انتحال صفة “المنظِّر”/ دلال البزري
أكاديميون، باحثون، جامعيون، بل حتى بعض من يطلقون على أنفسهم صفة «المفكرين»: غالبية إنتاج هؤلاء من مؤلفات أو أوراق مؤتمرات أو ندوات تريد لنفسها، قبل الولوج الى موضوعها، أن يكون لها «قسماً نظرياً»، بدايةً وقبل كل شيء. هو القسم الأوفر من البحث أو الكتاب؛ هو القسم المفترض انه الأدسم، الأقوى، من ذاك النوع الذي لا يمكن ردّه.
مما يتكوّن هذا القسم في الواقع؟
عرضٌ لنظريات أو مفاهيم أو تصورات أو أفكار أو عبارات. كلها من منبع غربي، غالبا فرنسي أو انكليزي، وفي الحالات النادرة ألماني. عرضٌ مقتبس، متجهم، جدي. لا يترك مكاناً للإعتراض أو الإستفسار… أو الفهم. مع أسماء لامعة قديمة حيناً، جديدة أحياناً، بحسب اللغة الأجنبية المعتمدة. مع الملاحظة أن الجديد منها يأتي غالبه من الغرب الأنكلو-ساكسوني أكثر من الفرنسي. الميل العام لدى واضع هذا القسم من مؤلفه، هو عدم المسّ بالأسس التي بنت تلك النظرية أو رسمت خطوط تلك المنهجية أو صاغت معنى ذاك المفهوم. نوع من التقديس والإحترام لهذا القسم يمر تقريباً من دون جدل؛ إلا من أصحاب مقتبسي نظريات أو مفاهيم معاكسة أو مختلفة في جوانب منها، أو… غير أصيلة، كما يصف أكاديميون جُدد، غرفوا النظريات من التراث الإسلامي دون غيره. المهم ان القسم النظري يمر ثقيلاً ضرورياً، مضجراً في غالبية الأحيان، غير مفهوم تماماً، لا بفحواه العام، غير السلس، ولا بألفاظه عسيرة اللفظ.
بعد هذا الحمام البارد «النظري»، أو «المنهجي»، أو «المفهومي»… يأتيك في النهاية «الموضوع»، الذي يفترض أنه الأساس، «الميداني»: أي أن له علاقة بواحدة من المسائل التي تهم حياتنا اليومية أو لحظاتنا الإستثنائية أو التاريخية. فتكون المفاجأة غير المفاجئة دوماً: من أن القسم «الميداني» هذا، لا يحتل سوى مساحة هزيلة من البحث، لا تقاس عادة بحجم، ولا بهيبة القسم «النظري» الذي سبقه. سبقه ولكنه لم يمهّد له. إذ انك لو أعدت استذكار ما قرأته في القسم النظري، ورأيت «النتائج» التي تمخض عنها، فسوف تجد ان لا علاقة تقريباً للقسم السابق باللاحق. لا أمدَّه بالمعاني الإضافية، ولا أعانه على فهم جديد الظاهرة أو الحالة الخ. تأخذك الدهشة كثيرا إذ ترى النتائج يمكن أن يلحظها صحافي مبتدىء، يقوم بتحقيق في أحد أحياء العاصمة، حول تناول المخدرات، مثلاً، بين الشباب العاطل الواقف على أرصفة الأزقة والزواريب. ذاك الصحافي، مثلاً، أو تلك الصحافة التي ينظر إليها الأكاديميون الأشداء بشيء من الإزدراء والدونية…. بصفتها تنشر كتابات «سطحية وسريعة»…
ولكن شيئاً من الرحمة؛ هؤلاء الأكاديميين الكبار والصغار، منتحلي صفة التنظير هم أبناء جامعات أنشأتهم على تقديس المناهج والنظريات والمفاهيم. في رسائلهم دائما وبموجب عرف أقوى من القانون، يجب أن يكون هناك «قسم نظري». عليهم أن يمتثلوا لهذه السخرة، وإن لم يفهموا تماماً محتوياتها، ولا يستوعبوها، ولا يستخدموها في بحثهم الميداني، الأساسي. الطالب في الرسالة الجامعية، غالباً ما يكون خاضعاً من دون قصد لجنحة انتحال صفة المنظر؛ هو بمثابة تمرين على ما ينتظره في مستقبل زاهر… إذ ان النتائج الميدانية لبحثه هي غالبا أقصر القسمين، أبعدهم عن القسم الأول، «النظري». بحيث تدرك بسهولة ذاك التناقض القائم بين هيبة القسم الأول بأسمائه الأجنبية اللامعة وعباراته المفخمة، والقسم الثاني المتلاشي، البلدي، العادي، المتواضع. بين الإثنين سنوات ضوئية من المسافة. الطلاب هنا، مثلهم مثل معظم أساتذتهم، أو ما سوف يصبحون عليه بعد دهر.
ولكن الشطّار من بين الأساتذة يأخذون المادة الميدانية ويؤلفون منها أبحاثا بإسمهم… وإذا كانوا يتمتعون، فوق الشطارة، بالنباهة، فهم يؤلفون على أساسها أبحاثا وكتباً وأوراق مؤتمرات تستند إلى الكثير المعطيات مما أمكنهم دفع طلابهم إلى جمعه. فيما الأقل شطارة يكتفون بهزال ما توصل إليه طلابه، فيعيد سبكْ النتائج، ويزرْكشها بالنظريات والمفاهيم الأجنبية، ويجهزها مع قسمه النظري، فيكون مؤلفاً دائماً فذاً في عالم الأكاديميا الرفيع.
ماذا وراء إنتحال التنظير؟
أشياء غامضة وأخرى أكثر وضوحاً. في الواضح من هذه الأسباب، خليط من النفسي والحضاري وربما التربوي: منتحلو الصفة مبهورون أولاً بالإنتاج الأكاديمي الغربي. يحسبونه ناجزاً، وإذا نقدوه، فاقتباساً أيضاً. وحاجتهم إلى نسخ ولصق موادهم التنظيرية هذه تنمّ عن عدم استيعابهم لهذا الإنتاج الغربي. لو هضموا كل هذا، لما احتاجوا إلى صرف المزيد من الورق لأجله. كانوا استخدموا كل هذا التنظير في بحثهم الميداني، كانوا دوّروه، أو شذّبوه، أو اخترعوا نقيضه، أو قلبوه رأسا على عقب. ولكن لا شيء من كل ذلك. هذا القصور بالذات هو الذي يجعلهم يعتقدون بأن انتحال التنظير هذا إنما يجلب لهم الإحترامية والصدقية والسلطة؛ خصوصا السلطة، التي يستعجلون قطاف ثمارها عن طريق تلبية حاجتهم النفسية الملحة والدائمة إلى الإعتراف، إلى الترويج، إلى مزيد من الدعوات الى المؤتمرات والملفات… وفي سعيهم الحثيث للتمايز عن بقية من يكتبون، خصوصاً الصحافيين، يفضلون الإعتماد على الإبهار النظري عن طريق عرض أشياء يصعب فهمها، وبالتالي يصعب مناقشتها. إذ يعيبون على الذي لم يفهمهم: «لم تفهم؟ إذاً أنت غبي أو جاهل». لا يقولون مثلا «لم تفهم؟ إذاً أنا أسأتُ التعبير». لا إساءة تعبير في معبد التنظير. من لم يفهم فهو من خارج الحلقة الضيقة من رواد المؤمنين. لذلك يسكت الجميع أمام هيبة القسم النظري. يسكتون كي لا يقولوا بأنهم لم يفهموا. فيكرَّس صاحب الإقتباس كمنظر يستحق رتبة الأكاديمية الصعبة .
أصل آخر من أصول هذا الإنتحال، هو انتحال صفة المثقف الثوري، التي ما زالت آثار نموذجه مهيمنة حتى الآن، والذي يستمد ديمومته من ثقافة أعمّ، تفصل من دون هوادة بين ما يقال وبين ما يفعل حول ما يقال: إنفصام تام، درج على تسميته بشيزوفرينيا العرب. المثقف العربي الثوري متفوه بكل النظريات والمفاهيم، اليسارية خصوصاً، قارىء نهم لأدبيات التحرر على أشكالها. وعندما «تحزّ المحزوزية»، يتصرف مثل آخر رجعي في دياره. فيما الإسلامي اليوم سائر على الدرب نفسه؛ يشهر إسلامه بوجه أمثاله والمختلفين عنه، ويتاجر بالمخدرات والتهريب ويمارس القتل والسطو والخطف والرجم والاغتصاب وتقطيع الرؤوس والأطراف. لديه «قسمه النظري»، الذي يقول بأن الإسلام دين محبة وعدل، و»قسمه العملي» الذي يعني العكس تماماً…
كل هذا الوصف لمنتحلي الصفة له طابع كاريكاتوري مقصود. بالطبع، ليس كل الأكاديميين منتحلي صفة، ولا كل الأقسام النظرية التي يولجون بها إلى متن موضوعهم مجرد تكرار أو قص ولصق لما أنتجه كبار منظري الغرب. إنما، هذا الوصف لميل جارف لدى معظم الأكاديميين. سيما وان الضحالة من سمات أعمالهم. إن لم يكن الغموض والإلتباس والتشوّش، غير مفيد بأي وجه من أوجه المعرفة. إذ يكون مقتطفاً، مجزءاً، مبعثراً بين الأسطر والكلمات. يعجز صاحبه عن نقل هذا شفاهة. لا يستطيع عرضه، لو أراد، إلا قراءة، لشدّة ما هو صعب وغير مفهوم عنده…
إنتحال صفة المنظّر هي واحدة من مفاسد الإنتاج المعرفي عندنا، وربما عند غيرنا من الشعوب ضعيفة الثقافة. إنه نصف أو ربع معرفة. لا يضيف إلا جاهاً وسلطة على صاحبها. ناهيك عن ضجر مقيم، الذي يفضي أحيانا الى نوع من الكدر والإحباط والنفور. فلا فرح في إنتاج منتحل الصفة، لا عنده، ولا عند الذين يستهلكون إنتاجه؛ وكأنه من تكاليف إنتاج، وليس طريقة إنتاج…
المستقبل