صفحات سوريةوائل السواح

النقد الذاتي بعد الهزيمة/ وائل السوّاح

 

 

ستنتهي معركة حلب بعد حين. لا أحد يعرف متى، ولا أحد يستطيع أن يكون متأكداً لمصلحة من؟ معظم الدلائل يشير إلى تقدّم نظام الأسد وحليفيه الروسي جواً والإيراني أرضاً. في الداخل المحاصر، ثمة بضع مئات من المقاتلين يقاتلون، بعضهم لأسباب وطنية وآخرون لأسباب دينية وطائفية بغيضة. بيد أن ذلك لا ينفي إمكان حدوث تطوّر دولي أو إقليمي يغير في المعادلة الراهنة وسيمنع سقوط المدينة بيد النظام.

لكن جوهر القضية ليس هنا. جوهر القضية أنه، بغض الطرف عمن يمكن أن ينتصر، ستؤسس معركة حلب لحقبة جديدة. فإذا انتصر النظام، سيكون قد نجح في تحقيق هدفه بحشر كل خصومه من معارضين وطنيين ومن متطرفين وإسلاميين وإرهابيين في بقعة صغيرة هي إدلب. وكان قد نجح للتو في إلحاق مقاتلي مدينة التل بسابقيهم من مدينتي داريا والمعضمية، الذين تمّ ترحيلهم جميعاً إلى إدلب.

وفي حال سقوط حلب، تكون اللعبة قد انتهت، فلا جيش الإسلام وفيلق الرحمن في الغوطة سيشكلان تحدياً حقيقياً للنظام. ولا ما تبقى من جبهة جنوبية تخلّى عنها الأميركيون سيقف عائقاً في وجه هيمنة الأسد على كامل ما يسميه البعض «سورية المفيدة». ولن يكون لدى النظام أي مانع من أخلاق أو دعم سياسي في أن يوجه ضربة ماحقة لإدلب أو أن يتركها هدية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما فعل في الرقة.

أما إذا خسر النظام رهانه، فإن الرابح في هذه الحالة لن يكون المعارضة السياسية ولا الهيئة العليا للمفاوضات، بل ستكون التنظيمات المتطرفة التي ستحكم قبضتها على المدينة، وتلهم القوى الشبيهة له بإحكام قبضتها على مناطق نفوذها.

هما خياران، أحلاهما مرّ. فخسارة المدينة ستعني سيطرة شبه مطلقة للنظام، وخسارة كبيرة للمعارضة. ولن يُعتَدّ عندها برأي السيد جورج صبرا، كبير مفاوضي المعارضة السورية، في مقابلة مع بي بي سي الشهر الفائت، من أن خسارة حلب «لن تكون نهاية للثورة». فللرجل أن يقول ذلك. وله أن يضيف أن حلب «ليست آخر مكان (…) لدينا الآن العديد من المناطق تحت سيطرة الجيش السوري الحر».

الجيش الحر! قبل أيام، تحدث العقيد عبدالجبار العكيدي، القائد في الجيش السوري الحر، في ندوة افتراضية مغلقة مع مجموعة من المهتمين، فحكى هموماً تمسّ شغاف الحق والحقيقة. ومما قاله، أن إجرام النظام السوري وأسلمة الثورة لعبا دوراً كبيراً في تشويه صورتها، وأن الجيش السوري الحر ليس جيشاً وإنما مجموعة من الفصائل لا يجمع بينها جامع. وأضاف أن هيئة الأركان الخاصة بهذا الجيش لم تكن لها يوماً الكلمة الفصل في قيادته، لأن أحداً من الداعمين لم يتعامل معها على أساس أنها هيئة أركان وإنما ساعي بريد لإيصال المساعدات العسكرية للفرق المحسوبة على هذا الطرف أو ذاك. قد لا يعجب هذا الكلام كثراً من السوريين، لكنه أمر واقع لا بد من أن نواجهه، ربما اليوم أفضل من بعد زمن.

استعرت عنوان هذا المقال، كما لن يخفى على أحد، من عنوان الكتاب الأشهر للفيلسوف السوري صادق جلال العظم. ما ميّز كتاب العظم عن النقد الذاتي أنه كان خطاباً نقدياً وذاتياً، بمعنى أنه لم يجامل في النقد ولم ينقد الآخرين ويستثني نفسه وجيله. الشيء نفسه فعله المسرحي الراحل سعدالله ونوس في «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، عندما قدّم شكلاً فنياً جدياً كلياً بمضمون نقدي جديد، كان نقداً ذاتياً جذرياً للأمة ولجيل بأكمله وللكاتب نفسه.

اليوم، بدأ بعض المثقفين السوريين يتحدث عن الهزيمة وضرورة الاعتراف بها. وراحوا ينادون بعملية نقد ذاتي للثورة. النقد الذاتي أمر جيد وضروري. السؤال، كيف يكون نقداً وكيف يكون ذاتياً. فالنقد ليس حطّاً من قيمة كل ما فعلته الانتفاضة السورية وليس سخرية من الذين قدّموا للثورة وقتهم وجهدهم وحريتهم وحياتهم. لا يمكن القول: «أخطأت الثورة هنا وهناك»، الثورة ليست شخصية اعتبارية لتخطئ أو تصيب. وسيتعين على النقد الذاتي للثورة أن يشير إلى المخطئين ويحملهم المسؤولية. كما يتعين على النقد الذاتي أن يشير إلى الذات – الأنا – فيشمل بذلك القادة والمفكرين والسياسيين وكتاب الرأي في العملية النقدية، ويشمل كل «أنا» سواء كانت فرداً أو جماعة.

بيد أن أهم من ذلك، أن النقد الذاتي لا يجب أن يستحيل وسيلة للقفز من المركب الغارق. يجب أن نتذكر أننا جميعاً على سطح مركب واحد متداع ومتهالك. سبب تهالكه هو عنف النظام وفجوره أولاً، ثم الطريقة التي قاربنا فيها المسألة باستسهال واستهتار أحياناً.

وباختصار، ما بين السيد صبرا وإعلانه أن «ما من أحد يفكر في الحلول السلمية في ظل هذه الظروف الحالية»، وبين من يسعى الى القفز من المركب المتهالك، لا بدّ أن يكون ثمة مكان لقادة حقيقيين يقومون بعملية نقد ذاتية حقيقية وعميقة، يشملون فيها أنفسهم ويبحثون عن حل عملي وأخلاقي ومبدئي للمأساة السورية.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى