انفجار قوميات ما تحت الدولة تشكك في النموذج السائد/ د. بشير موسى نافع
تواجه بريطانيا، أكثر دول أوروبا الغربية استقراراً وأعمقها جذوراً، مشكلة قومية اسكتلندية. وربما باستثناء ألمانيا، تعاني أغلب دول القارة الأوروبية من تحركات قومية تحت مستوى الدولة، يدعو بعضها إلى الانشقاق، ويطالب بعضها الآخر بمزيد من الحقوق الثقافية والسياسية. خلال الأسابيع القليلة الماضية، وجدت أسبانيا نفسها في مواجهة واحد من أكثر التحديات القومية حدة، عندما صممت مقاطعة كتالونيا، التي تتمتع بحكم ذاتي محدود، على عقد استفتاء حول الاستقلال عن الدولة المركزية في مدريد. والواضح، بغض النظر عن التعاطف مع برشلونة أو مدريد، أن الدولة الأسبانية لم تعالج المسألة الكتالونية بأي قدر من الحكمة. جاء انفجار الأزمة الكتالونية، بالطبع، في ذات الوقت الذي شهد عقد استفتاء مماثل في كردستان العراق، كاد أن يدفع العراق والإقليم المشرقي برمته إلى حافة حرب أخرى. وبالرغم من أن بؤر الحراك القومي تنتشر عبر خارطة العالم المعاصر، أعاد تزامن المسألتين القوميتين في كتالونيا وكردستان العراق، والتشابه المثير بينهما، التذكير بقوة الفكرة القومية وقدرتها الهائلة على صناعة التأزم والحروب. مقارنة بما أسماه كوينتين سكنر بالايديولوجيات الكبرى، مثل الليبرالية والاشتراكية، تبدو الفكرة القومية اليوم، وبعد مرور قرنين على ولادتها، أكثر مضاء وقدرة على البقاء.
بيد أن هناك ما يثير الحيرة والتساؤل في الحركة القومية الكتالونية، كما في أغلب قوميات ما تحت الدولة الأوروبية. أن يشهد العراق تأزماً للمسألة الكردية، فليس في ذلك من غريب؛ فقد مر العراق بحلقات مستمرة من عدم الاستقرار طوال القرن الذي مضى على تأسيس دولته القومية، وكانت المسألة الكردية إحدى أبرز عوامل هذه الحالة المزمنة من عدم الاستقرار. ولكن دولاً مثل أسبانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وروسيا، التي تضم جميعها حركات قومية ذات طابع استقلالي، بهذه الدرجة أو تلك، ودولاً مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، التي تعرضت للانقسام بالفعل على أسس قومية، يفترض أن تكون شيئاً مختلفاً. هذه دول وجدت بعد حروب وصراعات أوروبية هائلة، ووجدت على أساس النموذج الأوروبي المتصور للدولة القومية (nation-states)، وبضمانات جمعية، من وستفاليا إلى فرساي، ومن الهزيمة المدوية للمشروع النازي في الحرب الثانية إلى الأمم المتحدة.
أسبانيا، مثلاً، هي وريثة نظام إمبراطوري، ولد مما يعرف بحروب الاستعادة، التي خاضتها الممالك المسيحية ضد الوجود الإسلامي في شبه القارة الأيبيرية، ومن التوسع الأسباني ما وراء البحار في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين. صحيح أن الإمبراطورية الأسبانية لم تعش طويلاً، وأن أسبانيا مرت بحقبة قلق وعدم استقرار طوال القرن التاسع عشر وحتى الحرب الأهلية الأسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن هناك هوية أسبانية حديثة، بالمعنى القومي للهوية، تطورت بالفعل من حروب المقاومة للسيطرة النابليونية، ومن التناقض الفادح لسنوات الاستقرار التي وفرها الحكم الفاشي والمقاومة الجمعية لهذا الحكم. وقد ساعد ازدهار الديمقراطية الأسبانية بعد وفاة فرانكو، والتنمية السريعة التي تحققت بفعل الاحتضان الأوروبي، على تعزيز الثقة بالذات لدى كل من الدولة والهوية الأسبانيتين، على السواء. فكيف وجدت أسبانيا نفسها على قدم المساواة مع العراق، وفي مواجهة هذه الأزمة القومية الانفصالية المستحكمة، التي لا يبدو أن طرفاً سيخرج منها بلا خسائر؟
ثمة مشكلة مزدوجة في الإطار المفهومي الذي تستند إليه الدولة القومية، سواء على المستوى النظري، أو على مستوى الإيحاءات التي تطرحها لدارسي الدولة وعموم الناس؛ وفي الآمال التي تولدها طموحات الحركات القومية في إقامة دولتها الخاصة.
أغلب الدول القومية هي في الحقيقة ليست أحادية القومية، بل وبعضها لا يضم أغلبية قومية أصلاً. يوغسلافيا، كما كشفت حروب التسعينيات، كانت دولة لمجموعة إثنيات وثقافات متباينة، لم يكن ممكناً للمجموعة القومية الصربية أن تبقيها معاً. وسويسرا وبلجيكا، كما كانت تشيكوسلوفاكيا من قبل، صنعت من تفاهمات اثنتين أو أكثر من الجماعات الإثنية، فرضتها التوازنات وحروب القارة. أسبانيا نفسها، تضم سبع مقاطعات، يتمتع كل منها بموروث ثقافي خاص، كبحت طموحاتها القومية بقوة المركز الأسباني. ثمة أغلبية إثنية عربية واضحة في دول العالم العربي، كما تتمتع اللغة العربية، من علاقتها بالغة الخصوصية بالإسلام، والثقافة التي ولدتها عبر العصور، بوضع فريد في هذه الدول. ولكن عدداً من الدول العربية، بما في ذلك مصر، الدولة العربية الأكبر، يضم جماعات إثنية وثقافية مختلفة، بهذا الحجم أو ذاك. هذه دول حديثة، بالتأكيد، بمعنى أنها دول مركزية، تتمتع بالشرعية الدولية، تملك حق التشريع، ويمكنها، في أغلب الحالات، فرض السيطرة على شعبها وأرضها وحدودها. ولكن وصفها بالدول القومية لابد أن لا يؤخذ بالمعنى الحرفي للدولة القومية. ومهما كان عمق جذور مؤسسة الدولة واستقرارها في هذه البلدان، فما إن تتوفر ظروف مواتية (مثل الحرب، التدخل الخارجي، الأزمة الاقتصادية، إلخ)، حتى تجد الدولة نفسها في مواجهة حركة قومية انفصالية.
بيد أن المشكلة لا تتعلق بالإطار المفهومي للدولة القومية، وحسب، بل والمبالغات، المجانية في أغلب الأحوال، للطموحات التي تروج لها الحركات القومية. ولدت الفكرة القومية وانتشرت في عصر هيمنة مناخ رومانتيكي اللغة والآداب والفنون، ولم يكن غريباً أن تتكئ الطلائع القومية على الاستدعاء الأسطوري لصناعة الأمة القومية والتوكيد على فرادتها، عبقريتها، جذورها السحيقة، وعلى تقديم دولتها باعتبارها التجلي المثالي لابداع الأمة وضمان عودتها إلى مسرح التاريخ. لم يكن هناك الكثير من الحديث عن التكلفة الباهظة للانقسام القومي، الآلام الاقتصادية، احتمالات الحرب وإهدار الحياة، ولا عن الشكوك المحيطة بإمكانية الوجود المستقل. وعندما وجد مثل هذا الجدل، اعتبرت التضحيات المتوقعة ثمناً رخيصاً لولادة دولة – الأمة وتحقيق استقلالها. وبالرغم من أن رومانتيكية القرن التاسع عشر لم تعد فعالة، وأن التقدم في وسائل الاتصال والعلوم وإتاحة المعلومات يجعل تصورات المستقبل أكثر واقعية، لم يزل شيء من الموروث الرومانتيكي والأسطوري عالقاً بخطاب الحركات القومية.
ليس ثمة من يطرح الكثير من الأسئلة حول حقيقة وجود أمة كردية، إمكانية تحقيق وحدة سياسية كردية حول هدف الدولة، حدود هذه الدولة، ردود فعل الدول التي يتواجد فيها الاكراد والقوى الإقليمية والدولية، أو إمكانية توفر أسباب الحياة الاقتصادية والسياسية ـ الاجتماعية للدولة الكردية. تماماً كما أن القوميين الكتالونيين لم يطرحوا الكثير من الأسئلة حول حجم الأغلبية المؤيدة للاستقلال، الكيفية التي ستتعامل بها مدريد وأوروبا مع فكرة الاستقلال الكتالوني، ولا عن الشروط الاقتصادية الضرورية لوجود كيان كتالوني مستقل. خلال القرن الماضي، منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، سيما بعد أن أصبحت الدولة المركزية الحديثة الوحدة المتعارف عليها للنظام الدولي، يمكن القول أن حدود الدول استقرت إلى حد كبير، ولم يعد ممكناً الانقسام بدون حرب أهلية ونزاعات دموية في أغلب الأحوال. ولطبيعة السوق في العصر الحديث، أصبح الازدهار وثيق الصلة بالكيانات الكبيرة. معظم الدول التي أسست بعد حركات قومية انقسامية عن كيانات أكبر، تعيش وضعاً بائساً على المستوى الاقتصادي، أو تعاني من فشل مؤسسة الدولة، أو باتت تخضع لإشراف دولي. وهذا ما لا يقوله قادة الحركات القومية الانقسامية للشعوب، التي يفترض أن تشكل أمم الدول الجديدة.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي