صفحات الثقافة

العدالة أو أمي/ عباس بيضون

يقول كامو ما معناه إنه حين يقتحم بيتك إرهابي مهدداً عائلتك وأمك فإنك لا تملك إلا ان تقف ضده. بين العدالة وأمي اختار أمي هكذا قرر كامو الذي نحتفل هذا العام بعيد ميلاده المئة. كان الإرهابي الموصوف عند كامو هو عضو الثورة الجزائرية والعدالة هي قضيته، بينما الإرهاب الموصوف هو ما كان يقع أحياناً على بيوت الفرنسيين الجزائريين. ذلك الحين علت الصيحات ضد كامو من قبل اليسار الفرنسي والفرنسيين المؤيدين لاستقلال الجزائر والمنحازين، لذلك، للثورة الجزائرية. يبدو كلام ألبير كامو لأول وهلة وكأنه تعليق جانبي، يبدو عن حالة جزئية لكن الذين انتقدوا كامو لم يؤخذوا بجزئيته. اعتبروه مطلقاً، اعتبروا أن ألبير كامو كان يقول هنا بطريقة أخرى انه ضد استقلال الجزائر. إن الجزائر أمّه ويريدها أن تبقى منضمة إلى فرنسا ولا يهمه بحال حقوق الجزائريين وإرادتهم، يريد أن تبقى أمه له وذلك لا يتحقق إلا ببقائها ضمن فرنسا. منذ تلك اللحظة اعتبر كامو مؤيداً للاستعمار وكولونيالياً، الأمر الذي لطخ سمعته ذلك الحين.

انقضت سنون وسنون على رحيل كامو وبالطبع على قوله، نالت الجزائر استقلالها وهجرها الفرنسيون الذين ولد أكثرهم وتربى فيها، ترك أغلبهم أمهم التي سلخوا فيها طفولتهم وشبابهم. تركوا أمهم وتحققت العدالة بأي طريقة كانت. أراد انقلابيو الجيش الفرنسي أن يُبقوا الجزائر فرنسية لكن ديغول قلب مؤامرتهم وأحبطها. مع الوقت صار لكلمة كامو ما يتجاوز جزئيتها وموضعيتها. صار لكلمته معاني أبعد. صار الخيار بين العدالة وأمي مطروحاً على مسائل أخرى. ربما نفكر فيما سمي بالربيع العربي بهذا الخيار، ربما نفكر فيه في ليبيا وسوريا ومصر واليمن وتونس. في هذه الأمكنة وكلما بدا أن العنف يأخذ السدة ويسيطر على المشهد. أيا كان هذا العنف ومهما كان مصدره. فإننا نجد أنفسنا نعود إلى قولة كامو، لا يمكننا أن نعتبر العنف في شتى أشكاله عدالة. العنف في بعض أشكاله يضيع العدالة أو يطمسها. قد يكون عنفا عادلاً لكن الإفراط فيه وبعض أشكاله البشعة تلطخ العدالة. قد يكون في سبيل قضية عادلة لكن ذلك لا يعني انه عادل بحد ذاته. بعض أشكال العنف التي نراها على التويتر أو على المحطات التلفزيونية تجعلنا غير قادرين على أن نجمع بينها وبين العدالة، ليس فقط حنجرة القاووش المقتلعة ولكن أيضاً الطفلين اللذين أفرغ الرصاص في رأسيهما وهما يتلطيان ببعضهما في الشارع. هذا العنف ليس عادلاً مهما تكن القضية لكن أين تكون أمي، من تكون، في هذه المعادلة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى