المثقف كاتبا/ هيثم الزبيدي
المثقف كاتب. يعني حرفته الكتابة. والحرفة لا تعد حرفة من دون إتقان. والإتقان يحتاج إلى عدد من الأدوات، بعضها فكري والكثير منها فني مرتبط بالصياغات وطرق تقديمها وبأشياء صغيرة أخرى لكنها لا تقل أهمية عن الأفكار.
القارئ للنص العربي في العموم يقف مرتبكا أمام الكثير من النصوص. ضعف الحرفة يبدد أهمية الأفكار. الكاتب في كثير من الأحيان يصبح ضحية لنفسه حينما يقدم نصا مرتبكا، في تسلسل الأفكار أو في طريقة عرضها أو بحكم قلة إتقانه للأدوات المستخدمة لتوضيح الفكرة.
من الوارد جدا أن تجد أمامك نصا تعبر فيه الفقرة الواحدة أعمدة متجاورة في الصحيفة أو صفحات في كتاب. الكاتب يبدأ بكتابة الفقرة ولا يعرف كيف ينهيها، فيسقط في مأزق الإطالة، فيُضيع الفكرة ويُشوش القارئ.
بعض النصوص تعاني بشكل أسوأ من غيرها من اختلاط منطق الفقرة مع منطق الجملة. لا تستغرب عندما تجد جملة لكاتب تعبر أسطرا وأسطر. بعد عدة أسطر، سيحتاج كاتبنا إلى قارئ من نوع خاص ليتذكر لماذا بدأنا هذه الجملة بالأصل. ثمة كتّاب يكتبون جملا شرطية من دون الرد عليها. هم أنفسهم تاهوا في جملتهم الطويلة.
الجمل الاعتراضية وباء آخر يصيب النص. الجملة الاعتراضية لها مهمة توضيحية محددة، ولا تستخدم لأنها تشير إلى قدرة الكاتب على حشد أكبر عدد من هذه الجمل في فقرة واحدة. لا تستطيع أن تثقل كاهل القارئ بمثل هذه الجمل التي هي أشبه بمن يتقصّد مقاطعة متحدث مسترسل في كلامه، بقصد إثبات الحضور.
الكاتب المحترف كاتب يقدم جملا سلسة غير ملتوية الصياغة، والفن هو في تهيئة القارئ للجملة بتقديم الفكرة مبكرا لكي تستقر في السياق، بدلا من تقصّد فرضها فرضا بصيغة الجملة الاعتراضية.
الكتابة فعل متسلسل، يحتاج إلى هيكل يراعي طرح الفكرة. كم من مرة نتابع كاتبا أورد المقدمة وبدأ في التحليل، ثم بتر المقالة أو النص من دون استنتاج أو مخرج ملائم. البعض الآخر يكتب بشكل مفتوح.
تبدو بعض المقالات أشبه بالحلم الذي لا تستطيع أن تضع إصبعك على زمنيته: لا تستطيع أن تجزم متى بدأ الحلم أو متى سينتهي. نص من هذا النوع يشبه الاستماع إلى حديث في راديو أو تلفزيون من منتصفه، ثم تركه قبل أن يستكمل. هذا النوع من النصوص متاهة لا علاقة لها بالاحتراف.
أحيانا أخرى تقف حائرا في تعريف النص الذي أمامك. هل هو مقالة رأي، أم ريبورتاج صحفي، أم خبر، أم سرد؟ الأمور تتداخل بشكل عشوائي في الكثير من النصوص العربية فلا تعرف أين ينتهي ما يقوله الكاتب وأين يبدأ ما يسعى للاستشهاد به.
هل تفيد الاستشهادات النص مثلا، أم هي عملية تدوين زائدة تفي أغراض الحشو والإطالة؟ بعض الاستشهادات مفيد، ولكن هل يعني هذا استعارة مئات الكلمات في مقالة لا يزيد عدد كلماتها عن الألف؟
تكثيف الفكرة أيضا مشكلة. الإطالة في النصوص اليوم تجري على العكس من الأسس المعترف بها في اللغة العربية: قصر الجملة القرآنية، والتزام الجملة الشعرية بمقطعية ثابتة وقصيرة. ماذا حدث لخير الكلام الذي يقل ويدل؟ نصوص اليوم أشبه بماكنة لتفريخ الصفات الملحقة بكل كلمة. كأن كلمة طويل مثلا لا تكفي ويجب أن تذكر من بعدها فارع القامة وأشبه بالعملاق.
أدوات التنقيط قضية ثانية. تقرأ وتتعثر من الإسراف في استخدامها. بعض الجمل تبدو وكأنها ضربت ببندقية رش (طشاري) من كثرة الفواصل فيها. هل للفاصلة مهمة أم لا، أم هي غرض جمالي وحسب؟ كتّاب كبار يكتبون وينقطون. كل كم كلمة تأتي من بعدها رشقة نقاط متعاقبة… لا نعرف سببها. علامات التنقيط تتداخل مع بعضها.
من الوارد جدا أن تجد جملة تنتهي بعلامتي تعجب!!. هل الكاتب مندهش جدا؟ ماذا يعني أن يضع الكاتب علامة تعجب ثم علامة استفهام؟ إن كلا العلامتين هما نقطتان لنهاية الجملة. العصا الممدودة تفيد التعجب أو النداء والعصا المتلوية تفيد السؤال. هما علامتا تحريك لنقطة نهاية السطر للدلالة على نوعية الجملة. وضعهما معا أشبه بوضع حركتي الفتح والكسر على حرف واحد في الجملة.
نصوصنا، بعمليات التنقيط المفرطة والعشوائية، توحي بأن هناك علبة من هذه الأدوات قد انسكبت محتوياتها على النص، والقارئ وحظه وتفسيره.
الكاتب يغضب أيضا حين يمد المحرر يده على نصه. المحرر مهنة لا تقل أهميتها عن الكتابة. تدخل المحرر لا يعني أبدا الاستهانة بنص الكاتب أو فكرته. التحرير عملية تدقيق ضرورية نكاد لا نراها فيما ينشر من نصوص.
الكتابة صنعة. يجب أن نعاملها ونقبلها كصنعة.
كاتب من العراق مقيم في لندن
العرب