صفحات الناس

بعد هزيمة تنظيم الدولة: الزوجات المحليات لعناصره الأجانب وحيدات مع أطفالهن/ محمد حسان

 

 

في خيمة بالية وسط مخيم السدّ جنوب الحسكة، تعيش سارة، ابنة الخامسة والعشرين ربيعاً، وهي من ريف محافظة ديرالزور السورية، مع أبيها وأمها وطفلين صغيرين، ولدتهما خلال فترة زواج استمر ثلاث سنوات من مقاتل تونسي كان ضمن صفوف تنظيم الدولة الاسلامية أو “داعش”.

وسارة التي لم تعرف التنظيم إلا بعد سيطرته على محافظة ديرالزور، صيف عام 2014، لم تتخيل يوماً أنها ستكون زوجة أحد عناصره، إلى أن قادها القدر في أحد الأيام إلى دورة شرعية فرضت عليها، بعد أن تم ضبطها من قبل دورية تابعة لجهاز الحسبة في “داعش”، وهي مخُالفة للباس الشرعي الذي فرضه التنظيم.

التحقت سارة بالدورة الشرعية، التي أقيمت في منزل واحدة زوجات عناصر التنظيم السعوديات، والتي كانت المسؤولة عن الدورة التي يتمّ فيها تعليم المخالفات للتعاليم الدينية، وفي نهايتها يتمّ أجراء فحص للموجودات. النجاح في الاختبار  يعني انتهاء الدورة، أما الفشل يعني إعادة الدورة مرة أخرى.

تقول سارة إن تلك الدورة كانت نقطة تحول في حياتها، فبعد تلقيها التعليم الديني والذي بدأ يتسرب لها، فازدادت شغفاً لتعلمه، لدرجة أنها وخلال مدة زمنية قصيرة، أخذت قراراً بأنها لن تتزوج إلا “مجاهداً” من عناصر التنظيم الأجانب، وهذا ما حدث بمساعدة المشرفة السعودية على الدورة، التي نّسقت مع أحد عناصر التنظيم التوانسة، عن طريق زوجها للذهاب وخطبة سارة من أهلها.

رفض والد سارة الأمر في البداية، لكنه أٌجبر تحت إصرار سارة على الموافقة، والتي هددّت بالذهاب مع “أبو الحارث”، العنصر التونسي الذي تقدم لخطبتها، إلى القاضي الشرعي وعقد قرانهما. بالفعل، تزوجت سارة، واستمر هذا الزواج ثلاث سنوات، لينتهي مع هرب زوجها “أبو الحارث”، من مناطق سيطرة التنظيم إلى جهة مجهولة، بعد سرقة مبلغ مالي كبير، تاركاً لها طفلاً هو “الحارث”، وطفلة هي سمية.

بعد هرب زوج سارة و سيطرة قوات النظام السوري على قريتها واندحار داعش، خرجت مع أهلها إلى مخيم السدّ، تنتظر تحسن الظروف لتعود مع إلى منزل العائلة لتربي ولديها الذين لا تعرف حتى ما هو اسم والدهما الحقيقي. تعيش سارة على أمل أن يأتي يوم تُحل فيه مشكلة أطفالها وجميع الحالات المشابهة لهم ويتم تنسيبهم ضمن قوانين معينة.وتحاول سارة أن تتحلى بالشجاعة، فهي تعتبر نفسها المسؤولة عن كل ما جرى. هي من أخطأت كما تقول، وعليها العمل على إصلاح الخطأ. أما والدها فيرى أنه حتى ولو تمكنت سارة من تجاوز التجربة، لكن سيكون صعباً على طفلين لا يعرفان من هو والدهم، وقد لا يريانه، بل وقد يُعيّران به يوماً ما في مجتمع تقليدي محافظ كالذي يعيشون فيه.

كيف رسخ داعش نفوذه عبر الزواج

في  عام 2013 ، انقسمت “جبهة النصرة”  في سوريا إلى قسمين، القسم الأول استمر تحت مسمّى “جبهة النصرة”، معلناً تبعيته المباشرة لتنظيم القاعدة، أما القسم الثاني فأطلق عليه “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروف بـ “داعش”.

هذا الانقسام ترتّب عليه انحياز قسمٍ كبير من العناصر الأجنبية، أو ما يعرف محلياً بـ”المهاجرين” إلى “داعش”، تحت مبدأ المشروعية للتنظيم، الذي كانت النصرة جزءاً منه وتدين بالولاء لزعيمه “أبو بكر البغدادي”، قبل أن تعلن انفصالها عنه.

التنظيم بعد الانفصال وانحياز قسم كبير من العناصر الأجنبية له، حاول العمل على إيجاد قواعد اجتماعية له في المناطق التي يسيطر عليها، عبر عملية تزويج هؤلاء العناصر من فتيات من المجتمعات المحلية السورية ، لتكون أساساً اجتماعياً يربط بين التنظيم و تلك الحواضن، إضافة لرغبته في كسب رضى عناصره الأجنبية، وكسب ودهم بشكل أكبر ودمجهم بتلك المجتمعات.

محاولات التنظيم تلك مرّت بمرحلتين، مرحلة الفشل والتي رافقت فترة وجود “داعش” كـ فصيل عسكري بين طيف من الفصائل العسكرية الأخرى على الساحة السورية، مثل الجيش السوري الحر، وأحرار الشام وغيرها. وهذه الفترة استمرت منذ وجود التنظيم وحتى نهاية النصف الأول من عام 2014. أما المرحلة الثانية، والتي نجح فيها عناصر التنظيم من التغلغل في الأوساط الاجتماعية، فكانت عبر عمليات الزواج الممنهج، والتي حصلت بين النصف الثاني من عام 2014 ، بعد سيطرته الكاملة على أجزاء واسعة من شمال وشرق سوريا خاصة ريف حلب الشرقي ومحافظتي الرقة وديرالزور، و استمرت حتى مرحلة زواله .

عمليات زواج العناصر الأجنبية في “داعش”، كانت النسبة الأكبر فيها تتم مع فتيات لديهن قريب من الدرجة الاولى في صفوف التنظيم كالأب والأخ، أما النسبة الأقل فكانت من فتيات لا يربطهن بالتنظيم أي رابط. استغل التنظيم ظروف الفتيات، وظروف ذويهن المادية السيئة  نتيجة الحرب و الحالة الاقتصادية المتردية في مناطق سيطرته.

بعد القضاء على التنظيم في العراق وشبه انتهائه في سوريا، بدأت مشاكل زواج الفتيات المحليات من عناصر “داعش” بالظهور إلى السطح، كـ إرثٍ مرضي، تركه التنظيم لمئات النساء والفتيات، اللواتي وجدن أنفسهن متروكات بعد فرار أزواجهن، أو مقتلهم في العمليات العسكرية. هذه المشكلة لم تقتصر على هؤلاء النساء، بل شملت الأطفال الذين ولدوا من الزيجات تلك، والذين تركوا مع أمهاتهم بلا معيل ولا نسب،  فـ أغلب عناصر “داعش” المهاجرة، عرفوا بألقاب وهمية، وانحصرت معرفة أسمائهم وخلفياتهم بدواوين التنظيم.

خولة تزوجت ثلاث مرات

خولة من أهالي محافظة الرقة، وكان والدها يشغل أحد المناصب المهمة في التنظيم خلال فترة سيطرته على المحافظة، وقد تزوجت من ثلاث عناصر أجانب كانوا مع التنظيم.

زواجها الأول كان من عنصر شيشاني، وقد استمر ستة أشهر، وأنتهى بمقتله في معركة مطار الطبقة ضد قوات النظام. أما الزواج الثاني، فكان من عنصر سعودي واستمر عاماً، وأنتهى أيضاً بمقتل الزوج في غارة لطيران التحالف الدولي، استهدفت سيارته على أطراف مدينة الرقة. أما الزواج الأخير، فكان من عنصر كويتي، لكنهما افترقا بعد تقدم قوات سوريا الديمقراطية إلى المحافظة، ونزوحها مع أهلها إلى مدينة تل أبيض، وهي لا تعرف حتى الآن، ما إذا كان على قيد الحياة أم أنه قتل.

خولة التي تقيم الآن في منزل مع شقيقها الأصغر ووالدتها في حارة السخاني بمدينة تل أبيض السورية، وترى أن مشكلتها سهلة يمكنها تجاوزها، خاصة أنها لم تنجب أطفالاً من أزواجها الثلاث، وأن خطاء الزواج من عناصر التنظيم الأجانب يتحمله والدها، الذي جعل منها سلعة للحفاظ على منصبه ومكتسباته داخل التنظيم

مئات الأطفال مجهولي النسب

من النتائج الكارثية التي ترتبت على زواج عناصر “داعش” الأجانب من فتيات من  المجتمعات المحلية، ظهور جيل من الأطفال مجهولي النسب. هناك شريحة واسعة لا يعرف عددها من هؤلاء الأطفال، غير حاصلين على أوراق ثبوتية تثبت جنسياتهم الأصلية، ومحل وتاريخ ولادتهم، أو حتى تثبت أنهم على قيد الحياة. هذا الأمر مرده إلى أن عقود الزواج التي تمت في مناطق التنظيم تعتبر “غير قانونية”، لأنها مسجلة بألقاب المقاتلين وليس بأسمائهم الحقيقية، وصادرة من جهات غير حكومية رسمية، ما يمنع تسجيل الأولاد قانونياً، وبالتالي حصولهم على أوراق ثبوتية.

المحامي السوري أحمد العلي قال لـ “درج”، إن الأطفال الذين ولدوا من زواج مقاتلي “داعش” الأجانب من فتيات سوريات، ستشكل معضلة حقيقية في المستقبل، وسيكون لها أثر سلبي على المجتمع السوري، ولن يتمّ تسجيل هؤلاء في الدوائر الحكومية العربية والغربية، وهم بنظر القانون غير موجودين أصلاً”.

وأضاف العلي “إن مصير هذا الجيل مرتبط بانتهاء التنظيم، وطيّ ملف الثورة السورية، وعودة الأمور إلى طبيعتها بحدها الأدنى، حيث سيتم اعتبارهم مجهولي النسب، وحسب التعبيرات الحكومية “مكتومي القيد” أو “بدونه” ، أو يتم أيجاد حلول قانونية لمشكلتهم بناءً على تشريعات جديدة أو تعديلات قانونية، أما القانون الحالي فمن المستحيل تسجيل أطفال مقاتلي التنظيم الأجانب، كون عقد الزواج صدر أساساً من جهة غير قانونية وهي “داعش”، وبحسب القوانين السورية، كما أوضح العلي، فإن تسجيل المواليد الجدد في الدوائر الحكومية يستلزم وجود عقد الزواج الشرعي الصادر عن جهة  حكومية”.

مشكلة هؤلاء الأطفال لن تكون قانونية فقط، بل ستكون ذات تبعات اجتماعية معقدة، مع انعدام أي خطط أو استراتيجيات للاعتراف بهم وتشريع وضعهم وتأهيلهم نفسيا واجتماعياً، وبالتالي دمجهم في المجتمع.

هذه القضية تطال أعداداً غير محددة من الأطفال المجهولي النسب، والذين يعيشون حالياً في جو عارم من الرفض الاجتماعي والنقمة التي ستخلف مشاكل نفسية واجتماعية معقدة مستقبلاا ما لم يتم تداركها. وأحد التبعات السلبية لفقدانهم الأوراق الثبوتية حرمانهم حقوق أساسية هي التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية كافة، بدءا من الزواج والإنجاب والتوظيف وصولا إلى حقوقهم المدنية كالمشاركة في الانتخابات وغيره.

هناك شريحة من الأطفال التي تنمو على هامش المجتمع وهي بمثابة أزمة ستتفاقم وتنفجر ربما مستقبلاً ما لم يتم احتواؤها.

موقع درج

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى