وحتى سوري مؤخرًا) أن يتذكر حالات كثيرة مشابهة من ذكريات الحرب الأهلية.
لكن ما هو أهم من القتل على الهوية في الحالات المتطرفة إبان الحروب بين أحياء المدن والقرى في الأرياف، هو الحياة اليومية؛ إذ أصبحت البنية الطائفيّة تحدّد كل نواحي الحياة في لبنان وشمال إيرلندا؛ فعبرها يعيش الناس طبقاتهم الاجتماعية وهويتهم «الجندرية» وأماكن إقامتهم ومدافنهم. تعني الطائفية في هذه الحالة مجموعة من التحديدات التي يتأثر بها وعي الفرد لذاته وأنماط سلوكه وعلاقات التبادل الاجتماعية والسياسية في حياته. فالهويات الأخرى تتنوع وتتباين وتتناقض ولكن ضمن إطار الأسوار التي تفرضها المحددات التي تفرضها الطائفية. ولا شك في أن اللبنانيين يعيشون وضعًا مشابهًا، سواء أكانوا طائفيين أم لا. فهم يمارسون انتماءاتهم المختلفة عبر انتماء واحد غالب هو «الطائفة» التي تحدّد حياة الناس في كل مرحلة، أين يولدون، وإلى أي مدرسة يذهبون، وأين يعملون، وأي علاقات اجتماعيّة ينسجون، وأين يسكنون.
وغالبًا ما تشتعل الأزمة الطائفيّة أو النزاعات الطائفيّة في فترات الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسية، أو في فترات الصراع الوجودي على السلطة. أما في فترات الازدهار الاقتصادي والنمو والتطور الاجتماعي فإن الدولة ذات البنية «التوافقية» بين جماعات تكون أكثر قدرة على تعزيز التوافق، وتكون الدولة/الأمة ذات النزعة الاندماجية أكثر قدرة على استيعاب الاختلافات وتدمج الناس وطنيًا دمجًا يتجاوز الاختلافات الطائفيّة.
ويعني الاندماج الانتقال إلى انقسامات أفقية بين طبقات ونخب وجماعات مصالح وتصورات مختلفة لكيفية إدارة الدولة والمجتمع؛ وهذه يجمعها مشروع وطني أو انتماء إلى مواطنة وقيم دستورية وغيرها تمكِّن الطبقات الدنيا من التطلّع إلى المساواة. فهي تشعر أن ثمة هوية مشتركة مع الطبقات الأعلى، وحدًا أدنى من القيم المشتركة معها يسمح لها بمقارنة نفسها بها والمطالبة بالمساواة. فمن يطالب بالمساواة، يفعل ذلك وهو يعلم أن المساواة قيمة «معقولة» ومقبولة، أو يمكن أن تصبح مقبولة لأنها باتت تحظى بشرعية ما، وأن المعارضة لهذه القيمة هي التي تحتاج إلى تبرير معارضتها. فانعدام المساواة بموجب السلم المعياري هذا في حالة الوطنية، قد يهدّد قيمًا أخرى مثل الوحدة الوطنية على سبيل المثال. وينطبق هذا الحكم على مطالب أخرى تفترض قيمًا مثل الحريّة بافتراض أن الحريات المدنية مشتقة منها، وكذلك المشاركة السياسيّة وغيرها.
وفي البلدان التي يقوم فيها نظام طائفي توافقي يُزعَم أنه يستند إلى ديمقراطية من نوع خاص هي الديمقراطية التوافقية، ويقوم على ما يُدعى باللغة الطائفية السياسية اللبنانية «العيش المشترك» يدور صراع على التاريخ، لأن كل طائفة تكتب تاريخ البلد بشكل مختلف عن الأخرى. وتتغير كتابة التاريخ مع تغير الأهداف السياسية. فمن رفض وجود تاريخ مشترك مع عدم اعتراف بعض القطاعات السكانية التي تُسمّى طوائفَ في لبنان بوصفه كيانًا نشأ في حدود لبنان الكبير (الفرنسي) في عام 1920، إلى محاولة فرض الطائفة على التاريخ كجزء من تاريخ لبنان، والتصارع بين الطوائف حول من الأصيل ومن الدخيل؟ ومن يرتبط جبل لبنان به وبطبيعته بصلة عابرة للتاريخ مع الأرض، ومن دافع عنه وعن استقلاله عبر التاريخ؟ وتنمذج التواريخ اللبنانية الحديثة للبنان ذلك، عبر انطلاقها من رؤية سردية ثاوية لدى المؤرخ في إنتاج تاريخ لبنان وفق انتماءاته الطائفية، بحيث نشأت تواريخ مارونية ودرزية وشيعية وسنية، وأخيرًا علوية وغيرها للبنان. هكذا تُفرض مصطلحات الحاضر على الماضي، ويتغير استخدامها تبعًا للموقف السياسي[30].
في الماضي، تلخَّصت مقاربة أغلبية من يصوغون موقف المسلمين في لبنان من الكيان اللبناني في إنكار أي تاريخ له، أو خاص به. وعمل بعض المؤرخين المهنيين على تأريخ رفض الانضمام إلى الكيان اللبناني[31]. وأصبح الموقف لاحقًا عبارة عن محاولة تأكيد دورٍ للطائفة التي يتحدثون باسمها في هذا التاريخ، بعد أن سلموا به، وأصبح الصراع يدور على حصة فيه، ومن ثمّ في تاريخه.
وثمة قائمة طويلة من الاختلافات في كتابة التاريخ وتأويله وتطور هذه الاختلافات مع تغير مواقف قيادات الطوائف: رفض، حرب، تعايش … إلخ. ومن أفضل الأمثلة على ذلك هو كيفية مقاربة تاريخ الحملات المملوكية على كسروان، من تصنيف الضحية كموارنة، أو موارنة ودروز، إلى اكتشاف أن الضحية كانت شيعية أو نصيرية أو كلتيهما، أو خليطًا من جميع الطوائف. وكل تحديد لهوية السكان كان يعني علاقة طائفة بعينها مع جبل لبنان، وأولويتها، هذا عدا إسقاط تحالفات وعداوات الحاضر على الماضي، وعدا الخلاف على الموقف من المماليك أنفسهم[32].
فثمة مؤرخون يعتبرون الحملات تأديبية ضد متمردين، فيقفون مع المماليك على خط التطور التاريخي نفسه كحالة من الوحدة الإسلامية السنية، أو حتى العربية، ضد الانفصالية، وآخرون يؤكدون أن المتمردين شيعة أو نصيرية أو غيرهم. كان الخلاف الذي أشغل المؤرخين اللبنانيين هو حول هوية سكان كسروان «الطائفية» حين وقعت الحملات المملوكية الثلاث في زمن التحول من العصر الصليبي إلى المملوكي في بلاد الشام، وزمن غزوات المغول أيضًا ضد تلك البلاد. ويسأل السؤال لماذا يهتم مؤرخون معاصرون بهوية سكان تلك النواحي «الطائفية» في تلك المرحلة ما داموا كسروانيين؟ لا شك في أن ثمة دافعًا سياسيًا أيديولوجيًا متعلقًا بالتواصل التاريخي على الأرض، وذلك ليس لأسباب أدبية أو شاعرية، بل لغرض تأسيس حقوق جماعية سياسية تاريخية. إن تأسيس علاقة جماعية سياسية بالأرض هو بالضبط ما تقوم به القومية، بما هي ظاهرة حديثة تؤسس لحق تقرير المصير على الأرض. في لبنان تظهر الطائفية، إذًا، باعتبارها قومنة لتبعية الناس لدين أو مذهب وإسقاطها على الماضي لتأسيس حقوق لها في الدولة. وهذا مثال واحد فقط.
في محاولته الكلاسيكية لكتابة نظرية شاملة للصراعات الإثنية (التي يشمل الطائفية فيها)[33]، والتي سبق أن تطرقنا إليها، يشدد هوروفيتس على أهمية الجانب المعنوي المتعلق بأهمية الجماعة ومكانتها وشرعيتها، المرتبطة بملكيتها للمكان في البلاد؛ ثم يضع قائمة بأربعة مصادر للشرعية هي:
-1 الأصالة قبل الاحتلال.
-2 الإيمان برسالة معينة للجماعة في أرض محددة، وتحديدًا رسالة دينية، مثلما يرى الموارنة لبنان وطنًا للمسيحية المارونية.
-3 ادعاءات بالتفوق مصدرها سيطرة مبكرة أو «حكم تقليدي».
-4 الحق الناجم عن تفضيل الاستعمار للجماعة لكي تخلفه[34].
وعلى سبيل المثال، استخدمت الطوائف اللبنانية هذه العناصر بتفاوت، كما أنها تعاملت مع المصدر الرابع مصدرًا للشرعية ومصدرًا للمسّ بالشرعية في الصراع السياسي.
وثمة في العراق صراع هيستوريوغرافي شبيه بثورة العشرين، والعلاقة بالإنكليز، ودور عشائر الجنوب ورجال الدين في إشعالها، وهل شارك فيها السنة أم لم يشاركوا؟ وإذا كان من قادها رجال دين شيعة فعلًا، فهل فعلوا ذلك بدوافع وطنية عراقية أم لتناقضات المؤسسة الدينية الشيعية مع الدور الإنكليزي في إيران بعد ثورة إيران الدستورية (1905-1907) المعروفة بحركة المشروطة (وبالفارسية مشروطيت) ويمكن تعداد عشرات الأمثلة عن نقاشات تاريخية حول الماضي. ولكنّه لم يتحول بعد إلى صراع ثقافي شامل، وما زال دائرًا في أوساط قلة من المؤرخين.
ومن مظاهر الطائفية السياسية المهمة ربط أرض محددة بعيش طائفة بعينها عليها قبل مئات السنين، واكتساب الحق الشرعي واغتصاب الآخرين له من السبق في الوجود عليها. أو تطييف الأرض بأثر تراجعي، وكأنها كانت دائمًا أرضًا سياسية، أو إقليمًا سياسيًا (Territory)، وليست مجرد موطن ومعمورة ومكان للعيش. ومن مظاهرها أيضًا الاتهامات المتبادلة بالتعاون مع الأجانب المحتلين، ليس في الحاضر «فحسب»[35]، بل في الماضي أيضًا. وكأن هذا «الغدر» بالتواطؤ مع العدو من طباع الخصم الطائفي. فيذكر كثيرون تعاون العالِم الشيعي الإمامي الطوسي (ت. 672هـ/1274م) مع هولاكو (ت. 1265م)، وخيانة وزير المستعصم العلقمي الشيعي وتشجيعه جيش هولاكو، إلى درجة لا تتسع فيها الهوامش لاقتباس الأمثلة والمراجع التاريخية، هذا عدا الأمثلة على تعاون فئات من العلويين والنصارى مع الصليبيين في مراحل مختلفة، يذكر منها بشكل خاص دعم الموارنة للصليبيين للقضاء على مقاومة طرابلس، وكان هذا من المبررات التي استخدمها المماليك بعد قرنين لارتكاب فظائع ضد المسيحيين. لقد ترسخت قصص هذا التعاون وتضخمت في الذاكرة الشعبية التي سايرها المماليك، كما سايروا الفقهاء المتشددين، وهذا مفهوم من منظور حكام غرباء يسعون للحصول على قبولٍ عند السكان المحليين بوصفهم حماة الإسلام؛ ولكن قلما يُذكر تعاون أمراء ممن يصنفون في أيامنا بوصفهم «سنّة» مع الصليبيين ضد أمراء آخرين، وأمراء مماليك مع أحفاد هولاكو التتار في غزوهم لبلاد الشام في نهاية القرن السابع الهجري، بداية القرن الرابع عشر الميلادي[36].
لقد كانت دوافع التعاون مع الغزاة (من مختلف الديانات والأقوام) والكامنة في «الأقلياتية» في بعض الحالات، والخصومة والطموح السياسي في حالات أخرى، قائمة ومنتشرة إلى درجة يصعب حصرها قبل قيام الدولة الوطنية، ولا سيما عند استشعار ضعف السلطة المركزية وإمكانية هزيمتها. ولم يختص ذلك بطائفة من الطوائف، ولا حتى بالطائفية السياسية، التي قد تنزلق إلى تأدية مثل هذا الدور غير الوطني في عصرنا. كانت هذه ظاهرة تكاد تكون عامة، ويكفي النظر في تنافس أئمة الشيعة والسنة، ورجال الدين اليهود والنصارى، في العصر المغولي تحديدًا، في مدن ومناطق ما يعتبر إيران (المعاصرة) لكسب ود الحاكم الإيلخاني لكي يتبنى مذهبهم، أي حين طرأ على البلاد حكام لا يعتنقون أيًا من هذه المذاهب والديانات.
ونحن عمومًا على اقتناع أن اللغة والرموز التي أمكن بواسطتها تحويل الاختلافات المذهبية إلى صراعات طائفية في العصر الحاضر، قد نشأت في ظل حكم المماليك للمشرق العربي ومصر في حالة السنة، في إعادة صياغة الهوية المذهبية ضد الفرق الشيعية والعلوية الغالية في المشرق في مرحلة الصراع مع المغول تحديدًا. أما في حالة الشيعة فبدأت هذه العملية في بغداد في ظل حكم البويهيين، واكتملت وتمأسست في ظل حكم الصفويين.
ولا يصح الحديث عن انقسام ديني سياسي في الحضارة الإسلامية باعتبارها ظاهرة أيديولوجية أو واقعًا اجتماعيًا يتميز بثبات نسبي على شكل طوائف، إلا مع القرنين السابع والثامن الهجريين/الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين (ولكن من دون أن تُستَخدم المصطلحات أو حتى المفردات ذاتها) وصولًا إلى العهد العثماني الذي أخضع فيه السلطان المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام) وجهازها للدولة؛ وذلك على خلفية إخضاع الدين للدولة. وهذا ما حصل أيضًا في السلطنة الصفوية التي أقامت مؤسسة دينية أيضًا؛ فمع إخضاع الدين للدولة مؤسسيًا في ظل هيمنة الثقافة الدينية اجتماعيًا انقسم المجتمع في تأييده ومعارضته للحكم القائم على شكل جماعات راحت تبرر ذاتها وتشرعن اختلافها مع الآخرين بتفسيراتٍ مختلفة للدين، وانتهت إلى تبرير ذاتها بحقوق مسلوبة ومظلومية تاريخية وغيرها.
وفي رأينا ليس من الضروري الاتفاق على تاريخ موحد للدولة الوطنية في عصرنا لغرض تجاوز الطائفية السياسية والانشقاقات والشروخ الأهلية التي تسبّبها. فالاتفاق على تاريخ لبنان مثلًا، ليس شرطًا لوحدة لبنان الحاضر، خلافًا لما يرى كمال الصليبي؛ فبحسب رأيه يمكن أن يشكل اللبنانيون أمّة أو جماعةً سياسيّة فقط إذا اتفقوا على رؤية مشتركة لماضيهم[37]. ولكن يبدو لي أنه سوف تكفي، بالنسبة إلى المرحلة القادمة، مشاعر النفور المشتركة تجاه ماضي الاحتراب الأهلي، وانتماءٍ إلى لبنان يفسر على أوجه مختلفة، وأحيانًا متناقضة. ففي رأينا ليس من الضروري الاتفاق على «الأسباب الحقيقية» للحرب الأهلية، وتحديد المسؤول عنها، بل يكفي الاتفاق على كونها ماضيًا من المعاناة المشتركة. وبعد زوال الطائفية السياسية فقط من المحتمل الاتفاق على تاريخها. ويمكن الاتفاق على نفي الماضي، من دون الاتفاق على سرديات الماضي نفسه. ثمة حاجة إلى نفي الكتابة الطائفية المنفردة، ونفي المرحلة، باعتبارها «ماضيًا»، وباعتبار الواقع الحاضر ليس مجرد امتدادٍ غير منقطع للماضي، وذلك بتأسيس المواطنة المشتركة في الدولة، بحيث لا يُستمد أي حق في التاريخ الحاضر؛ تاريخ الدولة، من التاريخ الماضي؛ تاريخ ما قبل الدولة، سواء اتفق المؤرخون عليه أم لم يتفقوا.
هوامش:
[1] يُنظر الملاحظات بشأن هذا القصور في: Robbie K. McVeigh, «Cherishing the Children of the Nation Unequally: Sectarianism in Ireland,» in: Patrick Clancy [et al.], (eds.), Irish Society: Sociological Perspectives (Dublin: Institute of Public Administration in association with the Sociological Association of Ireland, 1995), pp. 622-625; Marianne Elliott (ed.), The Long Road to Peace in Northern Ireland: Peace Lectures from the Institute of Irish Studies at Liverpool University (Liverpool: Liverpool University Press, 2002), p. 178, and Alan Ford, «Living Together Living Apart: Sectarianism in Early Modern Ireland,» in: Alan Ford and John McCafferty (eds.), The Origins of Sectarianism in Early Modern Ireland (Cambridge, UK; New York: Cambridge University Press, 2012), p. 3.
[2] طوّر بندكت أندرسن مفهوم الجماعة المتخيّلة على نحو أولي وطبّقه على فهم الأمة. فكتب: «إليكم إذًا هذا التعريف للأمة الذي أقترحه بروح أنثروبولوجية: الأمة هي جماعة سياسية متخيلة، حيث يشمل التخيل أنها محدّدة وسيدة أصلًا». ثم يعرّف معنى كلمة متخيّلة على نحو مبسط جدًا، فيقول: «هي متخيلة لأن أفراد أي أمة بما فيها أصغر الأمم، لن يمكنهم قط أن يعرفوا معظم نظرائهم، أو أن يلتقوهم، أو حتى أن يسمعوا بهم، مع أن صورة تشاركهم تعيش حية في ذهن كل واحد منهم». يُنظر: بندكت أندرسن، الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها، ترجمة ثائر ديب؛ تقديم عزمي بشارة، سلسلة ترجمان، طبعة منقحة ومزيدة (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 63. ويتابع أندرسن، من خلال مناقشة أفكار أرنست غلنر، التمييز بين المتخيل والمختلق؛ فالمتخيل ظاهرة حقيقية قائمة ولها فعل في الحياة الاجتماعية.
[3] موريس غودلييه، الجماعة، المجتمع، الثقافة: ثلاثة مفاتيح لفهم الهويات المتنازعة، ترجمة شقيب مصطفى (بيروت: دار الفارابي، 2015)، ص 39.
[4] تشارلز تايلر، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، ترجمة الحارث النبهان؛ مراجعة ثائر ديب، سلسلة ترجمان (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 35.
[5] يُنظر تقرير منظمة العفو الدولية «أمنستي» لعام 2014 حول الموضوع: Amnesty International, «Ethnic Cleansing and Sectarian Killings in the Central African Republic,» 2014, accessed on 11/9/2017, at: http://bit.ly/2w0dS6m.
وثمة تقرير مختصر في موقع المنظمة نفسها: Amnesty International, «Central African Republic: Ethnic Cleansing and Sectarian Killings,» 12 February 2014, at: http://bit.ly/2xfqJAV.
[6] Friederike Stolleis, «Discourses on Sectarianism and ‘Minorities’ in Syria,» in: Friederike Stolleis (ed.), Playing the Sectarian Card: Identities and Affiliations of Local Communities in Syria (Beirut: Friedrich Ebert Stiftung, 2015), p. 7, at: http://bit.ly/1VPYawR.
[7] ينصح بالنظر في كتاب صدر حديثًا يفصّل في موضوع مراحل التشييع في سورية بعد نهاية مرحلة حذر حافظ الأسد من تأثير الثورة الإيرانية وفكرها الديني، وإتاحة المجال لمحمد حسين فضل الله للوعظ والدعوة في مقام السيدة زينب (الذي بدأ الاهتمام الإيراني المكثف في ثمانينيات القرن العشرين)، وفتح مكتب له، وإتاحة المجال لوعاظ ودعاة شيعة عراقيين وإيرانيين للعمل في القرى والمدن، وإقامة حسينية قرب مسجد عمر (الفاروق) في دمشق، وغيرها من الأنشطة، وصولًا إلى مراحل تأثير ونفوذ أوسع، تضمنت استيلاءً على مقامات، والتنقيب عن أخرى مندثرة، مثل مقام السيدة رقية في حي العمارة الجوانية في حارة الأشراف، ومقام الصحابي حجر بن عدي الكندي في قرية عدرا … إلخ. وفي التسعينيات سمح بتأسيس خمس «حوزات علمية» حول مقام السيدة زينب، ومنح رخصًا لجمعيات ثقافية شيعية. وقبل ذلك، في عام 1988، وافق حافظ الأسد على طلب الحكومة الإيرانية الاعتناء بمقام الصحابي عمار بن ياسر. يُنظر: عبد الرحمن الحاج، البعث الشيعي في سورية، 1919-2007 (بيروت: جسور للترجمة والنشر، 2017)، ص 95-103، 106 و113.
وقالت ديبورا آموس إنه نشأ حول ضريح السيدة زينب في جنوب دمشق حي عراقي شيعي، وإنّ السياحة الدينيّة إلى السيدة زينب كانت في الماضي من شيعة إيران، ولكن بالتدريج هيمن شيعة العراق على المواكب الدينيّة والاحتفالات حول ضريح السيدة زينب. يُنظر: ديبورا آموس، أفول أهل السنة: التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأمريكي للعراق، ترجمة محمد فاضل؛ تقديم رضوان السيد (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014)، ص 25.
ويسهل توقع ردة فعل المجتمع السوري المعرض للاستنتاج بسهولة أنّ أقلية علوية تسيطر على الحكم في سورية وأنها بذاتها تتشيع وتشجع التشيع … إلخ؛ وهو الاستنتاج الذي كان الأسد الأب يخشاه، ولكن تحالفاته الإقليمية أتاحته في النهاية، وما لبث أن ازداد قوةً في مرحلة بشار الأسد، وعلى نحوٍ خاص في مرحلة الثورة السورية وازدياد اعتماده على إيران والميليشيات الطائفية القادمة للدفاع عن نظامه من إيران نفسها، ومن العراق وأفغانستان وباكستان ولبنان.
[8] صاغ أحمد بيضون هذه الذهنية على نحو جيد، فكتب: «وينحو هذا الموقف إلى تسريب الاعتقاد بوجود نوع من الميزان الذاتي لعناصر الهوية، يصحّح كل خلل لا يكون الأجنبي (أي غير المسلم) سببًا له ويردّ كل نزاع من هذا القبيل إلى صنف المناوشات العابرة، مقلّصًا ما استطاع دور العنف في بناء الإمبراطوريات الإسلامية (وغيرها من الإمبراطوريات) وفي مسارات العلاقات القوميّة أو الطبقيّة … إلخ التي كانت تشكّل لحمة الحياة الاجتماعية في دول الإسلام». كما تناول «الخطل الذي يلازم دعوى مألوفة في التأريخ للبنان (حملها مسلمون وحملها مسيحيون) هي دعوى السلام المستديم بين الطوائف الذي دخل الأجانب وأعوانهم حرمه فأفسدوه، بوسائل مختلفة، في وقت يختلف المؤرّخون في تعيينه، فيقدّمه هذا ويؤخّره ذاك تبعًا للمصلحة والهوى». يُنظر: أحمد بيضون، الصراع على تاريخ لبنان أو الهوية والزمن في أعمال مؤرخينا المعاصرين، منشورات الجامعة اللبنانية، قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية؛ 19 (بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1989)، ص 432.
نجد نموذجًا لهذا النمط من التفكير الذي يصور التعايش جوهريًا في الشعب والقتال دخيلًا عند باحث لبناني آخر كتب أنّ النظام الطائفي مميز للبنان، وليس جديدًا ولا مرفوضًا من أبنائه، وأنّه قديمٌ يعود إلى حقبٍ وقرون، ويقوم على تقاليدٍ راسخة من معرفة الآخر واحترامه في العيش المشترك في قرى ومدن مختلطة، وأنّها صيغة فذة مقارنة حتى بالمجتمعات الغربية التي تعاني عمليات الاندماج، وأنه كان في الإمكان دائمًا تقديمه كنموذج للتعايش قبل الحرب الأهليّة التي يُحمّل عمليًّا مسؤوليتها للفلسطينيين عبر اقتباس وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر. يُنظر: داود الصايغ، النظام اللبناني في ثوابته وتحولاته (بيروت: دار النهار، 2000)، ص 150-153. والسؤال هو كيف يفسر هذا الكاتب الخصومات والحروب التي لا حصر لها في جبل لبنان خلال الفترة 1840-1860 (في غياب الفلسطينيين)، أي حتى نشوء «توافقية» المتصرفية المفروضة والمضمونة دوليًا. إن اضطرار الكاتب إلى الاعتماد على مصدر مثل هنري كيسنجر الذي لم تكن له مساهمات إيجابية في الحروب الأهلية في أكثر من مكان في العالم بوصفه مصدرًا يستفاد منه في تحميل مسؤولية الحرب الأهلية اللبنانية للفلسطينيين ضد حقائق التاريخ القريب نفسه، لا يُعتبر حجةً ولا يثبت أي فرضية.
[9] للتوسع في فهم نشوء مصطلح الأقليات واستخداماته مع نشوء الدولة الوطنية، وكأحد أهم نتائج نشوئها (وذلك باستخدام نموذج سورية في ظل الانتداب الفرنسي)، نقترح الاطلاع على المعالجات النقدية في: Benjamin Thomas White, The Emergence of Minorities in the Middle East: The Politics of Community in French Mandate Syria (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2012), chap. 1.
وسبق أن عالجتُ مسألة استيراد مفهوم الأكثرية والأقلية الدينية من أوروبا التي نشأت فيها الدولة الوطنية من خلال تحقيق التجانس الديني في المرحلة الأولى، وذلك في المجلد الثاني من الجزء الثاني من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي، حيث تطرقتُ إلى نشوء مفهوم الأقلية الدينية في أوروبا: «والواقع أن مفهوم الأقلية الدينية والأقلية القومية بعدّه مفهومًا سياسيًا وقانونيًا، لم ينشأ إلا في التجربة الأوروبية للدولة، أي حيث نشأ مفهوم دين الملك صاحب السيادة، وحيث نشأ أيضًا الطابع القومي للدولة، وجرى تعميمه عالميًا من هناك». يُنظر: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، 2 ج في 3 مج (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013-2015)، ج 2، مج 2: العلمانية ونظريات العلمنة، ص 70. وقد جرى إسقاط مفهوم الأقليات هذا على الماضي عند الحديث عن «الأقليات» غير المسيحية في العصور الوسطى الأوروبية، أو «الأقليات» في ظل الخلافة الإسلامية مثلًا: White, p. 21.
[10] Joshua Castellino and Kathleen Cavanaugh, «Transformations in the Middle East: The Importance of the Minority Question,» in: Will Kymlicka and Eva Pföstl (eds.), Multiculturalism and Minority Rights in the Arab World (Oxford: Oxford University Press, 2014), p. 57.
يقترح الكاتبان الاستفادة من إرث الهويات في المنطقة، بما في ذلك المِلل العثمانية، في محاولة للحوار والاحتواء. ويرفضان اعتبار الطائفيّة والتأسيس عليها نوعًا من الاستشراق، ويقولان إنّ الهويات وتأكيد الفروق ليس أمرًا يتعلّق بالشرق الأوسط وحده (ص 71). كما يرى الكاتبان أنّ الطريق لديمومة الديمقراطيّة في المنطقة لا تكون إلا بالحوار بين الجماعات المختلفة مع احترام حقوق الفرد المتساوية بغض النّظر عن هويته أو انتمائه. ولا يعتبران الاعتماد على الانتخابات وحدها كافية على الرغم من ضرورتها، لأنّ الانتخابات تفضّل الأغلبيات بطبيعتها. ويجب البحث عن وسائل للتعبير عن أصوات الأقليات. ويقترحان أن تساهم جامعة الدول العربيّة في وضع نظام لحقوق الأقليات. ومن الواضح أنّهما يكتبان بعد ثورات 2011 وتحت تأثيرها. ولكنّهما لا يكادان ينتبهان لأثر التركيز على الأقليات وإهمال حقوق الأكثرية، ولا سيما حين ينشأ مزاج عام متمثّل بأن الأكثرية محكومة من طرف أقلية، بغضّ النظر عن طبيعتها.
[11] John D. Brewer, «Sectarianism and Racism, and their Parallels and Differences,» Ethnic and Racial Studies, vol. 15, no. 3 (1992), pp. 358-359.
[12] سوف نفصل في هذه المصطلحات والمفاهيم لاحقًا.
[13] Anthony D. Smith, «Ethnic Cores and Dominant Ethnies,» in: Eric P. Kaufmann (ed.), Rethinking Ethnicity: Majority Groups and Dominant Minorities (London; New York: Routledge, 2004), pp. 18-19.
ولتفصيل أكثر حول هذا الموضوع، يمكن العودة إلى الفصل الثاني من كتابٍ آخر للمؤلف نفسه: Anthony D. Smith, The Ethnic Origins of Nations (Oxford, UK; New York: B. Blackwell, 1986).
[14] اللافت للانتباه أن هذا الكاتب اعتبر المِلل العثمانية إثنيات داخل الإمبراطورية تحجرت بمنحها وظائف اجتماعية محددة، يُنظر: Smith, «Ethnic Cores,» p. 27.
[15] Donald L. Horowitz, Ethnic Groups in Conflict, with a new preface, 2nd ed. (Berkeley; Los Angeles; London: University of California Press, 2011), pp. 4-5.
[16] Ibid., p. 41.
[17] Ibid., p. 51.
[18] Ibid., pp. 102-103.
[19] Ibid., p. 12.
[20] Ibid., pp. 50-51.
[21] Tabitha Petran, Syria, Nations of the Modern World (New York: Praeger, [1972]), and Michael C. Hudson, The Precarious Republic: Political Modernization in Lebanon (New York: Random House, 1986).
[22] Rogers Brubaker, Ethnicity without Groups (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2004), p. 2.
[23] Ibid., p. 8.
[24] Pierre Bourdieu, «Identity and Representation: Elements for a Critical Reflection on the Idea of Region,» in: Pierre Bourdieu, Language and Symbolic Power, Edited and introduced by John B. Thompson; Translated by Gino Raymond and Matthew Adamson (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1991), p. 220.
[25] Brubaker, p. 16.
[26] Ibid., p. 17.
[27] Ibid., p. 12.
[28] McVeigh, p. 633.
[29] Ibid., p. 621.
[30] للتفصيل في موضوع حملات كسروان تحديدًا، قارن بـ: محمد جمال باروت، حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 58-113.
[31] على طول كتابه، يستعرض المؤرخ علي عبد المنعم شعيب مثلًا بالتفصيل مواقف فعاليات وقيادات جبل عامل الرافضة لضمهم إلى كيان لبنان الكبير قسرًا، وأصرارهم على مطلب الوحدة مع سورية مقتبسًا بيانات المؤتمرات العاملية المختلفة، ومؤتمر الساحل والأقضية الأربعة، ومقالات عديدة لقيادات صدرت في صحف مثل القبس ولسان الحال وغيرها. يُنظر: علي عبد المنعم شعيب، مطالب جبل عامل: الوحدة المساواة في لبنان الكبير، 1900-1936، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1987).
[32] نجد عرضًا وتحليلًا لهذه الاختلافات في: بيضون، الصراع على تاريخ لبنان. يُنظر على نحو خاص، الفصل المعنون «موتى كسروان»، ص 61-93. وبالطبع لم ينه هذا الكتاب النقاش، فصدرت العديد من الدراسات حول: تاريخ توطن جماعات الديانات والمذاهب المختلفة في المناطق المختلفة من لبنان، تأريخ قدوم المسيحيين إلى الشوف، تأريخ خروج الشيعة من جبل لبنان، وغيرها من قضايا العلاقة بين الطوائف والأقاليم، هذا مع أنّ التوافق اللبناني فدرالي إقليمي، بل طائفي شخصي. وعمومًا تفترض هذه الدراسات تاريخًا مستمرًا لطوائف بوصفها كيانات عابرة للتاريخ، كما تفترض ضمنًا علاقة بين الطائفة والأرض كأن الطائفة كائن قومي. ومن الدراسات الديموغرافية التي صدرت بعد هذا الكتاب: لطيف إلياس لطيف، في التحولات الديموغرافية للطوائف اللبنانية (بيروت: معرض الشوف الدائم للكتاب، 2012).
[33] Horowitz, pp. 4-5, 41 and 51.
[34] Ibid., pp. 202-205.
[35] كما في اتهامات التأريخ الطائفي الشيعي لثورة العشرين في العراق للسنّة بعدم المشاركة في الثورة، أو التواطؤ مع الاحتلال ضدها.
[36] يُنظر أمثلة عند مؤرخين معاصرين لتلك الأحداث 698هـ/1299م: إسماعيل بن علي أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر، علق عليه ووضع حواشيه محمود ديوب، 2 ج في 2 مج (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997)، ج 2، ص 406-409، وأحمد بن عبد الوهاب النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج 32 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1998)، ص 189-191.
[37] Kamal S. Salibi, A House of Many Mansions: The History of Lebanon Reconsidered, new ed. (London: I. B. Tauris, 2003), pp. 17-18.
حجم الخط
عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” صدر، هذه الأيام، كتاب جديد للمفكر عزمي بشارة بعنوان “”الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة”. يجمل الكتاب مسعى إلى تطوير نظرية في الطائفة والطائفية تقوم على مقارنة واسعة لتواريخ هذه الظواهر الاجتماعية والفكرية وديناميتها الداخلية. ويعد الكتاب نتاج بحثٍ نظري وتاريخي في ظاهرتَي الطائفة والطائفية بمنهجٍ متداخل التخصصات، فعلى الرغم من الانشغال بالطوائف والطائفية إلى درجة استحواذها على الخطاب اليومي للرأي العام، لم يتطور البحث العلمي في هذا الموضوع، فضلًا عن تطوير نظرية في فهمه وتفسيره انطلاقًا من الواقع العربي. يسدّ الكتاب فراغًا كبيرًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية، متسائلًا عن حدود النظريات الاجتماعية السائدة بهذا الشأن. ويجد تميزه في طرح مفهوم للطائفية قوامه نقد مفاهيم الطائفة والطائفية، وإدماج أطروحة الطوائف المتخيلة في فهم هذه الظواهر. ويناقش تطورها في التاريخ العربي الإسلامي، ومميزًا لها عن مفاهيم أخرى استخدمت لدراسة تطور الجماعات الدينية في السياق الغربي. ويمثّل الكتاب مساحة اشتغال جديدة ضمن مشروع معرفي تراكمي لدراسة تاريخ الظاهرة الدينية وعلاقتها بالعلمنة يقوم عليه بشارة. وقد صدر قبلًا جزآن من هذا المشروع بعنوان “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”.هنا الفصل الأول من الكتاب
العربي الجديد