“بعث” البوط/ وليد بركسية
أكثر ما يثير الاشمئزاز في “المقال” الذي نشرته صحيفة “البعث” الحزبية الرسمية، الأربعاء، حول تراجع بعض المعارضين السوريين عن مواقفهم السياسية، ليس مضمونه التحقيري القائم على مستوى من خطاب الكراهية ضد المعارضين للنظام، من مواطنين وسياسيين وشخصيات عامة، بل حقيقة أن من كتب بتلك اللغة الدونية، مهدي دخل الله، كان وزيراً للإعلام السوري.
ويصف المقال المعارضين للنظام بأنهم خونة، مع الكثير من الإيحاءات الجنسية التي تحملها عبارات مثل “حضن الوطن” و”ضرع الوطن” ويقارن بين “الدولة السورية” ودول كبرى مثل فرنسا وروسيا: “لماذا تكون حكمة سورية أكبر من حكمة الجميع؟ ولماذا يكون حضنها أكثر دفئاً من أحضان أوطان كبرى كروسيا وفرنسا؟ ولماذا يكون ضرعها أكثر إدراراً من ضروع الآخرين؟”، قبل أن يضع شروطاً مهينة لهذا “التسامح والحكمة”.
ويقول دخل الله (70 عاماً): “على كل خائن تائب أن يذهب إلى نقطة من نقاط الجيش العربي السوري لينحني أمام الجنود الذين حمونا من نتائج خيانته، بل وليقبل بصطار أحد الجنود أمام وسائل الإعلام، فهذا البصطار فيه من الشرف والوطنية أكثر مما في أدمغتهم وضمائرهم. هؤلاء يعودون انتهازاً وليس وطنيةً متأخرة اكتشفوها في نفوسهم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. إن الانحناء أمام جنودنا امتحان لهؤلاء التائبين ووثيقة تؤخذ عليهم إذا حاولوا مرة أخرى بيع دماء السوريين لأعداء السوريين”.
والحال أن رمزية “البوط العسكري” تصاعدت تدريجياً منذ سنوات في الفضاء الالكتروني العربي وفي إعلام الممانعة تحديداً. لكنها بلغت ذروتها بعد أحداث الربيع العربي، حتى أن النظام السوري أقام مجسمات وتماثيل ضخمة “للبوط العسكري” في كل من اللاذقية وطرطوس. وتكرس “البوط العسكري” شيئاً فشيئاً كعبادة جديدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ما بات ملاحظاً على الشاشات من حين إلى آخر مع تسابق الموالين للنظام لتقبيل الحذاء العسكري، مثل الممثل السوري زهير عبد الكريم أو الإعلامية التونسية كوثر البشراوي.
اللافت هنا أن دخل الله ليس مجرد عضو عادي في حزب “البعث” الحاكم، بل يشغل منصب عضو القيادة القطرية للحزب و”رئيس مكتب الإعداد والثقافة والإعلام” فيه، وتعكس كلماته، من دون أي مجاملة أو مواربة، النزعة العنصرية التي يمتلكها النظام السوري ضد المعارضين له، والذين لا يعتبرهم سوريين أصلاً، لأن المواطنة وفق المنطق الموالي تقوم على الخضوع والانتماء لا لسوريا المجردة بل لـ”سوريا الأسد” حصراً.
يتزامن كلام دخل الله في إطار ظهور بعض التصريحات لمعارضين سابقين عبر مواقع التواصل الاجتماعي او وسائل الإعلام، عبروا فيها عن رغبتهم بالعودة الى سوريا لاكتشافهم “حجم المؤامرة” عليها مثل عضو الائتلاف السوري المعارض السابق محمد بسام الملك. علماً أن الصفحات الموالية للنظام السوري، تقود حملات عنيفة ضد عودة المعارضين السوريين من المدنيين لا الشخصيات العامة، وصولاً لرفض عودة اللاجئين، إلى البلاد في حال رغبتهم بذلك، باعتبارهم “خائنين”، ويعطي ذلك التجييش الحق في “امتلاك سوريا” و”الانتماء لها” للذين مكثوا في الداخل و”قاتلوا ضد الإرهاب”!
في ضوء ذلك، يعبر المقال عبر رمز من رموز البعثية العتيقة في البلاد، عن حقيقة “المصالحات” و”الحل السلمي” و”الانفتاح على الأطياف السياسية” وغيرها من المصطلحات التي يتبجح بها النظام عبر إعلامه ودبلوماسيته، والتي تتطلب في الواقع إخضاع الطرف الآخر وإذلاله في وقت واحد، كما تظهر حقيقة الشرخ الاجتماعي الحاد الذي أحدثته الثورة السورية في المجتمع بعد فشلها في الوصول إلى أهداف الحرية والديموقراطية والمساواة، وتحولها إلى حرب أهلية عززت الانقسام الطائفي والمناطقي والطبقي.
إلى ذلك، تعطي كلمات دخل الله الصريحة وتصدرها لصحيفة “البعث” بالتحديد، لمحة عن المستقبل السوري مع بقاء رئيس النظام بشار الأسد في السلطة، والتي سيحاول قدر الإمكان التمسك بها بقبضة حديدية وبدرجة من العنف لن يسمح بها بحدوث ثورة ثانية في المستقبل القريب على الأقل، بموازاة ضخ من البروباغندا لمخاطبة الموالين وتجييشهم بأفكار القومية الشعبوية.
ومن نافل القول هنا، أن النظام لا يبالي كثيراً بأن يجري مصالحاته مع المسلحين و”الإرهابيين” الذي أطلق عدداً كبيراً منهم من سجونه أصلاً بعد العام 2011، لكنه يرفض الانفتاح والحوار مع المعارضين السياسيين والنخب الفكرية والثقافية المعارضة له مع شيطنته للصحافيين والناشطين المعارضين أيضاً، لأن تلك الشخصيات على اختلاف توجهاتها ضمن المعارضة، تمثل خطراً وجودياً على النظام ليس بسبب قدرتها على قيادة الرأي العام فقط، بل لأنها تتكلم لغة مختلفة عن لغته العنيفة وتطالب بمبادئ الكرامة الإنسانية الأساسية التي تجرد النظام من شرعيته بسهولة، والتي لا يمكن له الوقوف في وجهها أو مجادلتها إلا بلغة التخوين.
المدن