الكارثة السورية: عمر صاحي
عمر ضاحي
لأسباب معلومة، طغت الخسارة البشرية الفادحة على تغطية الانتفاضة والحرب الداخلية في سوريا. قُتل حوالي 60000 سوري (أو أكثر)، بينما يعاني عشرات الآلاف من آثار بدنية ونفسية بسبب العنف. ففي نهاية شباط/فبراير، فاق عدد السوريين اللذين نزحوا داخلياً أو لجأوا إلى بلدان مجاورة 3 ملايين.
وعندما نستذكر، يبدو بأن المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة، ومعها العديد من المراقبين، لم تستوعب مدى الأزمة عندما صرحت في آذار/مارس من عام 2012 بأنه سيحتاج 96500 لاجئ فقط في الأردن ولبنان وتركيا والعراق إلى المساعدة حتى نهاية ذلك العام. ومن المرجح أن لا تكفي تعهدات المانحين بدفع 1,5 مليار دولار بالتمويل المطلوب. ولقد اعترف برنامج الأغذية العالمي بأنه غير قادر على تأمين الطعام لأكثر من مليون شخص جائع داخل سوريا. ليست مستويات الدمار صاعقة فحسب — بل هدف متصاعد أيضاً. وتصبح التقديرات قديمة وغير ذات جدوى بعد وقت قصير من إجرائها.
وثمة ما يدعو للقلق غير الكارثة الإنسانية الآنية، وأعني الدمار الهائل الذي لحق بالاقتصاد السوري على المدى القصير والبعيد. يخشى العديد من اللاجئين والنازحين داخلياً على حياتهم، ولكن هناك سبب آخر لهروبهم الجماعي وهو فقدان أسباب الحياة الناتج عن تدمير قرى ومدن بأكملها وتخريب البنية التحتية والأراضي الزراعية.
وكما تشير مجموعة الأزمات الدولية، فقد تدهور الاقتصاد كثيراً مع تصاعد الإجراءات الصارمة ضد الانتفاضة. حيث انتقلت الحكومة من الاعتقال الجماعي والتعذيب وإطلاق النار المستهدف ضد المتظاهرين إلى “الحل الأمني” أو العقاب الجماعي للمدن وأخيراً إلى “الحل العسكري” وقصف المناطق التي تأوي الثوار المسلحين. قاد التدمير الممنهج والشامل لبلدات ومدن بأكملها إلى اتهامات بجرائم ضد الإنسانية بحق النظام السوري. ولكن وإبان استمرار التحول إلى عسكرة النزاع وثّقت الأمم المتحدة جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان من قبل عدة مجموعات للثوار.
من البديهي أن سوريا، وفي كل الأحوال، ستدفع الثمن الاجتماعي- الاقتصادي لحربها الداخلية لوقت طويل بعد صمت الأسلحة.
هناك تراجعات حادة في الإنتاج والاستثمار والتجارة. فقد انخفض ناتج الزراعة بشكل كبير بما في ذلك القمح والشعير والفواكه والخضار. زاد القتال من الآثار السلبية للجفاف الكبير الذي أصاب سوريا منذ عام 2003. (لم تتم بعد دراسة الثمن الاجتماعي الذي ألحقه الجفاف ودوره في المعاناة في الفترة المؤدية للانتفاضة(. القمح والذي لطالما كان مصدراً للأمن الغذائي، قد تقلص عبر السنين الماضية بنسبة 30-50 بالمائة وفي عام 2012 فإن التقديرات تشير بأنه أقل مما كان متوقعاً بـ 40 بالمائة. عانى قطاعي المواشي والدواجن بشكل كبير وفق لتقرير منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2012 مما ساهم في زيادة أسعار اللحم والحليب والدجاج والبيض بنسبة 300 بالمائة في بعض المناطق. وختمت المنظمة آنذاك بأن “مستويات الأمن الغذائي المنزلية لحوالي 30 بالمائة من سكان الأرياف” قد تعرضت لخطر كبير، دون أن نغفل ذكر العائلات التي نزحت داخليا وتعيش الآن في أطراف المدن. وتقول منظمة الأمم المتحدة أن حوالي 3 ملايين شخص يحتاجون مساعدة عاجلة لتأمين الطعام لهم.
لم تكن ردة فعل الحكومة على اندلاع الانتفاضة — زيادة رواتب القطاع العام– كافية ولا ملائمة. زادت الليبرالية الاقتصادية منذ عام 2000 الفقر وعدم المساواة والتهميش وأزالت قواعد التموين الاجتماعية التقليدية، وخصوصاً في الريف. أفرز الفساد الناتج عن التحالف بين من أصحاب المال وأصحاب السلطة في إثراء مجموعة ضيقة من رجال الأعمال الأقوياء وشركائهم في الجيش وقوى الأمن. وبدلاً من القيام باستثمارات واسعة تعود بالفائدة على عامة السوريين فقد سعى النظام لانتقاء قواعده المفترضة من المخلصين بين الموظفين المدنيين والشركات التي تملكها الدولة وبيروقراطية الدولة بشكل عام. نصف الإجراء هذا مضافاً إليه عدم رغبة أو عدم قدرة النظام على معالجة الأهداف الرئيسية للغضب الشعبي، على سبيل المثال ابن خالة الرئيس رامي مخلوف، أشار بان النظام قد انتقل فوراً إلى وضعية النجاة بدلاً من معالجة الدوافع الأساسية للانتفاضة بشكل جدي.
يبحث تقرير صدر في أواخر كانون الثاني/شباط من قبل المركز السوري لبحوث السياسات كلاً من الجذور الاقتصادية للانتفاضة ونتائجها. (مكاشفة: ساعدت في تحرير جزء من ذلك التقرير). يدعي الاقتصاديون بأن الخسائر الاقتصادية في عام 2012 تقارب 48,4 مليار دولار، نصفها سببه خسائر في الناتج المحلي الإجمالي ونصف آخر بسبب تراجع أسهم رأس المال والمصاريف العسكرية. يقدر التقرير بأن التراجع في مؤشر التطور الإنساني السوري (وهو خلاصة المؤشرات الاجتماعية بما في ذلك قياس الدخل والتعليم والصحة) قد عاد وتراجع لمستواه في عام 1993، أي خسارة 20 سنة من التطور الإنساني.
وبينما تابع النظام بقمعه الوحشي كانت هناك نداءات مرتفعة من أجل عقوبات اقتصادية. لم تأت من المشتبه بهم المعتادين فحسب، مثل حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً من الجامعة العربية والنشطاء داخل سوريا الذين روعهم العنف الذي أصاب حركة الاحتجاجات. ومع أنه من الصعب فصل الأثر المحدد للعقوبات عن الاضطراب الاقتصادي العام، فمن الواضح أنها لم تحقق هدفها في عزل ومعاقبة النظام. على العكس، فقد فاقمت من الأزمة الاقتصادية وزادت العبء على المجتمع السوري.
لم تبدأ العقوبات الاقتصادية على سوريا مع انتفاضة عام 2011. تفرض الولايات المتحدة ثلاثة أنواع من العقوبات ضد سوريا. يمنع قانون المحاسبة السوري عام 2003 تصدير معظم البضائع التي تحتوي على أكثر من 10 بالمائة من مكونات أمريكية إلى سوريا. في عام 2006، منعت إدارة بوش المصارف الأمريكية وفروعها من التعامل مع المصرف التجاري السوري والذي اعتبر “مؤسسة تثير القلق بشكل أساسي من ناحية غسيل الأموال” وكان ذلك من تبعات تدابير القانون الوطني PATRIOT Act. وأخيراً، ومن خلال ثمانية أوامر تنفيذية، فقد فرض الرئيسان جورج بوش الابن وباراك أوباما عقوبات خانقة ضد الشركات والمواطنين السوريين لأسباب تتدرج من دعم نظام صدام حسين (الأمر التنفيذي 13315) إلى “استغلال الفساد العام”. يمنع الأمر التنفيذي 13572 الذي وقعه أوباما في 29 نيسان/أبريل من عام 2011 التعامل مع الأفراد أو المؤسسات المتهمة بالاشتراك بانتهاكات حقوق الإنسان إبان الانتفاضة.
الضربة الموجعة التي تلقاها الاقتصاد السوري أتت من عقوبات الاتحاد الأوروبي. فبحسب المفوضية الأوروبية، فقد أصدرت بروكسل 17 مجموعة من “التدابير المقيدة” بحق المواطنين السوريين أو المؤسسات الحكومية أو شركات خاصة، بما في ذلك تعليق مشاركة الحكومة السورية في مبادرة التعاون الإقليمي الأوروبي-المتوسطي وقروض مصرف الاستثمار الأوروبي لدمشق. أكثر التدابير إرهاقاً –من حيث كمية العائدات التي تمت خسارتها– هي حظر استيراد النفط الخام ومنتجات النفط. كما أوقف الاتحاد الأوروبي الاستثمار في صناعة النفط وبناء محطات التوليد الكهربائية في سوريا. كما أوقف تزويد المصرف المركزي السوري بالعملات الورقية والنقدية والتي كان يتم سكها في النمسا.
أحد آثار العقوبات، وفقاً لجهاد يازجي محرر “التقرير السوري”، هو بأنها سرّعت نضوب احتياط العملات الأجنبية في سوريا. فقد سحبت الحكومة السورية بشكل مكثف من ذلك المخزون النقدي بينما جفت عائدات النفط. وفقاً للمركز السوري لبحوث السياسات الذي سبق ذكره، فقد كانت العقوبات السبب في 28 بالمائة (أي 6,8 مليار دولار) من خسائر الناتج الإجمالي المحلي في عامي 2011 و 2012. ويقول الاقتصاديون بأن الأثر الأسوأ للعقوبات كان على الطبقات الاجتماعية الدنيا، وذلك بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية كالخبز وارتفاع أسعار وقود التدفئة. في السنة الماضية، تم تطوير اقتصاد حرب، متخم بالتهريب الذي تقوم بجزء منه القوى الأمنية عينها.
على خلاف عراق صدام حسين، لم تشرّع الأمم المتحدة العقوبات ولم تفرض القوى العظمى منطقة حظر جوي. وقد حافظت سوريا على علاقات اقتصادية قوية مع دول أخرى. بوضعها سوياً مع درجة متقدمة من الاكتفاء الذاتي في إنتاج الطعام، وهي سياسة أسسها الأسد الأب، فإن المقابل كان أن سوريا استطاعت أن تفلت من أسوأ التبعات التي تفرزها العقوبات.
ولكن هناك بعدٌ آخر للعقوبات ينساه مؤيدوها أو يغضون النظر عنها. فالعقوبات أدوات سياسية هدفها تغيير سياسة الحكومة المعنية أو الحث على انقلاب شعبي. حالما يتم تطبيق العقوبات، يمكن تعديل مبرراتها. تعتقد السي آي إي بأن سوريا تمتلك رابع أكبر مخزون في العالم من السلاح الكيميائي. في آب/أغسطس من عام 2012، أصدر الرئيس أوباما تحذيرات شديدة صارمة للنظام السوري بخصوص عدم استخدام هذه الترسانة المزعومة ضد الثوار. وفي حال سقوط النظام، قد يتم إعادة إحياء العقوبات لإرغام الحكومة السورية الخليفة بتأمين أو تدمير المخزون المشتبه به.
ليس من الواضح متى سيتوقف القتال أو متى ستبدأ معافاة ما بعد الصراع. ولكن هذه المعافاة لا بد أن تعالج كلاً من القلق للناحية الإنسانية العاجلة ومحنة اللاجئين والنازحين في الداخل. يجادل يازجي بأن سهولة تكيف الاقتصاد السوري تعود لتنوعه –سهولة تكيفه في التصنيع والزراعة وقطاع الخدمات بما في ذلك السياحة– ولا بد من إجراء بعض إعادة البناء. سيكون عملاً شاقاً بسبب الاقتصاد المدمر، والموارد النفطية المتناقصة واحتياطات النقد الأجنبي التي قد تكون شارفت على الإفلاس. عملية إعادة البناء محفوفة بمخاطر أخرى، كما تظهر تجارب العراق ولبنان. ومن الجدير ذكره أن الدمار غير متساوٍ بشكل كبير –هناك مدن مثل طرطوس لم تتأثر تقريباً، بينما هناك مدن أخرى مدمرة تماماً. علاوة على ذلك، هناك مؤسسات صناعية ضخمة ومحطات توليد الطاقة وموانئ رئيسية يبدو بأنها لم تصب بأذى، إلى حد الآن.
لا يزال هناك جيوباً من الأمل، وخصوصاً في المستويات المنخفضة. ليس أقلها الشبكات المحلية والإقليمية المتنوعة والتي أخذت على عاتقها مهمة التنظيم الاقتصادي والسياسي. وكذلك المبادرات المناهضة للطائفية في خضم هذه الفوضى. ثمة تجارب في الديمقراطية المباشرة أجرتها مجالس التنسيقيات المحلية تستحق التمعن والدعم. حدثني عدد من النشطاء والأطباء من منظمات إغاثة دولية، وبشكل منفصل، عن الخبرات المتطورة للأطباء السوريين اللذين أنشأوا مستشفيات ميدانية تحت أصعب الظروف. يجب ألا أن ننتظر نهاية الجمود المميت حتى يبدأ تنظيم سوريا المستقبلية.
[نشر للمرة الأولى بالإنجليزية على موقع ميريب وترجمه إلى العربية مازن حكيم]