المضافات الممكنة لبشار المتنحي
فؤاد مطر
على وقع المكايدات في كواليس مجلس الأمن وكيف أن «دبلوماسية الاشمئزاز» و«دبلوماسية الذهول» و«دبلوماسية الخذلان» و«دبلوماسية التذبذب» و«دبلوماسية المكر»، أدخلت إلى «موسوعة لغة التعامل في أروقة المنظمة الدولية»، وباتت من حيث التصنيف مثل مفردات ذاع استعمالها خلال خمس عشرة سنة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر «الدولة المارقة».. على وقع هذه المكايدات وإخفاق مجلس الأمن الدولي في جلسته المنعقدة يوم السبت 4 فبراير (شباط) 2012 في التوصل إلى قرار بالإجماع حول الأزمة السورية، يسير الكلام وفي خط مواز حول أي دولة يمكن أن تستضيف الرئيس بشار الأسد وأفراد عائلته الصغرى، ومن دون أن يؤتى على ذكر آخرين من أفراد النظام، ربما لأن الأكثر أهمية بين هؤلاء الآخرين سبق أن أدرجت أسماؤهم كممنوعين من دخول بعض الدول. وهذا الوضع بشقيه، أي المكايدة في كواليس مجلس الأمن والكلام حول «الملاذ الآمن» للرئيس بشار وعائلته الصغرى، يجعلنا نستحضر بعض ملامح حالات تحقق للبعض اللجوء، مثل لجوء زعامات يمنية إلى سوريا ومصر وسلطنة عمان وزعامات جزائرية إلى أبوظبي وزعامات عربية وغير عربية إلى السعودية أحدثها الرئيس زين العابدين بن علي، وأضاع البعض الآخر هذه الفرصة على نحو تضييع الرئيس صدام حسين للاستضافة الإماراتية في حمى الشيخ زايد – رحمة الله على الاثنين. مع ملاحظة أن الحالة السورية هي الأكثر غرابة، ونقول ذلك على أساس أن الملاذ الآمن في حال بات لا بد من إذعان الرئيس بشار الأسد للتنحي وليس للتخلي، لأن تجربة مصر في موضوع التخلي تكاد تورث احترابا أهليا في مصر، هي بريطانيا، لكون الرئيس بشار كما الأكثرية من العرب الذين عرفوا بريطانيا طلابا أو مقيمين وإن بالاضطرار، يفضلون لندن وبقية مدن الريف البريطاني على غيرها من مدن أوروبا وأريافها. لكن بعد قسوة الموقف البريطاني على الرئيس بشار إلى درجة أنه بات صنو الموقف الأميركي والموقف الفرنسي، فإن استضافة الرئيس بشار بكامل العائلة ستكون مستغربة، أو فلنقل مستبعدة.
الملاذ الآمن الآخر هو من باب الافتراض إسبانيا لكون العلاقة بين الرئيس بشار والملك كارلوس قوية. وكان عمل على تقوية الأواصر بين الجانبين الدكتور محسن بلال الذي شغل لبضع سنوات منصب السفير لدى إسبانيا قبل أن يتم تعيينه وزيرا للإعلام. ولقد ساعد عنصر التميز لعلاقة الرئيس بشار بالدكتور محسن أن الأخير كان لفترة أحد أساتذة بشار الذي يدرس الطب. لكن هذه العلاقة بعد الذي جرى في سوريا على مدى سنة والموقف المتشدد للاتحاد الأوروبي من النظام السوري تجعل أهل الحكم الإسباني محرجين في حال أنهم استضافوا صديقهم.
عدا إسبانيا لا يعود هنالك ملاذ آمن أوروبيا سوى روسيا (توأم سوريا من حيث الحروف العربية) التي هي منفى أكثر من أن تكون مضافة حاكم صديق. ثم إن روسيا التي وقفت مع نظام الرئيس بشار وعطلت مرتين قرارا يصدر في مجلس الأمن حول الأزمة السورية المتفاقمة، ستبذل جهودا استثنائية مع أهل الحكم الذين سيأتون بعد الرئيس بشار، وخصوصا إذا كان الآتون هم الذين لم تترفق الدبلوماسية الروسية بهم بل اصطفت إلى جانب الرئيس بشار ضدهم. وفي هذه الحال فإن الحكم الجديد سيتعامل مع روسيا بالكثير من التحفظ، ولا نستبعد أن يحصل مع كرملين بوتين – ميدفيديف، هذا إذا استمر ذلك الثنائي الحاكم لروسيا، ما حصل مع كرملين بريجنيف – كوسيغن من جانب الرئيس (الراحل) السادات الذي أذل الاتحاد السوفياتي أرخص إذلال، حيث إنه اعتمد قاعدة الطرد والإلغاء، طرد الخبراء السوفيات العاملين مع القوات المسلحة وإلغاء معاهدة الصداقة والتعاون الذي سبق أن أبرمها بدافع الاضطرار، بل قد يجوز القول إنه أبرمها لكي يلغيها، وتلك إحدى وسائل الإذلال التي كانت موضع ترحيب الإدارات الأميركية المتعاقبة وإحدى القذائف الفاعلة في تقويض الإمبراطورية السوفياتية لكون القذيفة الساداتية التي صفق وهلل لها المصريون من عسكريين ومدنيين باستثناء بعض المنظرين اليساريين كانت إحدى طلقات الإهانة للدولة العظمى التي تهاوت لاحقا على أيدي غورباتشوف، ثم ما لبث أن تحايل عليه يلتسين سالبا النصر منه، ثم انتهى هذا الأخير غارقا في السكر مورثا المجد بضمان عدم المحاسبة لعهده لأحد ثعالب اـ«كيه جي بي» فلاديمير بوتين الذي وجد في الأزمة السورية أنها لعبة «البوكر» الوحيدة التي قد تعود عليه، كمتطلع إلى العودة رئيسا – قيصرا هذه المرة، ومن خلال «الفيتو» بعوائد مليارية. ومن هنا قد ينتهي أمر الاتكال السوري البشاري على روسيا بأنه كان أسوأ الاتكالات، وأن ارتضاء المبادرة العربية كان هو الأفضل والأكرم.
بطبيعة الحال لا تبدو الصين ملاذا آمنا للرئيس بشار، وهي خيار غير موضوعي بالنسبة إليه، خصوصا أن الصين التي في حال لن تتخلى في التصويت الآتي عن استعمال «الفيتو» ستفقد أسواقا ومشاريع وصفقات مع الدول العربية أكثر مما ستربح جراء ذلك الاستعمال، وكان من شأن الامتناع عن التصويت أن يخفف من مخاطر الفقدان المشار إليها لولا أن عقدة الكرملين دائما تتحكم بها.
بين المضافات الممكنة هنالك فنزويلا شافيز لكن الرجل الذي يصارع مرض السرطان قد لا يعيش طويلا ويأتي بعده من لا تربطه بالرئيس بشار تلك العلاقة التي هي حاليا بين شافيز وبشار. كما أن الحال ينطبق على كوبا الكاستروية التي لا بد ستنقلب على نفسها بعد كاسترو الأول الذي هو في الوضع الصحي الصعب وكاسترو الشقيق الذي يدير لكنه لا يحكم. ثم إن المضافة الأميركية اللاتينية تبعث في النفس السورية شعورا بالخشية وتذكر الضيف بالذي جرى ذات يوم للعقيد أديب الشيشكلي الذي ظن أنه بالابتعاد إلى آخر نقطة في القارة اللاتينية لا يمكن أن يطاله أحد.
استنادا إلى واقع العلاقات الراهنة وتجارب التعامل بين بشار الأسد، الرئيس، ومعظم الدول العربية، فإنه لا مجال للاستضافة في أي من هذه الدول. وحتى الدول التي رحبت باستضافة شخصيات وعائلات من حقبة الحكم الصدامي في العراق، تعيش منذ أن حصل «الربيع العربي – الأطلسي» أوضاعا يصعب على أي منها استضافة من ليس من مناوئي ذلك «الربيع»، وهذا يحدث للمرة الأولى لأن الأبواب العربية دون تحفظ استقبلت العراقيين الصداميين وغير الصداميين وحققت لهم الأمان النفسي والعيش بكرامة أو بالحد المعقول المحسوب منها.
قد يظن البعض أن نوعا من السهو حصل لأننا لم نأت على ذكر إيران ولبنان، وفي هذا الصدد يمكن القول إن ملاذا آمنا في إيران مستبعد، لأن معناه اختيار الرئيس بشار للنظام الذي هو عمليا السبب في الذي جرى له. وأما لبنان فإنه من حيث مقومات الاستضافة مثالي إنما في غير هذه الظروف. وهنا يحتاج الأمر إلى بعض التوضيح.. ففي الزمن الغابر، أي من عام 1975 رجوعا إلى الأربعينات وما تلاها وبالذات في زمن الانقلابات العسكرية في سوريا ثم الوحدة المصرية – السورية، كان لبنان هو الملاذ الآمن لكبار أهل الحكم يلقون فيه الإقامة الهادئة والاهتمام الأخوي عدا حالات من الاغتيال تفرضها مقتضيات الانقلابات والمنقلبين على الشرعيات الدستورية وعلى بعضهم البعض. استضاف لبنان شكري القوتلي وخالد العظم وأكرم الحوراني وصلاح البيطار وميشال عفلق.. والقائمة طويلة. وفي ذلك الزمن لم يكن هنالك «اللوبي الأسدي» الذي بات عليه، متمثلا في حزب الله أقوى قوة عسكرية في لبنان، و«حركة أمل» أقوى قوة سياسية شيعية، و«المردة» القوة المارونية الشمالية التي تتبادل زعامتها المتمثلة في شخص سليمان فرنجية الجد الرئيس ثم بعد ذلك في شخص سليمان فرنجية سليمان الحفيد النائب الوزير، الاحتضان السياسي مع عائلة الأسد، و«حركة الإصلاح والتغيير» التي يتزعمها الجنرال النائب ميشال عون الذي كان عدوا لدودا للأسد الأب فبات صديقا صدوقا للرئيس بشار بموجب تحالفات اضطرارية من أجل تطلعات ترئيسية.
هذا إلى جانب قوى سياسية ومذهبية متناثرة تصطف حول الحكم الذي يقوده الرئيس بشار. وبمقياس النسبية فإن للرئيس بشار في لبنان ما دام ممسكا بزمام الأمور في سوريا ثلثي الأطياف والقوى السياسية الفاعلة في الساحة اللبنانية. لكن مع ذلك لا يمكن الجزم بأن الرئيس بشار يمكن أن يرى الملاذ الآمن في لبنان، لا في بقاعه المحاذي للحدود مع سوريا، ولا في جنوبه في حمى حزب الله، ولا في شماله في حمى الحليف سليمان فرنجية تفاديا لمفاعيل الغضب العكاري والطرابلسي السني الذي يشكل ما يشبه الخط المكهرب الذي يفصله عن الجمع العلوي اللبناني، وبالتالي عن الشاطئ السوري العلوي ومعه الجبل العلوي. أما لماذا ليس لبنان مع أن ثلثيه معه كرئيس، فلأن تعديل المواقف يستتبع التغيير الاضطراري الذي سيحصل في حال أقنعت الدبلوماسية الروسية في شخص رئيسها سيرغي لافروف ورئيس مخابراتها ميخائيل فرادخوف، الرئيس بشار بأن جزءا مما فعله الرئيس علي عبد الله صالح قد يكون الحل الذي لا حل غيره ولا مجال أمام روسيا بوتين أن تفعل أكثر مما فعلته. وفي هذه الحال فإن اللجوء إلى الطائفة وإعلان دولة منها ليس حلا لأنها في هذه الحال دولة لا تحظى باعتراف أحد، وأن الإصرار على الحل الأمني لن يؤدي إلا إلى النهاية الليبية، وأن المراهنة على فوضى في لبنان من شأنها أن تؤذي، لكنها مرفوضة حتى من روسيا التي تفضل أن يتم التخلي عن السلطة إلى مجلس عسكري لا يشمل قادة ممنوعين دوليا. وفي هذه الحال لا يسود الانطباع بأن صفحة الطائفة العلوية طويت وحلت محلها صفحة الطائفة السنية.. فالمجلس العسكري يضم جنرالات من كل الطوائف، كما أن هذا المجلس كفيل بحفظ العلاقات التاريخية لجهة التعاون العسكري مع روسيا، وهي علاقات أقوى بكثير من العلاقات السياسية والحزبية. وهكذا نخرج جميعا من المأزق وكفى المعاندين عواقب العناد
الشرق الأوسط