بالأمس قتلوا أخي.. أعدموه رمياً وصلياً بالرصاص
محمد كتيلة
بالأمس فقط … أمس المرارة والفجيعة الطالعة من ليل الجحيم… في التاسع عشر أو في العشرين من أيلول الأسود الجديد، أو ما بينهما، أردوه قتيلاً أمام عتبة البيت وعيون السماء، وأغلقوا باب النجاة الوحيد على أمي…
لم يقتلوها، لكنهم إقتلعوا منها شرايينها، وحكموا عليها بالموت المؤقت…. إنتزعوا منها عكاز جسدها المنهار عنوة، وبأشد الأساليب قسوة، وتركوها وحيدة وغريبة على قلبها المكسور، وجهاً لوجه، في لجة الموت المحتوم…تركوها ككومة من فزع وهلع وصدى صراخ مكتوم، في ليل تسعينها الحالك… في غرفة محشوة بالظلام وظلال أعقاب البنادق، لا ماء ولا كهرباء ولا كسرة خبز ولا أحد، لتموت ببطء على نار هادئة، في خلوتها الأخيرة مع الله، محرومة من أي مصدر من مصادر الحياة الشحيحة ومنها، هواء النفس، وأهمها إبنها الذي أصلوه بالرصاص، ليصبح في رفة الرمش فقيدها ومن غير أن تعرف… جردوها منه، من أمومتها، من نافذتها المتحركة الأخيرة التي تطل منها علينا وعلى ما يدلف إليها من أخبار متقطعة، عن أحوال أولادها وأحفادها وأهلها، وما لهم وما لها، داخل الحصار وفي نهايات العالم.. وهو، أي فقيدها الآن، لم يكن مجرد إبن بار بها منذ إقتلاعها من حيفاها، وهو على صدرها يتوسد قلبها ويتغطى بدموعها، بل رفيق أمراضها وعذاباتها الطويلة مع اللجوء،ودروب الشقاء التي لا تحصى ولا تعد، وجار حميم لعمرها، وراع أمين ومخلص لذبولها…ساعي بريدها المحترف، لكونها لا تستطيع أن تسمعنا بأذنيها بل بعينيها، ومن أين لها الزمان الآن، ومن بعده، لكي ترانا وتسمعنا وتعدنا على الأصابع…. أعدموه بلا حس أو رأفة وبلا أية مسؤولية، طووا عمره في ثانية من ثواني الجبن والغدر، أردوه قتيلاً… وقبل أن يعدموه بيوم واحد، إقتحموا البيت بالعتاد الحربي و سألوه: من أين أنت، فقال لهم بحماس فاتر:’ أيني فلسطيني’، ولأن الفلسطيني يعامل معاملة السوري منذ إبتعاث البعث، أعدموه على الفور ومن دون تلكؤ …أعدموا أخي رمياً وصلياً بالرصاص، لا لشيء، بل لأجل القتل وحباً بالقتل،وابتهاجاً بالقتل… ولو لم يقتلوه في تلك الثانية، لقتلوه مرة وأخرى وأكثر من مرة، في فراغ الزمن الذي تخثر من فائض الدم السوري… لم يقتلوه لأنه فلسطيني أوكفلسطيني سوري، قتلوه لأنه إنسان، وكل إنسان في سوريا ومن يكون، تحول إلى هدف وصار من أهم أهدافهم على الإطلاق وليس بمحض الصدف وفي عين الهدف، وسيظل الهدف إلى حين، لكونه النقيض، وهم من غير هذا النقيض الطيب الصلب، لا مكان لهم ولا حياة.
قتلوه لأن واجبهم أن يقتلوه، قتلوه لينتصروا على خوفهم ومذلتهم وبؤسهم وإنحطاطهم، وأطالوا من عمر العدو المشترك، فتحوا شهيته للإحتفال من جديد بإقتراب ساعة النصر ومن منا يستطيع أن ينسى تل الزعتر…فكلما نقص من الشعب الفلسطيني واحد، وبهذه الطريقة المأساوية، إزدادت حظوظهم في البقاء…. طلقة من الطلقات أحرقت قلبه، غيرت مكان إقامته، وثانية من بين الطلقات المنهمرة، إستقرت في العنق، واستراحت بين الشرايين، وثالثة وربما العاشرة، وربما الألف، طوحت خيمة الصدر، كسَّرت الضلوع، أهمدتها، وأطفأت شموع الروح وأُطبقت السماء على الأرض، وابتسامته على ما أظن، بقيت هي هي، هي كل ما تبقى لدينا منه، لتحمينا من أوجاع القلب وحسرتنا عليه.
أعدموه، ويا لها من قسوة، وما أشدها من قسوة لا ترحم، يا لفظاعتها، يا لبشاعتها، يا لها من جريمة آثمة نكراء … في الليل أعدموه أم في النهار، لا نعرف، لأن الليل لا يبارح النهار، ولا يظهر في المساء، حلت محله فوهات البنادق والدبابات والطائرات، والنهار، يختفي النهار ويقصر، لا أحد يعرف عنه شيئاً، ولا متى يبدأ، ولا كيف ينتهي، المهم أنهم أعدموه، والأهم أنهم رموه صحبة البقية من الضحايا، في عراء ووعرالطريق، في ليل أو نهار أسود، في منطقة الحجر الأسود،المتاخم المتلاحم بالشهداء وصيحات الحرب، مع مخيم اليرموك… مخيم اليرموك أو شارع فلسطين، ما أن يبدأ وكيف مشيت به، ينتهي بمقبرة للشهداء لسوء تجربة الفلسطينيين مع الموت وحظهم العاثر.
لم يمهلوه لحظة واحدة، ليقول لأمي وداعا ً أو سلاماً أوسأعود، أو قد أتأخر عليك قليلاً، ريثما أرتب أمر الخروج الطارئ، لشراء الخبز، والدخول المستعصي بيدين وما في اليدين من دواء مهرب وماء ملوث أو اللاشيء، أصفر الوجه وصفر اليدين وجفاف في الروح ويباس في القلب، من جراء صعود الأرض وهبوطها، إلى حين يتوقف الزلزال فجأة، أو لا يتوقف نهائياً، وتنتهي الحياة على وجه المنطقة المحاصرة، ويبدأ البشر وأشباه البشر من خارج الحياة التي كانت، في تفقد الجرحى ولملمة جثث الضحايا، وما تبقى لهم من أعضاء وأسماء، ومن بقية حياة… وماذا كان في وسعه أن يقول لها، لو أسعفه الحظ، أو لو أهمله القدر دقيقة واحدة، ليقول ما كان يمكن له أن يقول لها، هل كان سيعتذر منها لأن موته لا بد سيعجل من أمر نهايتها، أم سيقول لها: يا ليت عدوي الذي قتلني، لكنت الآن في حيفا، فلا تبكي علي.. لكنني ولن يكمل .
الصدفة وحدها والقدر، ولهفة أخي الثاني المحترقة عليه، وفجيعته به ومن نهايته القاسية الفظيعة التي لا تُحمل ولاتُحتمل، أنقذته في اللحظة الأخيرة، وأخرجته من القيامة الأرضية، فبدل أن تكون آخرته في مكب جماعي أو في قيد المجهول، أضحت بأعجوبة ومعجزة في مقبرة الشهداء، وعلى مسافة قريبة من أهله وصحبه، في مكان هادئ، جميع سكانه من ضحايا معارك أخرى في ساحات عربية أخرى، ومن ضحايا الزلزال الآدمي الجديد، لا يخالطهم أحد، ولا يعكر صفو راحتهم أحد، ما لم تكن نهاية هذا الأحد مأساوية إلى هذا الحد وممهورة بالدم…وقد يكون مأواه الأخير هذا، آمن لبعض الوقت، وقد لا يكون، لضيق الوقت وانبعاث الجحيم في كل مكان… وأمي إلى الآن أمي، تنتظرعودته، لأنها لم تعرف أنه لن يعود، ولا يعجبها ذلك، فهو الوحيد من بين أخوتي الخمسة، الذي تعودت عليه ولم تعهد له غياب، كما يذهب يعود، في الشتاء والصيف و في الليل والنهار وتوالي الخريف، ومهما إبتعد عنها أو إغترب، إليها يعود، منذ ميلاده ومهبط رأسه في طيرة حيفا في عام 1947 وبشكل دائم وبدون أي تأخير وبلا أعذار.. فهو دائم الحضور في حياتها، وفي متناول يديها وقلبها، وفي أي وقت تقتضي الحاجة إليه أو لاتقتضي، مثله مثل أقراص الدواء، الموضوعة قرب الوسادة،والفارق بينه وبين الأدوية، أن الأدوية لها صلاحية إنتهاء، ويمكن تجديدها والإستغناء عنها أحياناً، أما هو فلا، فإذا ما انتهى ستنتهي وها هو الآن إبتعد… وها هي أمي على مهب الريح… لم يكن في وسع أخي الآخر، المتبقي في دمشق مع الشقاء وأسرته، أن يعترف لها أو أن يسر لها، كيف أعدموه ولا أين وجدوه، وما هي الحالة المروعة التي كان عليها، فالمشاهد الفظيعة، وسير الأحداث، طيرت عقله، أفقدته إسمه، ألجمته هو الآخر وأذهلته، لدرجة أنه يتأبى أن يستعيدها في ذاكرته، فكيف يرويها لمن فاضت بها الذكريات المؤلمة، منذ خروجها من حيفاها وهو معها في اللفة.
بالأمس أعدموه، أوكلوه للغياب المر، أكلوا روحه كلها، من بدايتها إلى نهايتها، واستباحوا دمه على أرض كنا نحبها ولا زلنا نحبها ونحبها… أوجعونا حتى الثمالة، حتى الهزيع الأخير من العمر القصير وأوجعوه…أردوه قتيلاً وأثقلونا بالقهر فوق القهر، وبما خف من الصبر القليل، لكنه سيعود وسينهض، غيبوه مكفناً بالرصاص بدلاًمن الورد والقماش الأبيض، لكنه سينهض، في الباقي من الأيام التي لنا على هذه الأرض سينهض… سيقف على قلبه المدمى، وسينفض عن كاهله الموجوع والمتعب، كل غبار الأمس والجروح، وكل الرصاص والطغيان وسيسأل : بأي ذنب قُتلـتُ ؟.
‘ كاتب فلسطيني يقيم في كندا
القدس العربي