بزوال كابوس “الكتاب الأخضر” يصير الكابوس البعثي نشازاً مطلقاً
وسام سعادة
مع زوال كابوس “الكتاب الأخضر” في ليبيا وانتصار الثورة الشعبية الليبرالية المسلّحة المسندة بالتدخّل الأطلسيّ، تنحسر رقعة الديكاتوريات المطلّة على حوض البحر الأبيض المتوسّط، إلى حد أنّ هذه الرقعة باتت أقرب لأن تختصر بنظام الإحتضار الفئويّ الدمويّ في سوريا الذي لم يتردّد في أيّام سابقة في قصف اللاذقية بسلاح البحر.
لا يعني ذلك أنّ الديموقراطية الليبرالية تكرّست نهائياً وبشكل كامل على ضفتي البحر المتوسّط. فالمرحلة الإنتقالية معقّدة وحسّاسة ومختلفة في مصر وتونس وليبيا، أمّا الجزائر التي لم تنجز ربيعها بعد فإنّ نظامها التسلّطي من غير الدقيق وصفه بـ”الديكتاتورية” كما أن تعدّديتها السياسية لم تبلغ بعد منزلة “الديموقراطية”.
وطبعاً، ما زالت شعوب البحر الأبيض المتوسّط، بل شعوب العالم أجمع، لا تعرف كيف تفرض حلاً واقعياً نهائياً وشاملاً للصراع العربي – الإسرائيلي عموماً وللنزاع الإسرائيلي – الفلسطينيّ خصوصاً، بالشكل الذي يضمن حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ بالدرجة الأولى، وينتصر لثقافة حقوق الإنسان بشكل قاطع وتام. إن إستمرار ثنائية الإضطهاد والصراع في الأراضي المقدّسة إنّما يحول دون تيسير عملية التطوّر الديموقراطيّ لعموم الفضاء المتوسّطي المتعدّد الحضارات.
وإذا كانت الديموقراطية التركية من أهمّ المكاسب التطورّية الحضارية التي حقّقها العالم الإسلاميّ في العقدين الأخيرين، فهذه بدورها لم تتمّم بعد شروط انتقالها النهائي إلى الديموقراطية الليبرالية، ولو أنّ النجاح في تفكيك منظومة “العسكريتاريا” المتحّصنة وراء “القيم الجمهورية والعلمانية” يشي بتصميم منهجيّ في هذا الإتجاه.
لكن، بالنتيجة، فإنّ حوض البحر الأبيض المتوسّط صار مفتوحاً برمّته على الديموقراطية الليبرالية، ولم يبق من استثناء نافر على هذا الصعيد غير النظام الفئوي الدمويّ في سوريا، كما لم يبق من استثناء نافر على صعيد اضطهاد شعب لشعب آخر في هذا الفضاء المتوسّطي غير إسرائيل، خصوصاً بعد نهاية الحروب البلقانية.
وإذا عدنا إلى بداية السبعينيات، بل إلى اليوم الذي نفّذ فيه حافظ الأسد إنقلابه “التصحيحيّ” على رفاقه البعثيين الآخرين، لوجدنا أنّ الديكتاتوريات المتوسّطية لم تكن يومها أمراً نافراً أبداً، لا في شمال الحوض ولا في جنوبه. فديكتاتورية “الكولونيلات” بقيادة جيورجيوس بابادوبولوس استبدت باليونانيين حتى عام 1974، وتوجّب على الشعب الإسبانيّ انتظار وفاة الجنرال فرانشيسكو فرانكو عام 1975 للانتقال بعدها إلى الديموقراطية في إطار الملكية الدستورية، والنظام السالازاري استمرّ لسنوات بعد رحيل الديكتاتور اليمينيّ نفسه وكان على “ثورة القرنفل” عام 1974 أن تتفادى “قطوع” الديكتاتورية اليسارية قبل أن يحسم الخيار باتجاه الديموقراطية الليبرالية القائمة على حكم التمثيل وحقوق الإنسان والمستندة إلى الإقتصاد الحرّ. وفي يوغوسلافيا، كان الماريشال جوزف بروز تيتو يحرص على إضفاء صبغة “إنسانية” على اشتراكيته كما كان يقال يومها، لكن نظامه بقي بالنتيجة نظام عبادة فرد وحزب واحد وإحساس متبادل بين الجماعات القومية المختلفة بالغبن. أمّا ألبانيا، فكانت تعيش في نظام الستاليني المجنون أنور خوجة. وتركيا لم تكن البلد المتطور سياسياً واقتصادياً وثقافياً الذي نعرفه اليوم، بل بلد الإنقلابات العسكرية المتكرّرة.
من هنا، لم تكن “الديكتاتوريات” نشازاً في حوض البحر الأبيض المتوسّط يوم استولى حافظ الأسد على حكم سوريا. كانت هذه هي الحال في تركيا واليونان والبانيا ويوغوسلافيا واسبانيا والبرتغال وسائر البلدان المتوسّطية العربية باستثناء لبنان.
لكن الحالة مختلفة بتمامها اليوم، وبشّار الأسد هو الآن آخر ديكتاتور في بلدان البحر الأبيض المتوسّط.
بالتالي، فأي وجهة نظر أو إستشراف يتعلقان بدرجة وسرعة تأثير الحسم الليبيّ على الثورة السورية وإيقاعها ومسالك الحسم فيها، عليهما الانطلاق من الواقعة الأساسية: بزوال نظام “الكتاب الأخضر” صار نظام الاحتضار في سوريا استثناء نافراً للغاية في الفضاء المتوسّطي الحضاريّ الذي تعاقبت عليه موجات التوسع الديموقراطيّ تباعاً منذ السبعينيات من القرن الماضي وإلى اليوم.
هذه الواقعة الأساسية لها تبعاتها: إن انتقال الفضاء المتوسّطي إلى مرحلة تاريخية جديدة رهن باستكمال عملية انهاء آخر معاقل الديكتاتورية على ضفافه. وفي المقلب الآخر، فإنّ ما يحدث في سوريا، يظلّ نافراً حتى بمقياس الديكتاتوريات المتوسطّية البائدة نفسها.