صفحات المستقبل

بين الثورة والانتقام، النار أو الازدهار


“الثورة حدثت لتغيير الأوضاع، وليس الأشخاص” .. د. سلمان العودة

ما يحدث في بلدنا العزيز من تقتيل وذبح بأبشع الوسائل والأشكال، أمر يندى له جبين كل (إنسان) وحتى الحيوان يتبرئ مما يفعله البشر في بعضهم، وما رأيته في مدينتي حُمص من قنص وإبادة واغتصاب لشابات وتدمير للبنايات أمر لا يُحتمل ولا يستطع أحد معه صبرًا، فحمل بعض الشباب السلاح الضعيف وانضموا إلى الشرفاء المنشقين عن جيش الأسد المجرم .. وحميّ الوطيس واشتد القتل على المدينة وسوريا كلها .. وازداد حمل السلاح وازدادت الانشقاقات.

وأخيرًا ما حصل في الحولة وحماه والحفة ودوما، فجّ قلوب كثير من الناس وكلّ بدأ يعمل على استطاعته.. فهذا التاجر أغلق محله وذاك المجند انشقّ بسلاحه وذاك الإعلاميّ بكاميرته وذلك المثقف بقلمه وإرشاداته وهذا الشيخ الكبير بدعائه وشحذه همم الشباب، وأيقن الشعب السوري الآن بأنّ هذا النظام الغادر لا سبيل لسقوطه إلا بقوّة النار والحديد التي لا يتوقف حتى ساعة واحدة عن إعمالها في الشعب الأعزل.

وللأسف بعد كلّ ما حصل تصاعدت الأصوات من هنا وهناك، ومن الداخل والخارج، من الثوار ومن الخوّار ومن كل مكان.. أنّه ينبغي الردّ على محاولات الإبادة بالمثل، أي بالإبادة أيضًا .. وأنّه يجب الانتقام وأخذ الثأر بأسرع ما يمكن ممن فعل ما فعل .. وطبعًا كانت الاتهامات تلاحق العلويين بعد كل جرمٍ أو مجزرة أو عملية دهم وسرقةٍ وحرق وتدمير وهذا أمر واضح .. فلا شكّ في ذلك بعد ما شاهدناه من مقاطع فيديو مسربة تؤكد هذه الاتهامات، والغضب يزادد عليهم من الشعب بعد كل مجزرة .. فهذه كرم الزيتون في حمص يهجم عليها الشبيحة (وهم من العلويين) وتلك هي حماه ثم نعود لحمص في الحولة وتلك هي حماه في القبير أيضًا ثم إدلب ثم ريف حلب ثم ريف دمشق ثم دير الزور ..! لم يترك الشبيحة مكانًا في البلاد إلا وزرعوا فيه حقدهم وأحرقوا ودمروا ..!

كل ذلك صحيح .. ((ولكم في القصاص حياة)) .. ولكن مهلاً هل كل العلويين هم من شاركوا في هذه المجازر الوحشيّة، وهل كل العلويين موالون للنظام باستبداده وقبحه ووحشيته ولا أخلاقيته !! .. لا أظن ذلك أبدًا وإن أغلبهم صامتون لا يتكلمون ولا يشاركون مع أي طرف في أي فعل ..!

ودليلي من أهالي الحولة الذين قالوا: “ضيعة عين التينة العلوية رفضت للمرة الثانية استخدام أراضيها لقصف القرى السنية، أو إرسال أي من أبنائها ليشبحوا هناك.”

لذلك يجب ألا نتسرع في الحكم على الناس فقط لأنّهم أقارب أو أصدقاء أو من نفس دين وطائفة المجرمين .. ولا يجب أن نقتل ونحبس كل يقربهم أو يمت لهم بصلة .. لأنّ ثورتنا شعبية مدنيّة تتحلّى بقدر عالٍ من الوعي والأخلاقيّة في التعامل مع المسيء ومع الصامت .. ولأنّ المعروف عن ديننا الصفح والتسامح والعفو والإكرام والإحسان .. فلنتذكر ذلك دائمًا ولا ننسى ما جاء به نبينا الكريم وما فعله من بعده أصحابه من حكمة وكرم في معاملة المسيء ومحاسبة الناس ..

ولنتذكر ذلك اليوم العظيم في تاريخ أمتنا العزيزة .. عندما أكرم الله – تعالى – المسلمين بالفتح العظيم .. فتح مكة المكرمة .. وعندما وقف قائدنا محمد – صلى الله عليه وسلّم – أمام الكفّار المجرمين وقال لهم ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) .. اذهبوا فأنتم الطلقاء جملة محت – تقريبًا – كل الحقد والغل من نفوس المسلمين والكفّار المجرمين .. لأن الذي يعطي ويعفو عند القوّة يعتّز بنفسه والذي يُعفى عنه عند القضاء يُصلح نفسه ويصبح ذا دور في المجتمع الذي عفا عنه وأحسن إليه ..

ولن ندرك قيمة هذا العفو إلا عندما نضع أنفسنا في ذلك الحدث والموقف ونتخيّل الناس الذين خوطبوا به، إنّهم رجال كفّار ما فتؤوا يعذبون المؤمنين الموحدين العزل، حتى قتلوهم، وشردوهم عن ديارهم، وسرقوا أموالهم، واستولوا على أراضيهم ومنازلهم، ولم يُظهروا لهم أيّ رحمة أو عطف، وحتى زمن قريب كانت سيوفهم وشفراتهم تقطر من دماء الأبرياء المستضعفين ..!

هذه القدرة العظيمة على العفو والكرم سمحت بطيّ صفحة سوداء في الماضي، وجنّبت – مكة أولاً والمجتمع الإسلاميّ ثانيًا في الجزيرة – الحروب الداخلية والأهليّة، ومهدت لقيام دولة إسلاميّة عزيزة قويّة في الخلافة الراشدة تميّزت بقيمة عظيمة في العدل بين الناس والرحمة بينهم، والحريّة، والكرامة.

هذا الموقف الإنسانيّ العظيم في قيمته والسهل والسريع في تنفيذه يستحق منا دراسته وتطبيقه في هذا المرحلة الحرجة في تاريخ سوريا، لأنّ القتل والانتقام والأخذ بالثأر يجلب البغضاء ويدفع بالعداوات بين الناس دفعًا، ويُحضّر لجولات كثيرة قادمة من الصراع والانتقام العكسيّ، والحكيم هو من يسعى إلى وقف دوامة العنف المضادّ، بالتفوّق الأخلاقي على غرائز النفوس .. وكما قال البحتري:

وَفُرسانُ هُيجاءٍ تُجيشُ صُدورُها       بِأحقادِها حُتّى تُضيقَ دُروعُها

تُقَتـِّـلُ  مِن وترٍ أُعَـزّ  نُفوسِـهـا         عَلَيها بِأَيـدٍ ما تُـكادُ تُـطيـعُها

إذا احتَرَبت يَومًا فَفاضت دِماؤُها       تَذَكَّرتِ القُربى فَفاضَت دُموعُها

شَــواجِرُ أَرمـاحٍ تـُقَـطِّـعُ بَينَهـم         شَواجِرَ أَرحـامٍ مَلـومٍ قَطوعُها

كل ذلك لأنّ الثورة ومكاسبها ليست لقياداتٍ أحسنت استثمار الحدث، وليست لأحزابٍ بادرت بتأييد الثورة، بل وليست للثوار فحسب، بل هي لكل الشعب دون استثناء، حتى لمن لم يؤيدها، وإذا آمنت ثورتنا بهذا المبدأ فقد وضعت قدمها على النهوض التاريخي، وليس التغييرات العابرة أو الشكليّة .

وعندها سيكون حصاد الثورة هو شيء مختلف تمامًا عن حالة الظلم والعبودية، والاحتكام إلى القوّة، كما كان يحدث في ظلّ الأنظمة الاستبداديّة.

وإنّ ذلك الانتقام والتشفي ليس عملاً ثوريًا على الإطلاق بل هو أقرب إلى أن يكون عملٌ غرائزيٌ حيوانيّ، فلا يجوز لنا تكرار مآسي القهر باستخدام القوّة، والحبس التعسفيّ الجائر ولا حتى القتل خارج القانون باسم الثورة !

وسُئل أعرابيّ: تحب أن يفوت ثأرك وتدخل الجنة؟ قال: بل أدرك الثأر وأدخل النار !

علينا أن نحاول بجهد وصبر ألا يحكمنا منطق الأعرابيّ وصوته المشدود بين الثأر والنار .. فنحن ما زلنا عرب ولم نتحرر بعد – في زمن تخلفنا – من منطق الثأر والانتقام، والتعصب لجماعة وقبيلة والموت لأجلها ..

هذه الثورة الغالية نرعاها وترعانا .. سترعانا بالنصر وإزالة الطواغيط والمجرمين من طريقنا .. وسنرعاها بإعمال كل القيم والمبادئ التي كانت لأجلها مع كل الناس دون تمييز أو تفريق .. ولن تسامحنا الثورة أبدًا إن ظلمنا أحدًا أو حبسنا أحدًا أو قتلنا أحدًا تعسفًا باسمها الغالي ..

ملاحظة: لا أعني في كلامي مسامحة “الشبيحة” الذين اقترفوا مالم تقترفه الحيوانات، فرغم أنّ النبي العظيم سامحَ بعض الناس، أمر بقتل بعضهم الآخر لشدّة اجرامه ولو تعلقوا بأستار الكعبة ..!

https://kendeel.wordpress.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى