بيروت ووافدوها الجدد
محمد العطار ونبراس شحيّد *
الوجه الأصفر من معرة النعمان إلى بيروت
تُلقي جارتنا النرد في المقهى، ومعه تتدحرج الذكريات. وجوه البارحة تتناسل في مخيلة محمّد، لأرى في عينيه شيئاً من وجهها الأصفر. أسأله عن شكلها: “السيدة في بداية العقد الرابع، لها وجهٌ حنون ودمث. قابلتها في بيت أقرباء لها لجأوا إلى المخيم من قبلها”. أتخيل المشهد: بيتٌ صغير في مخيم فلسطيني في بيروت، له غرفة واحدة، كغالبية البيوت هنا، ينام فيها قاطنوه كلهم، يجلسون، ويأكلون. “بادرتها بابتساماتٍ مرتبكة”، يتابع محمد، “فأطرقت رأسها إلى الأرض شاكرةً. ساد بعدها صمتٌ ثقيل، فلا مدخل لائق، وكلانا ينتظر. أحسم موقفي وأتحلى بالشجاعة لأسألها: “لمَ أنت هنا؟”.
يغرق محمد في تفاصيل الحكاية صامتاً قبل أن يسردها ببطءٍ. أمٌّ تفقد زوجها أولاً، وبعده ابنتها البكر وهي على وشك الولادة. قذيفة عمياء كباقي القذائف تقطف روحين متجاورين. أفكر في الجنين وادعاً لا يزال في رحم أمه الشهيدة، أيّ تجاورٍ أبدي هذا؟ “كنتُ أدخلُ عليه أحياناً فأراه يحضن ثياب زوجته ويبكي، زوجان جديدان، لم تنقض سنة على قرانهما”، يعيد محمد على لسان المرأة. يخبرني عن صعوبة الموقف. “لم تستطع الصمود طويلاً، دموعها انحدرت على وجنتيها برقةٍ وببطء. أثناء حديثها، كنت أسترق النظر إلى شاشة التلفاز وراءها، حيث يظهر الأسد متحدثاً إلى قناة “الدنيا”. لا تنتبه هي، أنقل نظراتي بين وجعها الدامع وشاشة التلفاز، أيّ مفارقةٍ هذه؟ ملهاة أم تراجيديا عصرية؟”. مجدداً، يلمع وجه المرأة في عيني محمد. أراها فيهما تجمع أطفالها الثلاثة المتبقين، تهيم على وجهها حتى تصل إلى مخيم الداعوق في بيروت. “أحد الأطفال، وهو صبي صغير، يعاني من مشكلة في السمع، بسبب القذيفة. يجب أن يُعرَض على طبيب!”. أتنهّد وأتذكر مريضاً سورياً آخر أدخله أصحابه الشهر الماضي إلى لبنان لتلقي العلاج، فالأطباء في سوريا لم يجدوا له حلاً بسبب نقص المعدات. دار أصحابه به مؤسسات بيروت، لكنهم لم يجدوا من يساعدهم في إسعافه، فلا نقود لديهم. لذا أعادوه إلى سوريا مجدداً من طريق الجبال! بيروت، هل “مُنذر” لا يزال على قيد الحياة؟!
بيروت النزوح وعجز الانكسار
يزوّدنا المقهى لحظات مقتطعة من حياة قلقة. في المقهى أيضاً أستطيع أن ألقي على نبراس بعضاً مما يثقل على نفسي، ففعل البوح هنا نادرٌ وصعب، يتحايل على وحدة قاسية لنتعايش معها. يُخبرني نبراس عن شاب مقدام كان يعمل على إغاثة ما يقارب مئتي عائلة مشردة في دمشق. يحمل السكّر والأرزّ على ظهره إليهم. يلعب مع أطفالهم، ويجلب لهم الحلوى والأغاني. صديقنا هذا اضطر اليوم إلى الهرب من مدينته ومعه عائلته إلى بيروت. لم يجدوا مؤسسةً تعطيهم فرشاً ليناموا فوقها! صديقٌ آخر كان قد كرّس نفسه للعمل مع عائلات النازحين المتكدسة في دمشق! جار عليه الزمان واضطر إلى الهرب من مدينته لأنه ملاحق. هو الآن تائه في بيروت! أنفق كل ما يملكه من أجل مشردين آخرين حتى صار منهم! بيروت، هل تسمعين صراخنا؟!
في العيد المنصرم كانت إحدى الفتيات السوريات اللواتي هربن من سوريا، توزع ألعاباً على أطفال سوريين في أحد المخيّمات الفلسطينية. محاولة بائسة ربما لزرع البسمة. تهرول طفلة صغيرة محاطة بأقرانها، لتمسك برجل الفتاة وتصرخ: “أنا كمان بدّي لعبة”. تنهرها امرأة فلسطينية بهية، وهي أم المخيم كله: “هدول بس للسوريين، روحوا إنتو”. ينكمش الأطفال ويتراجعون لينظروا من بعيد، ترتبك الفتاة قبل أن تتابع توزيع الألعاب (القليلة) ثم تنسحب فجأة. أتابعها بنظراتي فأراها تبكي بحرقة، تبكي وتبكي. أبتعدُ لأنحني نحو الأطفال المختبئين خلف الجدار في انتظار أن يحصلوا على لعبة ربما. تسألني الصغيرة: “ليش عم تبكي هديك؟”، أبتسم بمشقة: “لأنو خلصو الألعاب”. ينبري أحدهم وهو صغير جداً: “أنا بجيب لعبي، لا تخلّيها تبكي”، ثم يهرول ويصحبه ركب الأطفال مُحدثين جلبة. أنهض وأغادر المخيم مسرعاً.
كجنديّ “يُشعل لفافته بين الأنقاض”
بيروت، نلتجئ إليك فلا تفتحي أذرعك! لمَ؟ تتداخل خيالات منذر في رأسي مع كلمات العامل القادم من درعا في رأس محمّد: “أبحث عن مكان آمن أعيش فيه! هل من المعقول أن أنجو من المجزرة في سوريا ليتم اختطافي هنا؟”، يبتسم مكشراً، ويعرض على محمد قميصه المثقوب. “هذا أثر رصاصة! في منزلنا لم يوفر الجنود حتى خزانة الملابس! لقد أطلقوا النار على كل شيء”. يتكرر في الذاكرة ضجيج غالبية سائقي السرفيس الذين أقلّونا: “في سوريا توجد مؤامرة لا ثورة!”. أحد السائقين قال لصديقتنا: “لو كنت أعرف أنك سورية لما سمحت لك بصعود سيارتي!”. أصواتٌ، صخبٌ تهدر به الذاكرة، لترسم حكايات الغربة في بيروت، فتتقاطع مع قصائد قديمة: “ضمّني بقوة يا لبنان. أحبك أكثر من التبغ والحدائق. أكثر من جندي عاري الفخذين يشعل لفافته بين الأنقاض” (الماغوط). بيروت هل تسمعيننا؟!
لمَ لا تُقربنا شفتا الجرح الواحد؟
يوقظنا النرد مجدداً من تراكم الأصوات وأشخاص الحكايات، يتدحرج على الطاولة المجاورة. “شيش بيش” تقول الفتاة. ألتفتُ إليها لأتذكر باسل شحادة. لقد كان هنا حول الطاولة هذه في نيسان الماضي قبل أن نُلحق اسمه بلقب “شهيد”. تجمّعنا حوله ليخبرنا عن أحوال الأحباب في دمشق وحمص. “الوضع مأسوي! أحياءٌ كاملة محرومة من الطعام”، كان يقول. يشتمّ الجميع سوء الحال، ليسود بعدها الصمت في مقهى الذاكرة. هؤلاء الجياع هم الآن هنا في بيروت، وأمعاء المدينة يلفظهم. لكن، بيروت، لا نريد أن نحمّلك مأساتنا كلها، فقد عرفتِ مثلنا أيضاً جورَ أهلك، بعضِهم، وظلمَ ذوي القربى على حدٍّ سواء. سباقةٌ أنتِ في حمل المآسي، وفي تحمل وزر المستبدين، لذلك اعتقدنا أنك الأقرب إلى بوح القلب حين يُفشي أسراره. في المقهى الصغير نبحث عن ملجأ بلون الوطن، ننسجه من ذكرياتنا، من أحلامنا، من حكاياتنا. في هذا المقهى المختبئ، تردنا الاتصالات كلّ مرة تتصاعد فيها الأحداث لتحذرنا من الخروج بسبب الخطف العشوائي! سخريةٌ مريرة بلون الغربة. سوريون ينشدون الأمان، فيُختطفون لأنهم ولدوا من جديد. في بيروت “القريبة والبعيدة”، بيروت “اللدودة”، يَدفع السوريون، عمالاً ولاجئين، أثماناً باهظة. نفكر في الزمجرات والتهكم التي يستقبلنا بها البعض عندما يعرفون أننا سوريون، بإيجارات البيوت التي تتصاعد، وتكلفة الحياة الباهظة هنا. لكن في بيروت القاسية، نجد أيضاً من يحتضننا ويشاركنا هموماً خبرها جيداً. بيروت، أيّ مدينةٍ أنت، ظلمناك وتظلميننا؟!
ليل بيروت والسكينة الموقتة
يتوقّف النرد عن الدوران، وتتثاقل الأقدام إلى البيت عائدةً تجرّ حكايتها. أفكر دوماً في ليل بيروت، يتقاسمه أهلها الساهرون والسوريون الناجون فيها؛ ليل بيروت الذي يعطي الوافدين بعض السكينة الزائفة. أمارس هوايتي اليومية في السير المتثاقل في الهزيع الأخير من الليل. أمرّ بجانب محطة بنزين، وكما الليالي السابقة أشاهد شاباً يركب دراجة هوائية مترنحاً كمن يقود دراجةً للمرة الأولى. أقرر أن أقترب منه هذه المرة: “هل تتعلم قيادة الدراجة؟”، يرتبك ويكاد يقع. “نعم، أحاول. هذا مفيد للحركة ليلاً حيث لا زبائن كثر”. أعرف من لهجته أنه من السويداء، فيؤكد لي ذلك، “وأنت من أين؟”، “من دمشق” أجيبه. لا يزال مرتبكاً، فأبادره القول: “لم أستطع مقاومة فضولي، فأنا أمرّ كل ليلة تقريباً من هنا، وأشاهدك تحاول ركوب الدراجة الهوائية”، فيفاجئني بدوره: “أراك أيضاً تتمشى برفقة صديق لك أحياناً”، “نعم نبراس”. يسألني: “هل تعملان هنا؟”، ابتسم: “ربما، أنا أعمل في مجال المسرح، وتالياً أنا لا أعمل، أما صديقي فهو رجلٌ يبحث عن أجوبة، أو ربما عن أسئلة!”. تبدو الحيرة واضحة على محياه، “لا عليك، لماذا تتعلم ركوب الدراجة هنا؟”، أسأله ليجيب: “أظن أنها أفضل وسيلة لأتحرك قليلاً أثناء وردية الليل”. أقول له: “ما رأيك أن نعود إلى سوريا على الدراجات الهوائية؟ الطريق شيقة وجميلة، والمسافات أقرب بكثير مما تبدو عليه. عليك التدرب جاداً فربما نعود قريباً”. يبتسم ويسأل: “قريباً؟”، أُجيب: “عليك التدرب، فالحرية كما الحب لا يسـتأذنان عند القدوم؟”. يضحك كاشفاً أسناناً جميلة: “نعم قريباً”، ثم يواصل القيادة مرتبكاً، ويبدأ بالدوران حولي، تنتظم حركاته رويداً رويداً. “أنت جاهز تقريباً” أقول له، ويستمر بالدوران حولي بحركات تزداد ثقة، “نعم جاهز… كالحرية” يجيبني، ثم يضحك كالأطفال مزهوّاً بإنجازه، يضحك ويضحك. إنه أول أيلول، والهواء الراكد في صيف بيروت القائظ بدأ يتحرك ليذكّرنا بأن الخريف يلوح لنا ولو من بعيد. أجلس متكئاً على سور متسخ، مراقباً صديقي الجديد المبتهج. تبدو بيروت الليلة أقرب منا وإلينا. ليلها يهدهد أشواقنا، لكن ماذا عن الغد؟ ماذا يا بيروت؟
* مسرحي سوري وراهب يسوعي سوري
النهار