صفحات العالم

“الفيتو” سلَبَ النظام البعثي آخر وظائفه


وسام سعادة

صَرَفَ النظام البعثيّ الدمويّ الفيتو الصينيّ الروسيّ مباشرةً على الأرض، مُطلقاً العنان لأوسع حملة تدميريّة تنكيليّة منذ بدء الثورة السوريّة، مُسعفاً الشعور لدى أنصاره بأنّه راسخٌ وذكيّ وحيويّ وقادِر، ومعزّزاً يقين العرب والغرب بأنّ نحره للشعب السوريّ الثائر، بهذه الطريقة الخسّة، هو بمثابة تصميم على الإنتحار لا البقاء.

أمّا الجانب الروسيّ نفسه، فهو غير معني كثيراً بإستمرار هذا النظام أو بقاءه (إلا من باب المناكفة التي ساء أدبها في الأسبوع الماضي)، بقدر ما هو معنيّ بأمر واحد: وضع حد للتدخّل العسكريّ الذي عندما يقرّره الغرب بمجموعه، أو بقيادته الأميركيّة، ينفّذ، سواء كان ذلك بقرار من مجلس الأمن، أو من خارج مرجعية مجلس الأمن.

بيدَ أنّ أهمّ ما في الأمر، أنّ الغرب ما كان، على ما يظهر إلى الآن، في وارد أي تدخّل عسكريّ في سوريا يلي صدور القرار الدوليّ المنقوض، وما تصوير الحالة على أنّ الغرب كان يملك خطّة جاهزة وعطلّها هذا الفيتو غير مبالغة دراميّة شعبويّة، يمكنها أن تثمر هتافاً في تظاهرة، وليس تحليلاً لمسار العلاقات الدوليّة، وللعبة داخل المؤسسات الدوليّة، ولتأثير كل ذلك على مجرى الأمور في الداخل السوريّ.

في المقابل، لعب هذا الفيتو، ومن حيث لا يدري الروس ولا الصينيّون، دوراً أساسيّاً في تدويل الأزمة. خلق مفعول الصدمة الأخلاقيّة الواسعة النطاق، التي ما كان لصدور القرار، بالنص الملتبس أساساً الذي جرى التقدّم به، أن يسبّبها. ولا نعني بهذه الصدمة الأخلاقيّة مجرّد احتلال الحدث السوريّ والموقف الدوليّ بشأنه واجهة الأحداث في العالم، بل أيضاً الحضور السريع، وعلى مستوى الكوكب ككل، لهذا السؤال الذي طرحه المفكر الجيوبولتيكي زبيغنيو بريزنسكي في كتابه الأخير “الرؤية الإستراتيجية. أميركا وأزمة القوّة العالميّة”، أي السؤال عن حال العالم، وحال الديموقراطيّة فيه، فيما لو انكفّات الولايات المتحدة الأميركية عن ممارسة دورها العالميّ المعهود في العقود الماضية، لصالح “القوى المحوريّة الآخذة في الإنبثاق”، والتي من بينها، روسيا والصين.

وانعكاس هذا السؤال جاء مزدوجاً: بشكل مباشر في العالمين العربيّ والإسلامي، وبشكل غير مباشر، وآخذ في النموّ في الغرب.

عربياً واسلاميّاً، عنى ذلك أنّ ثورات الربيع العربيّ، تقابل دوليّاً بين عدم استعداد أميركا ولو ليوم واحد للدفاع عن أيّ من الأنظمة السلطويّة التي كانت حليفة لها، بل على العكس من ذلك، الضغط عليها بشدّة لإسقاط رأسها، كما في حال مصر، وبين عدم استعداد روسيا للإقدام على الشيء نفسه، حتى مع إدراكها أنّ نظامي القذافي والأسد لم يكونا يوماً في صفّها على نحو استراتيجيّ وجدّي، إلا في لعبة “الرد ألرت” الإلكترونيّة. بل على العكس من ذلك، اسقاط كل العقد النفسية المزمنة التي أعقبت خيبة الأمل من زمن ما بعد سقوط الإتحاد السوفياتي،على الوضع السوري، وتدفيع الشعب السوريّ ثمناً طائلاً لما لا ذنب له. فكما أنّ الغرب والإتحاد السوفياتي دفّعا الشعب الفلسطينيّ مأساة الحرب العالمية الثانية التي لا ذنب له فيها، كذلك فعلت الصين وروسيا اليوم. ان الفيتو الروسيّ الصينيّ شبيه بهذا المعنى بمبادرة الإتحاد السوفياتي عام 1947 إلى قرار التقسيم، وعام 1948، إلى الإعتراف بدولة اسرائيل قبل الجميع (والشيوعيّون الببغائيون في بعض البلدان العربيّة كآبائهم في هذا الإطار، فكما عام 1947 تراهم يهلّلون اليوم لـ”الرفيق بوتين”).

هذا مع فارق أساسيّ: وهي أنّه يجري اليوم الدفاع عن نظام لا مستقبل له، كونه نظام اعتمد تاريخياً على رضا العرب ورضا الغرب، قبل الروس. ولنقلها بصراحة: “اليمين الإقليميّ” لجأ في الستينات إلى “البعث الفئوي” في سوريا لتطويق جمال عبد الناصر بمزايدة يساروية، ثم كانت وظيفة هذا البعث الفئوي في طبعته الثانية، الأسديّة فقط، هي المزايدة على مصر الساداتية من جهة، وتقويض الثورة الفلسطينية من جهة ثانية، ثم كانت له وظيفة في مواجهة صدّام حسين، وهكذا. اليوم، هذا النظام لا وظيفة له لدى العرب أو لدى الغرب. يمكن لإسرائيل أن ترتاح لإستمراره، طبعاً، لكن لا يمكن أن تؤمّن له وظيفة بديلة. والروس بدورهم والصينيّون لا يستطيعون أن يؤمّنوا لبشّار الأسد وظيفة، لا في الشيشان ولا في التيبت.

بهذا المعنى نقول، أنّ “الفيتو” سلب النظام البعثيّ آخر وظائفه. صار يقتل لا لأجل لشيء. صار هدفه عدميّاً: استرجاع “بابا عمرو”. وبعد؟ لا شيء بعد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى