المواطنة والخارج في الإعلام الرسمي: حوار سميرة مسالمة ودروس حنا مينة
أنور بدر
كتبت السيدة سميرة مسالمة التي كانت ليومين رئيسة تحرير صحيفة ‘تشرين’ السورية داعية إلى حوار وطني تقول في نهايته: ‘إن المسؤولية هنا اليوم موزعة على اجتماع ومجتمعة على عموم الناس في حماية الاستقرار والأمن الوطني والسيادة الوطنية.
وإجراء مراجعة نقدية كلية قادرة على تشخيص العلل والمشكلات في روح من الألفة والمحبة وتقدير الآخر واحترام وطنيته وحرصه، والالتزام بلغة سياسية تجمع ولا تفرّق، توحّد ولا تبدد، سقفها الوطن وأرضها الوطن وخيارها الوطن وأهدافها بناء سورية المعاصرة القوية والقادرة والتي يكون فيها الإنسان هو الأسمى والأعلى في حريته ومستقبله وإرادته وكرامته، لهذا كلّه فأنا أدعو كلّ الأطياف السياسية والثقافية والمجتمعية لحوار يجمعنا تحت سقف الوطن، حدوده أمان وأمن سورية، وأهدافه دائماً حماية سورية..’.
ولا بد أن يلفت انتباهنا في هذا المقتبس الذي وددت أن يكون كاملا، استخدام السيدة المسالمة للفظة الوطن، فالمسؤولية الموزعة على اجتماع ومجتمعة على عموم الناس تتأطر ‘في حماية الاستقرار والأمن الوطني والسيادة الوطنية’ مما يُضمر التباساً بين مفهوم الوطن ومفهومي الدولة والحكومة معا، هذا الالتباس الذي يفرز اتهاما مسبقا للآخر بعدم الوطنية أو تهديد اللحمة الوطنية، كما جرت العادة في صياغة الإدعاء ضد المعارضين المحالين إلى القضاء في سورية، بحيث تصبح أي معارضة سياسية أو مجرد إعلان رأي معادلاً للخيانة الوطنية، وهذا يشكل في أبسط الحالات إجحافاً بحق الناس، سواء من عارض منهم، أو حتى من اكتفى بالنظر في الشأن العام أو اهتم بقضايا الوطن، لأن هذه المسائل حكما هي من اختصاص القيادة السياسية في بلد يقودها حزب البعث وفق الدستور السوري، وهو الحزب الذي يرشح كل الأطر القيادية في الدولة والمجتمع، وهي كفيلة بسياسة شؤون الرعية ‘في حماية الاستقرار والأمن الوطني والسيادة الوطنية’. رغم كل اللواحق التي جاءت في افتتاحية رئيسة التحرير السابقة عن ‘المراجعة النقدية … وتقدير الآخر واحترام وطنيته وحرصه’ لأن هذه الوطنية وذلك الحرص تكمن مرجعيتهما في ‘الالتزام بلغة سياسية تجمع ولا تفرق ….’. وعلى هذا الأساس تقدم السيدة مسالمة دعوتها لكل ‘الأطياف السياسية والثقافية والمجتمعية لحوار يجمعنا تحت سقف الوطن، حدوده أمان وأمن سورية، وأهدافه دائماً حماية سورية..’.
حقا إن الشيطان يكمن في التفاصيل، فالحديث في هذه المرحلة عن حدود أمان وأمن سورية وعن حماية سورية كهدف للحوار، يبطن الخشية، بأقل تعديل، من كون الأحداث الأخيرة تزعزع أمان وأمن سورية وتفرط باللُحمة الوطنية، وهذه الرؤية تنسجم مع التصور الرسمي المسبق لكل ما جرى ويمكن أن يجري أيضا، بإحالته إلى مسبب خارجي أطلق عليه اسم ‘عصابة’ بصيغتها المبهمة، عصابة تطلق النار على المتظاهرين ورجال الأمن معا، عصابة تستهدف أمن البلاد والعباد معا، لنكتشف فجأة كم كنا مقصرين في دعم أجهزة الأمن لتقوم الآن بالقضاء على هذه العصابة، وحماية الوطن والمواطنين من شرورها.
إحالة الأحداث إلى مفهوم العصابة يلغي مبررات الحديث عن الفساد والقمع وغياب الحريات، وبالتالي إذا كان من هدف للحوار فهو من أجل الكشف عن ملامح هذه العصابة، وليس عن وضع آليات للخروج من الأزمة، ليس لبحث سبل القضاء على آليات الفساد الحاكمة، ولا عن الحريات المغيبة، ولا إصلاح ممكن قبل الانتهاء من ذلك الخطر الخارجي، مما يعني إعادتنا إلى المربع الأول الذي يطالب بتأسين كل شيء في الداخل ريثما ننتهي من الخطر الخارجي، أو من خطر العصابة.
لن نماحك هنا بوجود عصابة من عدمه، ولا بعديدها وعدتها، لأن هذا إن وجد، يبقى شأنا أمنيا صرفا، على الدولة وأجهزتها الأمنية أن تهتم به، دون أن تعمينا عن رؤية أوضاع الداخل، لأن النظام الذي يستشعر خطرا خارجيا لن يقوى على محاربته من دون جبهة داخلية متماسكة بحريتها وإحساسها بالكرامة، فالمواطن المقموع والمهان لن يكون قادرا على حماية الوطن من أخطار الخارج، كما أنه لن يكون جديرا في أي حوار بهذا الصدد، ومن هنا يأتي إحساسنا بعبثية الحوار الذي ينطلق مسبقا من اختزال المعادلة إلى نظام مقابل عصابة، لأننا بذلك نغيب المواطن ونغيب بالتالي الوطن.
فالدعوة إلى الحوار يجب أن تقوم على أرضية مغايرة تعترف سلفا بمعادلة أخرى تقوم على العقد الاجتماعي بين النظام والمواطن، وتعترف بكامل حقوق هذا المواطن بما فيها حقه في التظاهر والتعبير عن رأيه دون خوف أو قمع، ودون تنسيبه إلى مفاهيم العصابة، أو تأطيره خارج حدود الوطنية.
وها هي المسالمة داعية الحوار بين المعارضة وأطياف المجتمع المدني مع النظام تدفع ثمن لحظة حقيقة عاشتها على شاشة الجزيرة، فبعدما أتخمتنا حديثا عن وجود جماعات ثالثة ‘العصابة’ هي التي تطلق النار على الناس، مقابل إصرار المذيع على أن شهود العيان يؤكدون بأن قوات الأمن هي من تطلق النار، وفجأة ظهر ابن عم لها هو السيد محمد المسالمة الذي تحدث من درعا على الهواء مباشرة في قناة البي بي سي بعد ظهر اليوم الجمعة الذي ذهب ضحيته ثلاثون شهيدا حسب بعض المواقع الحقوقية التي أوردت أسماءهم، ليقول: إنها تكذب، وان عناصر الأمن هم من يطلقون النار، وأنهم يستخدمون غازات تجعل المتظاهرين يفقدون وعيهم فورا.
المسالمة عادت ليل الجمعة ذاتها للحديث مع قناة الجزيرة، مطالبة لأول مرة بتحميل الأمن مسؤولية ما حصل من قتل في مدينة درعا، وكانت عيناها قد اغرورقتا بالدمع، خاصة وأن بين شهداء المدينة من ينتسبون لعائلة المسالمة . مما دفع بمكتب الأمن القومي لاتخاذ قرار سريع بفصلها من العمل، كي لا تتكرر هذه الظاهرة بين المسؤولين من درعا، وهم كثر جدا في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية والجيش والأمن، كما جاء في أحد المواقع السورية. وكان موقع ‘سريا نيوز’ الإلكتروني قد نقل عن المسالمة تصريحها بأن حديثها يوم الجمعة لقناة الجزيرة الفضائية هو السبب وراء قرار إعفائها من مهامها، مضيفة أن: ‘القرار تم تنفيذه مباشرة حيث جمعت كافة أغراضي وأخليت المكتب’.
فهل ضاعت فرصة الحوار التي اشتغلت عليها المسالمة؟ أم أن بيان وزارة الداخلية في الحكومة المستقيلة يبشر بسقف جديد لهوامش التعاطي الإعلامي مع الأحداث؟ وأن ما جرى وما يمكن أن يجري لن يسمح بتفسيره خارج ظاهرة المؤامرة ومفهوم العصابة، حتى لو لم يكن أيٌّ منهما مفهوما للمواطن؟
الإشكالية أن معادلة الداخل والخارج التي تعبر عن الخطاب الرسمي، ما زالت تجد أصداء لها بين بعض المثقفين، ومن أبرز الشواهد ما كتبه الروائي الكبير حنا مينة بتاريخ 2/ 4/ 2011 في جريدة ‘تشرين’ التي كانت تترأس تحريرها السيدة مسالمة، تحت عنوان ‘ترتيب البيت أولا وراهنا’ وأنا لن أجادله في استخلاصاته حول المادية التاريخية ونفي النفي، وعودة النظام الإشتراكي، بل سأسوق نصائحه الثمينة في دروس الكتابة ربطا بالحدث السياسي، فهو يقول بالحرف الواحد:
‘ما أريد قوله إن تأليف الوزارة الجديدة، خطوة إلى الأمام، في اتجاه ترتيب البيت الداخلي، وان الكتابة عن الشؤون الداخلية لا تحرق أحداً، كما يتوهم البعض، لان أفق الكتابة إلى اندياح، وما تبقى هو طريقة هذه الكتابة، واجتناب كل استفزاز فيها، واعتماد النقد البناء، دون خوف أو وجل، مع مراعاة الآية الكريمة: ‘إن الله لا يغفر لمن أشرك به، ويغفر ما دون سواه’ أي أن ثمة غفراناً سابغاً، لانتقاد عمل هذا الوزير أو ذاك، من غير تطاول لا فائدة منه على الرئاسات بالنسبة للناقد والمنقود معاً، ولنتذكر، أخيرا، هذه المقولة الرائعة لمايا كوفسكي، الشاعر الكبير، ‘إنني أمجد الوطن الموجود، ولكنني أمجد ثلاثاً الوطن الذي سيكون’ والوطن الذي سيكون، حسب مايا كوفسكي، هو الوطن الذي فيه ‘الكلمة الحرة قائدة للقوى البشرية’ ولا مندوحة عن الكلمة الحرة، أو حرية الكلمة، ودون هذه الحرية نفقد كل مقومات الديمقراطية المنشودة بإلحاح’.
وأعلم أن بعضهم سيفيد من نصائح الشيخ الكبير في فن الكتابة، وربما يذهب البعض إلى حدود الإفادة من تفسيره الآيات القرآنية، مع أن ذلك كله يتناقض وخلطته الوطنية المستقاة من الشاعر الروسي مايا كوفسكي الذي انتحر بعيد انتصار الثورة البلشفية، وعلاقة الوطن بالحرية.
القدس العربي