المثقف العربي في محيطه المباشر…/ يحيى بن الوليد
تابعت، قبل أيّام، الحوار الذي أجرِيَ مع الشاعر والمفكر العربي أدونيس في قناة “فرانس 24 بالعربية” التي تبث من باريس. وحوار مع قامة من هذا النوع لا يملك المهتم والمتابع لقضايا الثقافة العربية إلا مواكبته بالنظر لما يوفّره الحوار في حدّ ذاته من فرصة مغايرة للإنصات للرجل في إطار آلية الحوار وبخاصة إذا كان وراء الحوار محاوِر جدير بتوليد أفكار من المحاوَر عبر أسئلة تمهّد للأفكار والمواقف والردود.
والظاهر أن الحوار، في حال مفكرنا، وعلى أهميته، كان احترافيا أو مهنيّا… لكيلا نقول كان عاديا أو ما شابه ذلك. إضافة إلى أن المحاوَر رجع ــ مرّة ــ إلى ورقة صغيرة لكي يقرأ ما أعدّه من قبل. وكما أن إجاباته، وفي مجملها، جديرة باستخلاص ما يمكن استخلاصه على مستوى إعداد الحوار وتدبيره بشكل جيّد. ومن ثمّ حصيلة الإجابات المقتضبة شأن الأسئلة المعدّة سلفا والمقتضبة بدورها.
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في الحوار حفاظ صاحب “الثابت والمتحوّل” على لغته ذاتها التي عوّدنا عليها من قبل. فلا مجال للتراجع أو المداورة أو المراوغة أو أنصاف الحقائق… أو “منطق نعم… ولكن”. ومن ثمّ الموقف ذاته الصريح من إشكالية الدين وأهمية الإقدام على البحث في الوحي والقطيعة مع القراءات السائدة للموروث والتصريح بالعلمانية والتذكير باستمرار تصلّب موقف الغرب من العرب وتعامله مع هؤلاء كرقم وثروة ومحطات بنزين… وصولا إلى أهمية الثقافة في أفق التأكيد على ضرورة إصلاح المؤسّسات الثقافية والسياسية والتربوية من أجل الإعداد لبناء ثقافي جدير بالإسهام في تقليب المتكلّس في مجال “الذهنية العربية السائدة” كما نعتها أدونيس في كتابه “النص القرآني وآفاق الكتابة” (ص63).
ولعل ما يلفت الانتباه في الحوار هو حجم الثقة الذي يصدر عنه أدونيس بعض المواقف أو الأحكام التي تبدو غير مراعية لطبيعة السياق التاريخي العربي الضاغط والجارف الذي يستوعب المثقفين والمفكرين والكتّاب والأكاديميين. ولعل ما يلفت الانتباه أيضا عدم ذكر أدونيس ولو اسما واحدا من هؤلاء وكأن الفكر العربي لم يلد أكثر من اسم من الأسماء التي خطت خطوات مهمة على مستوى التشابك والتفكيك… لقضايا أو بالأحرى لألغام في الفكر العربي المعاصر، وعلى النحو الذي جعل بعض هؤلاء عرضة لأكثر من تهديد بمعناه الحرفي وليس المجازي.
واللافت، أكثر، في الحوار حشره للمثقفين العرب ضمن مقولة تصنيفية تبخيسية وواحدة وهي مقولة “الموظفين” (والمؤكد لدى سلطات بلدانهم). ومن ثمّ فالمثقف مجرد موظف مطلوب منه أن يقول “نعم” في الوقت الذي يطلب منه قولها أو أن يقول “لا” في الوقت الذي يطلب منه قولها أيضا، وقد يكون بإمكانه أن يبادر إلى قول أحد طرفي الثنائية في سياق التقاط “الإشارات والتنبيهات” أو سياق التماهي مع السلطة. وفي جميع الأحوال فالمثقف يبدو، هنا، بدون “عمود فقري” (كما عبّر عنه كاتب عربي)؛ ما يجعله متراوحا بين الولاء والانحناء.
والظاهر أن هذا المنحى في التعاطي مع المثقفين العرب هو الغالب في سلم التعاطي الإجمالي ومن مواقع مختلفة قد تبلغ مربع الهجاء بدلا من دوائر التحليل والتشخيص والنقد؛ ما يوحي، ودونما إشارة لسياقات التحرّك وعوائق الأداء، بهكذا مجرد “استقالة جماعية” للمثقفين من تلقاء ذواتهم في سياق البحث عن وضع اعتباري مريح من داخل الثقافة ذاتها وبما يضمن لهم مواصلة أدائهم كـ”موظفين” ولا حتى كـ”عمّال” أو “معامل” للفكر والمعرفة.
أجل إن النقد، وبما في ذلك النقد الصارم، للمثقفين، وارد بأكثر من معنى… بالنظر للآمال المعلقة عليهم على مستوى مقولة “أحلام التغيير”، وبالنظر لأدوارهم على مستوى النقد ذاته والمراجعة والتقويم والنقاش العام… إلخ. وتراجعهم الملحوظ على هذا المستوى، تعيينا، يحتّم نقدهم بل يدفع إلى السخط عليهم. غير أن عدم مراعاة المحيط المباشر ــ الذي يستوعبهم ــ يطرح أكثر من سؤال على طريق هذا النقد الصعب والشائك. ومن أبجديات العلوم الاجتماعية أنه إلى جانب “العامل” هناك شرط “البنيات”. ومن ثمّ نجاعة المقاربة التي لا تقفز على معطى المحيط المباشر للمثقف.
ولنا في حال المفكر المصري (الراحل) نصر حامد أبو زيد مثال على المحيط المباشر الذي يستوعب المثقف من موقع المفكر الذي آثر التعاطي (التحليلي) للنص الديني ومن منطلق التمييز بين النص الديني في حدّ ذاته وما ينتج حوله من خطابات بشرية ضمن “شبكات اجتماعية تحتية” (بتعبير جيل كيبيل) محكومة بـ”ماكينات الإيديولوجيا”. والتذكير بالمحنة، التي عانى منها نتيجة منجزه الفكري، يغني عن استحضار محاورها الكبرى. ولذلك فإن ما يهمّنا، في سياق مقالنا، وفي إطار حال العرب القديمة/ الجديدة، ما قاله نصر حامد أبو زيد نفسه في ظل التهديد الذي طاوله. قال: “ما أقوله هو ما يقوله آخرون، لكن في باريس وليس في القاهرة”. وكان المقصود طبعا هو الراحل محمد أركون الذي قدّم ــ بدوره ــ قراءة تحليلية جريئة للنص القرآني سعت إلى موضعة الوحي ضمن التاريخ وبالتالي البحث في مستوياته اللغوية والثقافية والاجتماعية. ومعنى ذلك السعي إلى “تطبيق” المنهج التاريخي النقدي على المضامين الأكثر قداسة، وذلك كلّه من منظور “الراديكاليا الإبستيمولوجية” التي تهدف إلى “الذهاب إلى عمق الأشياء أو إلى جذور المشاكل المطروحة وعدم الاكتفاء بمسّها مسّا خفيّا أو سطحيّا” كما يشرحها مترجم محمد أركون هاشم صالح في “قضايا في نقد العقل الديني” (ص58)، وذلك كلّه أيضا بهدف ضرورة “الدخول في صلب المشاكل الحقيقية وعدم تحاشيها بحجة مراعاة الشعب أو الجماهير أو “العامة”… إلخ” (ص331).
وخطاب من هذا النوع يصعب تقبله في العالم العربي، وهذا ما يفسّر إحراق كتاب أركون (Lectures du Coran) (1984) الذي نقله للعربية هاشم صالح تحت عنوان مغاير “القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” (2001). وكما أن خطابا من هذا النوع يصعب تقبّله ليس من قبل المجموعات الدينية المتصلبة فقط، وإنما من قبل السلطة التي لا ترى في “الدولة” إلا مجرّد أداة لتثبيت النظام الذي يعلو على المجتمع. ولذلك لم يكن نصر حامد أبو زيد، وهذا ما خلص إليه مفكرون مصريّون في كتاباتهم عنه، ضحية المجموعات الدينية المتطرفة فقط، وإنما كان ضحية “الدولة البوليسية” أيضا التي قدّمته ــ في إطار “تسويّات” ــ “كبش فداء” لهذه المجموعات التي كان لا يخفى عليها أن الرجل يعلن إسلامه “بصوت المؤذن” كما يقال وأن كل ما كان يطالب به هو “إسلام عصري” يقرّ بـ”جوهر الحقيقة الدينية”. ولذلك أيضا أرغم الرجل على الرحيل إلى خارج بلده تأكيدا لـ”مخرج العقل المهاجر” وبوسط غير الوسط الذي كان يسعى إلى تفكيك خطاطاته الكبرى من منظور المفكر المتشابك مع الواقع الذي يعيش فيه.
المثال الثاني هو الأكاديمي الأمريكي والمفكر/ الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد الذي خصّ بدوره موضوع المثقف بكتاب (“صوّر المثقف”) (1994) يعدّ أطروحة ضمن الأطاريح أو المراجع العالمية المكرّسة للمثقفين. أجل يصعب أن نصنّف إدوارد سعيد ضمن المثقفين العرب، ذلك أن الرجل ــ وعلى مستوى التحصيل الدراسي والتكوين الأكاديمي، ابتداءً ــ هو نتاج للغرب. غير أن ما سلف لا يحول دون ربطه بالعرب وبخاصة من ناحية فلسطين التي ارتقى بها إلى مستوى “الفكرة” (فكرة فلسطين العالمية). وعلى هذا المستوى تبقى صورته، وهو يسابق شبانا صغارا وهم يرمون الحجارة عند بوابة فاطمة فور انتهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، معبّرة… أو “سيّدة الذكريات” كما قيل في توصيفها. وهناك من يتصوّر أن جانبا من شهرته العالمية يعود إلى طريقته في صياغة الفكرة ذاتها عبر أشكال من الكتابة والحوار والسجال والمحاضرة. ولا يخفى أنه كان بإمكانه، وعلى غرار مئات من المنفيين والمجتثين والمنشقين والمقتلعين من بلدانهم، وبخاصة في سياق مثل السياق الأمريكي المساعد، أن يتعاطى لموضوع من مواضيع “ما بعد الحداثة” وعلى النحو الذي يضمن له مكانة مريحة بالوسط الأمريكي الأكاديمي والإعلامي. غير أنه حرص على أن يقرن اسمه بفكرة فلسطين، بل جعل منها جبهة أساسية ضمن جبهاته الأكاديمية المتعدّدة؛ ما جعله عرضة لأكثر من تهديد برع في تدبيره.
وما يهمنا، في حال إدوارد سعيد، وفي إطار “المحيط المباشر” للمثقف، هو نقده (اللاحق) ــ والعنيف أيضا ــ لمنظمة التحرير الفلسطينية وسلطة ياسر عرفات بشكل خاص. وقد بدا لافتا كيف أنه تجاوز نقد الموقّعين على “اتفاقيات السلام” (أو “الاستسلام” كما نعته) مع الخصم الإسرائيلي، وعلى وجه التحديد من ناحية عدم تمكّنهم من اللغة الإنجليزية، نحو نعت المنظمة/ السلطة الفلسطينية بـ”الفاسدة”. وترتّب على ذلك ما ترتّب من منع، من قبل السلطة ذاتها، لتداول كتبه في قطاع غزة والضفة العربية بفلسطين المحتلة. وأخذ عليه، في موقفه من السلطة الفلسطينية، أنه كان يستجيب لـ”صوت المثقف الحالم” بدلا من صوت المثقف النقدي الذي يراعي تجربة السياسي الذي عركته إكراهات العمل السياسي اليومي. ولعل في هذه الإكراهات ما يفسّر ما قيل عن ياسر عرفات في علاقته بالمثقفين بعامة في محيطه المباشر. ومفاد الفكرة أن الرجل “كان محاطا بعقول فلسطينية مهمة كثيرة؛ وكان ينصت إليها، غير أنه لم يكن يعمل بأفكارها”.
المثال الثالث هو مثال مؤرّخ/ مفكر لا يزال على قيد الحياة ويسهم بحيوية نادرة في الإنتاج الفكري، ولعلّه ــ وبشهادة صديق إدوارد سعيد الشاعر محمود درويش ــ أهم ما أنجبته الساحة الفكرية العربية خلال نصف القرن الأخير. “من هو المثقف؟” سؤال يطرحه عبد الله العروي نفسه ويجيب عليه، في كتابه “ثقافتنا في ضوء التاريخ”، قائلا: “سؤال صعب لكنه ضروري. تطلق الكلمة عامة على المفكر أو المتأدب أو الباحث الجامعي، وفي بعض الأحيان حتى على المتعلم البسيط. بيد أن المفهوم لا يكون أداة للتحليل في العلوم الاجتماعية إلا إذا أطلق على شخصية تظهر في ظروف جد خاصة” (ص172). وهذه الـ”ظروف” أعطت نخبة ينعتها العروي في كتابه “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” بـ”الأقلية المثقفة” (ص90). وما يهمنا أكثر هو مدى تعاطيه مع ما ينعته المفكر اللبناني علي حرب بـ”حقول الألغام” وضمنها حقل الدين. ومن هذه الناحية فعبد الله العروي يفيد، في حوار معه ومنشور بجريدة “الاتحاد الاشتراكي”: الجمعة 16 أبريل 2004، أن الدخول في مناقشة أفكار ذات صلة بالفكر الديني التقليدي أو التعليق عليها عديم الفائدة ما دام أمرها محسوما لفائدة المجموعات الدينية التقليدية. فالمشكل بعامة، من منظوره، في التقليد أو “التقليدانية” ( ككل) (Traditionalisme) التي يأخذها كنقيض لـ”التاريخانية” (Historicisme) التي انتصر لها من موقع التحليل التاريخي والفكري الصارم في العديد من كتبه. والأهم، هنا، وبتعبير عبد الله العروي ذاته، من “الذي يجب معرفته، هو كيف يبنى التقليد” ذلك أنه “يتمّ تعريف التقليد، عامة، على أساس الأفكار، لكن الجوهري هو المعيش، الموقف اليومي. الجميع يساهم في التقليد في مجتمع مثل المغرب” (جريدة “الاتحاد الاشتراكي”: الأربعاء: 13 أكتوبر 2009).) ومن ثمّ شرعية السؤال حول أداء المثقف في “المجتمع التقليدي الغميس” كما نعته العروي في “مجمل تاريخ المغرب” (ص652)؛ ومن ثمّ صعوبة التمييز بين الفرد، بما هو فرد، والفرد كعضو في المجتمع على نحو ما دعا العروي إلى ذلك في ندوة بمناسبة مرور نصف قرن على ظهور كتابه الإشكالي (“في الإيديولوجيا العربية المعاصرة”).
وصفوة القول، من خلال ما سلف، هو أن نعرض لطبيعة المحيط المباشر الذي يستوعب مثل هذه القامات الفكرية في العالم العربي وعلى النحو الذي لا يخلو من تأثير معكوس على مستوى أداء المثقف… وذلك كلّه قبل أن نخلص، من باريس أو غيرها من عواصم الغرب “الرأسمالي” المريحة، إلى أيّ صنف من صنوف التصنيف المتعجّلة التي تهدر هذا المحيط الذي هو أعقد من أن نحكم من خلاله على المثقفين بتوصيف “الموظفين” الجاهز، ولا سيما من منظور لا يخلو من استعلاء فكري؛ وذلك كلّه أيضا حتى لا نطالب المثقفين العرب بما يفوق حجمهم الطبيعي والحقيقي في “البيت العتيق” وعلى وجه التحديد من ناحية جعل هؤلاء في مواجهة “سيزيفية” مع مؤسّسات هي ــ في الثقافة كما في السياسة ــ بدون معايير أو بالأحرى هي في شكل “غوريلات” تزن عشرة أطنان فما فوق. وكما قال الكاتب هاشم صالح: “الساحة العربية لا تخلو من مفكرين أفذاذ، ولكن حجم المشكلة أكبر منهم”.
ضفة ثالثة