العراق والمشرق بين الطائفيّة والمقاومة
حازم صاغيّة
لاحظ بعض النبهاء مفارقة لبنانيّة تضجّ بالدلالات: كيف أنّ سكّان بلدة شبعا من السنّة لا يؤيّدون «حزب الله» ومقاومته، علماً أنّ شبعا حدوديّة فيما استعادة مزارع شبعا من إسرائيل هي إحدى الحجج المعلنة لاستمرار تلك المقاومة. في المقابل فإنّ السكّان الشيعة في أرياف جبيل، الواقعة في شمال جبل لبنان، يؤيّدون «حزب الله» والمقاومة.
مفارقة كهذه، وهي واحدة من كثيرات مماثلة، تقول كم أنّ المقاومة غلالة رقيقة لنزوع طائفيّ طاغٍ على منطقة المشرق العربيّ. فهي في لبنان أداة لتمكين الشيعة ضدّ السنّة والمسيحيّين، وفي العراق أداة لتمكين السنّة ضدّ الشيعة، قبل أن يستخدمها الأخيرون أيضاً في الاتّجاه المعاكس.
والتشكيك بهذا الأقنوم المرفوع إلى سويّة المقدّس يملك جذوراً ضاربة في تربة المشرق العثمانيّ وما بعد العثمانيّ، وصولاً إلى الأنظمة الاستقلاليّة والطرق التي أدارت بها شؤون النسيج الوطنيّ لبلدانها. فهي بدل العمل على رأب التصدّع المقيم في هذا النسيج، لجأت إلى مماهاة نفسها مع أشطار من مجتمعاتها، وبدل الانكباب على بناء دول ومجتمعات على قدر من التجانس، هربت من هذه المهمّة بامتطاء القضايا الكبرى التي وفّرها وجود إسرائيل أو نظام الخميني (في حالة العراق الصدّاميّ)، فضلاً عن «الاستعمار» الذي لا يحول ولا يزول إلاّ ليجدّد نفسه بـ «الامبرياليّة»، أو ليلتحم بأصوله «الصليبيّة».
ما يشير إليه الوضع العراقيّ اليوم يرقى إلى تتويج دمويّ مخيف لتلك المهزلة المجرمة والمديدة. فأن يُحتفل بجلاء الأميركيّين عن بلاد الرافدين، تبعاً لتلك الفولكلوريّات النضاليّة الموظّفة، هو تحديداً احتفال بأن يغرق العراق في دماء أبنائه، وأن يُرشّح في وجوده ذاته للاضمحلال، وأن يتمدّد نزاعه إلى سائر المشرق أو أن يتقاطع مع نزاعاته.
وهذا ليس تمسّكاً مجانيّاً أو حماسيّاً بالأميركيّين، أو بغير الأميركيّين، بل من قبيل التشديد على ضرورة تعديل الأولويّات في النظر والفكر، بحيث يحلّ البناء الوطنيّ والاشتغال على التقريب بين أجزاء المجتمع محلّ أفكار المقاومة التي تؤدّي إلى عكس ذلك تماماً. فهي لا تفعل إلاّ تعزيز الانقسامات بالأحقاد وبالأدلجة، ما يجعلها أكثر استعصاء على التذليل. هكذا تنمو النزعة الاستقلاليّة بالتوازي مع مهمّة البناء الوطنيّ بدل أن تكون آخر مسمار في نعش الوطن.
وخصوصيّة النقلة الأخيرة – الراهنة في طائفيّة المشرق الدمويّة أنّها لم تعد تملك، في ظلّ تصدّع النظام السوريّ، الطرف الذي يستثمرها ويضبطها في قنوات من السياسة النفعيّة والسينيكيّة. فهي قابلة، بالتالي، لأن تغدو طائفيّة دمويّة بلا ضفاف، وبلا مؤتمرات طائف، لا تفتح إلاّ على أفق واحد وحيد هو الحرب الأهليّة التي تسبق التفكّك الكامل. وما السلوك التافه والصغير الذي تسلكه نخبة الحكم العراقيّ سوى البرهان على انعدام كلّ ضمانة من أيّ نوع كانت باستنقاذ العراق.
قصارى القول إنّ العام الجديد الذي سيبدأ بعد أيّام قد يُفتتح في العراق على نحو أكثر دراميّة، وبلا قياس، من الافتتاح السودانيّ للعام الذي يمضي. هكذا تموت البلدان واحداً بعد الآخر فيما تعيش المقاومات عزيزة منصورة.
الحياة