صفحات العالم

تركيا، القضية الكردية –مجموعة مقالات-

 

ما الذي يجري داخل الحزب الحاكم في تركيا؟/ بكر صدقي

تكررت، في الشهرين الأخيرين، ظهور خلافات علنية بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وشخصيات مهمة في حكومة أحمد داوود أوغلو. ففي شباط الماضي قدم رئيس جهاز الأمن القومي التركي هاكان فيدان استقالته ليتمكن من ترشيح نفسه إلى الانتخابات النيابية القادمة في السابع من شهر حزيران. الاستقالة التي من المعروف أنها تمت بتشجيع من رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، لاقت استياء علنياً من أردوغان الذي سبق ووصف فيدان بـ»بئر أسراره». وهكذا تراجع فيدان عن ترشيح نفسه وعاد إلى موقعه الخطير نزولاً عند رغبة رئيسه أردوغان.

شكل هذا المسار ما يشبه الفضيحة في الرأي العام التركي الذي يعارض قسم كبير منه ميول التفرد بالحكم لدى أردوغان. فتعبير «بئر أسراري» وحده كان مستفزاً بما فيه الكفاية، لأنه يشخصن العلاقة بين رئيس أرفع مؤسسة أمنية في الدولة ورئيس الجمهورية ذي الصلاحيات المحدودة في الدستور التركي الساري. إضافة إلى أن أردوغان فرض إرادته على فيدان الذي كان يستعد لدخول معترك السياسة بعد سنوات طويلة في إدارة جهاز الاستخبارات. ووراء كل ذلك تكمن رغبة أردوغان في «كسر كلمة» داوود أوغلو وتهميشه لمصلحة قوة أردوغان، بخلاف الدستور الذي يمنح رئيس الوزراء موقع السلطة التنفيذية الأعلى.

وقبل أيام ظهر إلى العلن خلاف آخر بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حول مسار العملية السلمية بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. فقد انتقد نائب رئيس الوزراء والناطق باسم الحكومة بولنت آرنتش أمام الصحافيين، علناً، تدخل رئيس الجمهورية برأيه السلبي من تشكيل هيئة مراقبين محايدة مهمتها مراقبة المفاوضات بين الحكومة والطرف الكردي. قال آرنتش إنه ليس من حق السيد أردوغان التدخل في عمل الحكومة. وإذا كان أردوغان اكتفى برد دبلوماسي قائلاً إن من حقه أن يبدي رأيه في قضية مصيرية قادها بنفسه إبان عهده رئيساً للوزراء، فقد جاء الرد العنيف من رئيس بلدية العاصمة أنقرة مليح غوكتشك الذي اتهم آرنتش بأنه من جماعة فتح الله غولن ـ العدو اللدود لأردوغان ـ داعياً إياه للاستقالة. ورد آرنتش على غوكتشك باتهامه بالفساد في رئاسة البلدية. ففتح القضاء تحقيقاً بحق الرجلين بشأن الاتهامات المتبادلة بينهما.

ساد انطباع أولي في الرأي العام مفاده أن هذه الخلافات مصطنعة، الهدف منها إظهار الحكومة ورئيسها بمظهر الاستقلالية عن رئيس الجمهورية. ولكن سرعان ما تأكد للجميع أن الحزب الحاكم يعيش أزمة داخلية حقيقية تتعلق بمدى نفوذ أردوغان المستمر على قيادته، وبالتالي على الحكومة ورئيسها، بعد استقالته من الحزب شرطاً لصعوده إلى قصر الرئاسة وفقاً للدستور التركي. أضف إلى ذلك حالة التململ داخل قواعد الحزب بسبب فضيحة الرشاوى التي هزت مصداقيته لدى كثيرين. وأخيراً هناك «تجديد الدم» الذي يتعرض له الحزب قبيل الانتخابات النيابية، بسبب فقدان الكوادر المؤسسة للحزب حقها في الترشيح لعضوية البرلمان بعد انقضاء ثلاث دورات لها كما ينص النظام الداخلي للحزب. وهكذا سيدخل جيل جديد من كوادر الحزب الحاكم الحياة السياسية وسط تنافس شديد على دخول قوائم الحزب التي يحددها أردوغان كما يقال على رغم خروجه من الحزب. فهو يريد كتلة نيابية موالية له في البرلمان القادم لتصوت لصالح تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي. ولكن، بالمقابل، يتطلب تحقيق هذا الهدف أن يحصل الحزب الحاكم على ثلثي مقاعد البرلمان ليتمكن من تمرير التغيير الدستوري على رغم أحزاب المعارضة. ولن يكون تحقيق هذه النتيجة في الانتخابات بالأمر السهل في ظل توقعات تشير إلى صعود محتمل في للحزب الكردي (HDP) الذي قرر تحدي حاجز العشرة في المئة، وللحزب القومي المتشدد بقيادة دولت بهتشلي. فكلا الحزبين يطمح إلى تغيير المعادلات القائمة بانتقال قسم من جمهور حزب العدالة والتنمية إلى التصويت لصالحهما. ما يعني تآكلاً مزدوجاً في القاعدة الانتخابية للحزب الحاكم. أضف إلى ذلك أن فوز الحزب بأكبر قدر ممكن من مقاعد البرلمان يتطلب تماسكاً داخلياً والتفافاً حول رئيسه داوود أوغلو، في حين تتأذى صورة هذا الأخير كل يوم بسبب تصريحات أردوغان الهادفة إلى تهميش دور رئيس الحكومة في الدولة.

أما ثالثة الأثافي التي من المحتمل أن تؤثر سلباً على تصويت الناخبين للحزب الحاكم، فهو التوقعات المتشائمة بشأن الاقتصاد الذي يشهد مشكلات جدية، في الآونة الأخيرة، ظهرت بصورة ملموسة في انخفاض القيمة الشرائية لليرة التركية بصورة متسارعة تذكر بأسوأ الأزمات التي شهدها الاقتصاد التركي في مطلع القرن، وأدت إلى سقوط الحكومة حينذاك وصعود العدالة والتنمية إلى الحكم. ووفقاً لخبراء ماليين خسرت الليرة التركية، منذ انتفاضة منتزه غزي في حزيران 2013 إلى اليوم، 40 في المئة من قيمتها أمام العملات الصعبة ومن قيمتها الشرائية. الأمر الذي انعكس سلباً على مستوى معيشة الطبقات الدنيا والمتوسطة التي يصوت قسم كبير منها تقليدياً للحزب الحاكم.

تتضح حجم أهمية العامل الأخير إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن «جوهرة تاج» نجاح أردوغان وحزبه في الحكم إنما هي المعجزة الاقتصادية التي حققاها لتركيا بعد عقود من الإدارات الاقتصادية الفاشلة والفاسدة.

تتمتع الانتخابات النيابية القادمة بأهمية كبيرة في تحديد مصير تركيا. هناك معارضة اجتماعية واسعة تطمح إلى التغيير. لكنها مشتتة ولا تجد القطب السياسي الجاذب والموحد الذي من شأنه تغيير معادلات الحكم ووضع حد لتفرد العدالة والتنمية المديد بالسلطة. من المحتمل أن الحزب سيحصل على الغالبية التي تتيح له تشكيل الحكومة بمفرده للمرة الرابعة على التوالي، لكنها قد لا تكون كافية لتمرير دستور يكرس أردوغان رئيساً تنفيذياً أول وفقاً لنظام رئاسي. وهذا ما سيجعل ازدواجية السلطة مستمرة بين أردوغان ورئيس الحكومة المقبل.

في الأثناء تتحدث أحدث التسريبات عن أن رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل يقوم بالمشاورات التمهيدية لتأسيس حزبه السياسي. هو الذي طعنه أردوغان، أثناء إجراءات تسليم سلطة الرئاسة في شهر آب 2014، ليحرمه من أي مستقبل سياسي داخل الحزب الذي أسساه معاً.

 

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

النرجسية التركية في متاهتها/ رستم محمود

بعد نداء عبدالله أوجلان الأخير لإلقاء السلاح ورسالته الشهيرة يوم النوروز، يعترف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن أوجلان فعل كل ما يجب فعله لتحقيق السلام في تركيا. لكنه صرّح، من جهة أخرى، أنه لا «مشكلة كردية» في البلاد، بل ثمة معضلة تخص جميع أحوال البلاد.

ويعترف نائب رئيس الوزراء يالتشين أقدوغان بأن عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني هي قدر تركيا، وأن أحداً لا يستطيع وقفها، بينما يصرخ أعضاء قياديون في حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية التركي المعارضين بأن ذلك سيدفع الكيان التركي إلى حتفه الأخير.

على هذا المنوال تدور جدالات يومية ساخنة في الحياة التركية، الأساس فيها هو الرهبة من الاعتراف السياسي والقانوني والدستوري الحقيقي بوجود هوية سياسية – إثنية كردية في البلاد، مختلفة تماماً عن نظيرتها القومية – الإثنية التركية، وأن تركيا بلد ملون من حيث الجماعات الأهلية المؤسسة له.

تبدو هذه النقاشات مثيرة وتراجيدية بالنسبة إلى القوميين الأتراك، لأنها من طينة نقاشات وأفعال سياسية تهز باطن وعيهم ومنطقهم السياسي لجهة وعي شكل الدولة والكيان التركي، ولأنها من طرف آخر حتمية الحدوث، فهي ليست نتيجة تطور في الذهن السياسي والثقافي للنخبة التركية الحاكمة، بل من إفرازات تطور المسألة الكردية في المنطقة، خصوصاً بعد الربيع العربي والتناقضات الإقليمية والدعم الدولي للقوى الكردية الفاعلة في مواجهة «داعش»، طبعاً بالإضافة إلى النمو الديموغرافي الكبير للأكراد وقدرتهم على إيجاد صلات سياسية في ما بين قواهم السياسية الكبرى في مختلف الدول.

ليس في ذلك ما هو خاص بجماعة سياسية أو مناطقية أو أيديولوجية تركية بعينها، فهذا التناقض بين ما هو متخيل في الذات التركية وما يجب أن تفعل الدولة والقوى السياسية التركية، تناقض يخص جميع النُّخب التركية، بما في ذلك النُخب الثقافية والاقتصادية نفسها. فكلها فريسة ذاكرة و«تربية» ونمط من المنطق والتفكير التقليدي المتفرع من قومية بالغة المركزية والهوياتية، سعت عبر أجيال متعاقبة لتحويل تلك الهوية السياسية القومية إلى دين للدولة والمجتمع والمجال العام كله. وهذا فيما تجري تحولات كبيرة في المنطقة، تهز أُسس تلك المرتكزات.

في الظاهر يبدو أن تيارين سياسيين متمايزين في هذا الشأن: واحد يبدو تغييرياً، بقيادة حزب العدالة والتنمية، يرى أنه على تركيا أن تقبل ببعض التحولات السياسية في الداخل التركي، لتواكب حجم الضغوط والتغيرات التي تجرى في المنطقة، تلك التي يمكنها أن تجر العنف والصدامات الاجتماعية إلى الداخل التركي. يتعهد هذا التيار بتقديم أقل الأثمان، ويقدم ثقة أكبر بالكيان التركي، لكنه في المقابل يصر على عدم تجاوز أية خطوط حمر في «الذات التركية» حول مركزية الدولة والرموز والتعريف القومي للسكان. وهو من طرف آخر يتعهد امتصاص تبعات هذه التنازلات التي يمكن أن تُقدم للقوى الكردية بالتقادم، عبر عملية الاحتواء للقوى السياسية والمجتمعية الكردية في البلاد.

على نقيض ذلك تماماً، ثمة قوى قومية محافظة للغاية، تعتبر أن مواجهة تداعيات ما يجرى في المنطقة، وبالذات ارتفاع الوزن النسبي لأكراد تركيا، هي أسهل طريقة للتعامل مع هذه المجريات، لأن فتح باب أي تنازل صغير من جانب الكيان للقوى السياسية والاجتماعية «الكردية» المتمردة، سيفتح الباب ليس فقط لمزيد من المطالب الكردية، بل سيؤسس عرفا سياسيا لأول مرة، قائما على إمكان خضوع «الدولة» لمطالب المتمردين عليها، وبالذات في مجال ما قد يحدث مستقبلاً في الملفين الإسلامي والعلوي.

يستند هؤلاء المحافظون القوميون إلى سيرة وذاكرة تاريخيتين لرجالات السياسة في الدولة التركية المركزية – القومية منذ التأسيس وحتى الراهن، أي هؤلاء الذين كانوا على الدوام يواجهون كل تمرد بالعصا الغليظة، ولم يقبلوا في أي حال حتى بالتفاوض ولو على شكل قبول الاستسلام، وفق ما عبّر يوماً السياسي التركي المخضرم عصمت إينونو، حينما كانت الصحافة الأوروبية تنشر أخبار المجازر التي تُرتكب بحق العلويين الأكراد في مدينة ديرسم عام 1938، والتي كانت تطالب الحكومة التركية بالتفاوض معها.

يبدو أن عالماً سياسياً وديموغرافياً وثقافياً بات يلف أحوال المنطقة، وأن المحافظين القوميين الأتراك، على مختلف مشاربهم وتصنيفاتهم، هم الأقل قدرة على وعيه والتفاعل معه، بذا سيكون اندراجهم فيه الأكثر قسوة، لأن شكل سلوكهم سيجر أشكالاً من المحافظة والتشدد من بقية الأطراف. وفيما لو انتقل مزاج الرفض هذا إلى الشارع، حين تجرى المفاوضات التركية – الكردية ضمن عملية السلام المرتقبة في الشهور المقبلة، فإن ذلك يعني تماماً أن النرجسية قد تدفع إلى خراب كامل، بالضبط كما يجرى كل مرة.

الحياة

 

 

 

السلام ومعضلة أوجلان وأردوغان/ أورال شالشلار

في وقت كانت تركيا كلّها تنتظر رسالة النوروز من أوجلان، دار كلام الأوساط السياسة حول انتقاد أردوغان للحكومة وطعنه في كيفية إدارتها الحوار مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» وعملية السلام مع الأكراد. وتوقع الأتراك أن يدعو أوجلان حزبه الى ترك السلاح. لكن الدعوة هذه جاءت مشروطة ومن دون سقف زمني، ويرى نائب رئيس الوزراء بولنت أرينش، أن انتقاد أردوغان مسيرة الحل السلمي وموافقة الحكومة على شرط أوجلان القاضي بإنشاء هيئة مستقلة تتابع تنفيذ الاتفاق، أثر سلباً في رسالة أوجلان.

وقال الرئيس التركي إن المؤتمر الصحافي الذي عقده نائب رئيس الوزراء مع نواب أكراد وقرأوا فيه شروط أوجلان العشرة للسلام، لم يكن في محلّه ولم يبلَّغ به. ثمة خلاف بين الحكومة والرئيس حول إدارة ملف الحوار والسلام مع الأكراد وأوجلان، والرئيس أردوغان فضّل أن يكشف عن انتقاداته أمام الإعلام والشارع مباشرة. وأخذ بولنت أرينش – وهو يرفض مشروع النظام الرئاسي «الأردوغاني» – على أردوغان تدخله في عمل الحكومة، وانتقد مواقفه السلبية إزاء محافظ البنك المركزي. ولا يُخفى أن رأي أرينش هو رأي غيره في الحكومة والحزب الحاكم. وأردوغان هو من أطلق مسيرة السلام مع الأكراد، ويريد أن يبقى الراعي الأول لها وأن يشرف على سيرها من قصره الرئاسي، ولكن الحكومة التي تسيِّر دفة الأمور على الأرض والتي ستدفع ثمن هذه المغامرة السياسية من شعبيّتها إذا فشلت، تريد أن تدير العملية من دون وصاية أو تدخّل. ويبدو أن أحداً من أعضاء الحكومة لن يحذو حذو أرينش في انتقاد الرئيس، وأن الحكومة ستجد سبيلاً الى تخفيف التوتر مع القصر، على الأقل، الى حين انقضاء الانتخابات في حزيران (يونيو) المقبل.

وليس أوجلان في موقف أفضل من الحكومة والرئيس. وعلى رغم أنه أعلن في رسالته أن «نضال» الأكراد لم يذهب سدى، تظهر صيغة رسالته أن زعيم «الكردستاني» في وضع حرج. فهو لم يستطع أن يأمر حزبه بإلقاء السلاح فوراً. وهذا يعود إما لأنه لم يستطع إقناع الحزب بذلك، وإما أن الحزب غير جاهز لهذه الخطوة، أو أن الشروط لم تنضج بعد. لذا، لجأ الى فرض شروط في رسالته وتحفظات. ويدرك حزب «العمال الكردستاني» أن الحكومة غير قادرة على تلبية طلباته وشروطه المتعلقة بمسيرة السلام والحل التي ستنتهي الى المطالبة بالحكم الذاتي، وهو ما وصفه أردوغان أخيراً بمشروع «تقسيم تركيا». ولا شك في أن الوقت الذي تدومه عملية الحل السلمي، يسمح بتغيير الأفكار والمفاهيم في أوساط الأطراف المشاركة فيها. ومع الوقت، يصبح ما كان مستحيلاً أمس ممكناً اليوم أو غداً. ويبدو أن الوقت لم يحن بعد لإبرام حلّ. لذا، يتعثر تقدّم هذا المسار. وهذا كان متوقعاً. ولكن على رغم اعتراضات أردوغان، ستواصل عجلة مسيرة السلام الدوران، ولو أخذت وقتاً أطول. فما جرى موثّق في السجلات الرسمية، ولا يمكن العودة عنه أو إنكاره، في وقت أصدر البرلمان قانوناً يتناول عملية التفاوض والحلّ.

* كاتب، عن «راديكال» التركية، 23/3/2015، إعداد يوسف الشريف

الحياة

 

 

 

السلام الكردي – التركي بين ضرورات الداخل والأبعاد الإقليمية

مع دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان حزبه إلى عقد مؤتمر عام طارئ في الربيع لإعلان ترك السلاح وإنهاء العنف في شكل نهائي، دخلت عملية السلام بين تركيا وأكرادها مرحلة جديدة. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان ينتظر دعوة أوجلان بفارغ الصبر للبحث في ترتيب المشهد السياسي التركي على أبواب الانتخابات البرلمانية والانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يعد له على قدم وساق، فيما حزب العمال الكردستاني وقيادته في قنديل يبدوان غارقين في جدل الحسابات والخيارات، فهو الحزب الذي انطلق قبل نحو أربعة عقود من شعار تحرير وتوحيد كردستان ليجد نفسه اليوم أمام عملية سياسية معقدة وطويلة، تشوبها الكثير من الشكوك وغياب الثقة والإحساس بعدم تحقيق نتائج مضمونة خاصة لجهة سقف الحقوق والمطالب التي رفعها طويلاً، وهو ما يثير الشكوك في شأن إمكانية تحقيق سلام يحقق التطلعات الكردية في الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية ومنح الأكراد حكماً ذاتياً، وبما يؤدي إلى إعادة تأسيس بنية الدولة التركية.

كان أردوغان ينتظر بفارغ الصبر تلك الدعوة السحرية من أوجلان لمقاتليه: اتركوا السلاح، فأردوغان يعتقد أن مثل هذه الدعوة ستفتح الطريق أمام تحقيق وعده بالحصول على 400 مقعد في الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع من حزيران (يونيو) المقبل كي يصبح الطريق إلى النظام الرئاسي سالكاً من دون عقبات، فضلاً عن أنها ستدخله التاريخ كأول زعيم تركي نجح في إيجاد حل سلمي لقضية أرهقت تركيا طوال العقود الماضية، حيث تشير التقارير إلى أن هذا الصراع أودى بحياة أكثر من 45 ألف شخص من الجانبين وتدمير قرابة 6 آلاف قرية وبلدة كردية في جنوب شرقي تركيا، فضلاً عن كلفة مالية بلغت نحو 500 بليون دولار (وفق التقارير التركية) كانت كافية لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية في المناطق الكردية التي تعاني من الفقر والتخلف مقارنة بالمناطق التركية، لكن من يعرف تعقيدات القضية الكردية في تركيا والأيديولوجيا التركية السائدة، يعرف أن تحقيق السلام التركي – الكردي ليس سهلاً، وأن الأمور ليست وردية، وأعتقد أن أردوغان نفسه يعرف أن الأمور ليست سهلة، وأن الطريق مليئة بالعقبات والأخطار والتعقيدات، إذ فور دعوة أوجلان مقاتليه إلى ترك السلاح، أكد أردوغان في تصريح تلفزيوني أن العبرة بالتطبيق لا بالتصريحات فقط، وهو عندما أطلق هذا التصريح كان يخاطب أو يفكر بقيادة الحزب في قنديل وليس بأوجلان المعتقل في إيمرالي منذ 15 عاماً، فهو يدرك أنه على رغم الرمزية الكبيرة لأوجلان لدى الأكراد ومكانته في وجدانهم الشعبي، إلا أن قرار ترك السلاح من عدمه، هو في يد قنديل التي تجاور إيران والعراق وسورية وتنفتح على أميركا مع الحرب ضد «داعش»، حيث تتقاطع المصالح والتحالفات والتحالفات المضادة في منطقة تشهد تطورات عاصفة ودراماتيكية حيث التطلعات التركية الإقليمية الجامحة.

ما سبق، لا يقلل من أهمية دعوة أوجلان، فهي لم تأت من الفراغ، بل جاءت بعد مفاوضات غير مباشرة استمرت لأكثر من عامين وخطوات من الجانبين، فحزب العمال إلتزم بدعوة زعيمه السابقة (21 آذار – مارس 2013) بوقف إطلاق النار من جانب واحد وسحب الكثير من مقاتليه من المناطق الكردية في تركيا إلى كردستان العراق، في المقابل اتخذت الحكومة التركية خطوات انفتاحية على الأكراد لم تكن ممكنة في عهد الحكومات السابقة.

وفي الأساس فإن هذا النزوع نحو السلام جاء بعد قناعة الطرفين بعدم جدوى الحل العسكري، وضرورة البحث عن حل سلمي يحقق الهوية القومية للأكراد والاستقرار لتركيا، ولعل ما يزيد من الرغبة السياسية بتحقيق ما سبق، تلك التطلعات الكبيرة لأردوغان، سواء في ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية لتمرير النظام الرئاسي، أو كسب أكراد المنطقة (سورية، العراق، إيران) إلى جانب تركيا في الصراعات الإقليمية الجارية، أو في محاولة لتحسين صورة الديموقراطية في تركيا، وبما يؤدي كل ذلك إلى تعزيز موقع تركيا في الاستراتيجية الغربية ومن نفوذها في المنطقة بعد أن تعرض مشروعها الإقليمي للفشل عقب انهيار حكم «الإخوان المسلمين» في مصر وانسداد السياسة التركية تجاه الأزمة السورية.

أيهما أولاً: نزع السلاح أم السلام؟

ثمة إشكاليات كثيرة وكبيرة تعترض عملية السلام الكردية – التركية، ولعل في مقدم هذه العقبات، عقبة أو إشكالية، أيهما أولاً: نزع سلاح حزب العمال الكردستاني أم تحقيق السلام؟ من الواضح أن أردوغان يريد من الحزب ترك السلاح أولاً وتسليم عناصر الكردستاني أنفسهم إلى السلطات التركية في إطار ما تسميه أنقرة بقانون الندامة، فيما يرى الكردستاني العكس تماماً، إذ إن رؤيته تقول أن مسألة نزع السلاح تأتي في ختام خطوات عملية السلام، بمعنى حين تحقيق السلام، بخاصة أن الثقة بالحكومة التركية مفقودة، كما أن مصير عناصر الكردستاني ينبغي أن يكون من خلال عملية سياسية مدروسة تؤدي إلى الاعتراف بالحزب كممثل لأكراد تركيا وأن يشارك في الحياة العامة، وممارسة السلطة في المناطق الكردية التركية على شكل عناصر شرطة محلية وبلدية تقوم بالمهام الأمنية والخدمية والسياسية، وليس التعامل معهم كمجرمين أو مذنبين كما ترى أنقرة.

ولعل ما سبق يفرض جملة تحديات على الجانبين.

فمثلاً هل الحكومة التركية مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية للأكراد لتحقيق السلام على الأرض عبر الاستجابة للمطالب الكردية؟ وهل تركيا مستعدة للانتقال إلى الحكم المحلي على غرار الدول الأوروبية في الوقت الذي يتجه أردوغان إلى المركزية الشديدة للسلطة ويحصر كل مفاتيح السلطة والحكم بيده؟ في المقابل، هل المقاتلون الكرد التابعون لحزب العمال الكردستاني مستعدون للنزول من الجبال بمجرد دعوة أوجلان وهو الحزب الذي قدم تضحيات كبيرة خلال العقود الماضية ويقبل بالرضوخ للحل التركي الذي يريده أردوغان في خدمة سياساته الداخلية والإقليمية؟ من الواضح أن الأمور ليست بسيطة كما يتخيل البعض، ولعل من يقرأ البيان الصادر عن قيادة قنديل عقب دعوة أوجلان سيرى أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل نجاح هذه العملية ما لم يغير الطرفان مواقفهما ويقدما تنازلات جوهرية ويتخذا قرارات شجاعة.

فقيادة الكردستاني ربطت في شكل واضح وصريح التخلي عن السلاح بتحقيق الحل السلمي من خلال البنود (10 بنود) التي طرحها أوجلان كخريطة طريق للحل، بمعنى أن ترك السلاح هو آخر خطوة في الحل وليس كما يطالب أردوغان: ترك السلاح أولاً ومن ثم البحث في خطوات الحل. الأمر الثاني المهم، يتعلق بسقف الحقوق التي يمكن أن تعطيها أنقرة للأكراد ويقبل بها الحزب الكردستاني؟ مثلاً هل يمكن أنقرة أن توافق على حكم ذاتي للأكراد له إدارة تتمتع بمقدار من الاستقلالية والخصوصية بعيداً من التوجهات المركزية لأردوغان وتطلعه إلى نظام رئاسي مطلق الصلاحيات؟

الأمر الثالث، هو أن الحكومة التركية مع من ستتفاوض من أجل تحقيق السلام؟ هل يمكن مثلاً أن تدخل في حوار مع قيادة حزب العمال الكردستاني الذي ما زالت تصفه بالإرهاب؟ وهل يمكن أن تقبل بالحزب ممثلاً شرعياً لأكراد تركيا فيخوض الانتخابات ويدخل البرلمان ويعبّر عن التوجهات الكردية.

في المقابل، السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه على الكردستاني، هل بات الأخير مستعداً حقاً لترك السلاح والانخراط في الحل السياسي والاكتفاء بسقف الحكم الذاتي بعيداً من شعارات الاستقلال التي رفعها طويلاً؟ أسئلة لا بد من طرحها عند الحديث عن السلام الكردي – التركي، وعلى الإجابة عنها يتوقف مستقبل العملية بين الجانبين.

في الواقع، الأسئلة والمعضلات السابقة لا تقلل من أهمية دعوة أوجلان إلى ترك السلاح، فهذه الدعوة تشكل خطوة مفصلية للدفع بالسلام التركي – الكردي إلى واقع الحل من خلال الخطوات الآتية:

أولاً: الانتقال من دائرة المفاوضات المغلقة والسرية والاستخباراتية (حتى الآن المفاوضات هي بين أوجلان والاستخبارات التركية ممثلة برئيسها حق فيدان الذي عاد إلى منصبه بعد أن قدم استقالته) إلى حوار علني بين الحكومة التركية والحزب، وتشكيل لجان لمتابعة مقتضيات العملية السلمية في المجالات كافة، ما يؤدي إلى إزالة العقبات التي تعترض العملية.

ثانياً: وضع خريطة طريق واضحة الخطوات والمراحل والأهداف المرحلية وإيجاد الآليات السياسية والقانونية لتحقيق الأهداف المنشودة، ما يؤدي إلى زرع الثقة وبناء الخطوات اللازمة، على شكل تراكم استراتيجي يحقق عناصر السلام والديمومة. ثالثاً: إيجاد ضمانات حقيقية لإنجاح العملية السلمية من خلال هيئة متابعة تقوم بالاشراف على العملية وتنفيذ الخطوات المطلوبة من الطرفين، وهنا ينبغي التذكير بدعوة أوجلان إلى أهمية وجود طرف ثالث على شكل هيئة أو لجنة تضم أميركيين وأوروبيين وشخصيات من منظمات وهيئات دولية تقوم برعاية المفاوضات ومتابعتها والإشراف عليها مرحلة مرحلة، فضلاً عن إقليم كردستان، وهو ما قوبل برفض تركي حتى الآن.

رابعاً: أهمية توسيع نطاق مشاركة أحزاب كردية وتركية أخرى في مفاوضات العملية السلمية، فإلى جانب حزب العمال الكردستاني هناك أحزاب كردية أخرى مثل الحزب الديموقراطي والاشتراكي والشعوب الديموقراطية الممثل في البرلمان، فيما على الجانب التركي مشاركة أحزاب المعارضة، لا سيما حزب الشعب الجمهوري وكذلك البرلمان، كي لا تكون العملية كأنها مجرد بحث بين حزبين (حزب العمال الكردستاني وحزب العدالة والتنمية الحاكم)، فالعملية تتعلق بمستقبل العلاقة بين الأتراك والأكراد والعيش المشترك بينهم، وليس بالحسابات الحزبية والانتخابية.

خامساً: ألّا تكون الأهداف من العملية تحقيق غايات وأجندة إقليمية تعمل تركيا على تحقيقها في ظل ما يشهده العراق وسورية من تطورات دموية على وقع الجرائم التي يرتكبها «داعش» و «جبهة النصرة»، ومحاولة تركيا استغلال صعود نفوذ الجماعات الإرهابية المتشددة في المنطقة لتحقيق أجندة إقليمية عبر تغيير الأنظمة لمصلحة نفوذ تركي تقف وراءه طموحات جامحة باتت تتلخص بالعثمانية الجديدة، وهي نزعة تثير الكثير من الحساسيات التاريخية والاجتماعية والطائفية في المنطقة.

لعل ما يؤكد أهمية الانطلاق بالعملية على أسس صادقة وعملية لتحقيق الأهداف الموجودة، وجود ما يمكن تسميته في الجانبين التركي والكردي بصقور لا يؤمنون بالعملية السلمية، فضلاً عن غياب الثقة والإرث الثقيل للصراع واختلاف الأولويات إلى درجة التناقض.

دعوة مفصلية أمام الامتحان

على رغم العقبات السابقة، ينبغي القول أن دعوة أوجلان إلى ترك السلاح كانت مفصلية في الصراع، فهي جاءت عقب مفاوضات غير مباشرة استمرت لأكثر من عامين وخطوات من الجانبين ومتغيرات محلية وإقليمية وتطورات عاصفة، فالحزب الكردستاني أحدث خلال العقد الماضي تحولاً كبيراً في أيديولوجيته وشعاراته ومطالبه، إذ إنه لم يعد الحزب الماركسي الذي يطالب بإقامة دولة قومية مستقلة ويؤمن بالسلاح لتحرير المناطق الكردية – التركية وإنما بات يبحث عن عملية سياسية تحقق للأكراد الاعتراف الدستوري بحقوقهم، كما أن الجانب التركي الذي استخدم كل ما لديه من قوة وعنف خلال الفترة الماضية، يبدو أنه وصل إلى قناعة بعدم جدوى هذا النهج، وبالتالي ضرورة البحث عن حل سياسي، فضلاً عن إدراكه أهمية الورقة الكردية في الحسابات والصراعات الإقليمية الجارية في المنطقة، بخاصة بعد أن تحول الأكراد في عموم منطقة الشرق الأوسط من ورقة كانت تستخدم هنا أو هناك إلى لاعب إقليمي، لا سيما بعد انفتاح الغرب عليهم وبروز أهمية دورهم في محاربة تنظيم «داعش» في العراق وسورية. عليه، يمكن القول أن العملية السلمية السياسية بين الأكراد والأتراك تأتي تعبيراً عن قناعة عميقة لدى الطرفين باستحالة حل القضية الكردية في تركيا عسكرياً، بالتالي ضرورة البحث عن حل سلمي على أساس تحقيق الهوية للأكراد والاستقرار لتركيا، وانطلاقاً من هذه القناعة يسعى كل طرف للاستفادة من المتغيرات الجارية ومناخ مرحلة ما بعد (ثورات الربيع العربي) للانتقال إلى مرحلة جديدة. لكن، من الواضح أن إيجاد حل نهائي لهذه القضية يتجاوز محاولة الانعطاف للظروف والمتغيرات واتخاذ خطوات محدودة على رغم أهميتها لجهة تأسيس الثقة ومد الجسور وإيجاد خريطة للحل، فهذه القضية تقف على إرث دموي وشقاق قومي وإنكار سياسي تركي للتعدد القومي والمذهبي في تركيا منذ تأسيس الجمهورية التركية. عليه، فإن دعوة أوجلان إلى ترك السلاح تشكل خطوة مفصلية للانتقال بالعملية من دائرة المفاوضات المغلقة إلى خطوات الحل الحقيقي على أساس خريطة واضحة الخطوات والمراحل وضمانات وآليات لتحقيق الهدف المنشود.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الأنظار باتت تتجه إلى الدور المهم الذي يقوم به حزب الشعوب الديموقراطية الكردي في هذا المجال على شكل ناقل الرسائل بين أوجلان وقيادة حزب العمال في قنديل من جهة، وتقريب وجهات النظر بين الحزب والحكومة التركية من جهة ثانية، وهو دور أكسب الحزب صدقية كبيرة في الشارعين الكردي والتركي ويوحي بدور كبير له في المرحلة المقبلة، بخاصة إذا تجاوز عتبة 10 في المئة في الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع من حزيران للدخول إلى البرلمان، وإذا نجح في هذا الامتحان، فإن عملية السلام ستحصل على دفعة قوية من دون أن يعني ما سبق التقليل من أهمية موقف قيادة حزب العمال في قنديل من دعوة زعيمه إلى ترك السلاح، حيث سيتضح هذا الموقف في المؤتمر الطارئ للحزب، والذي من المقرر عقده قريباً.

وإلى أن يعقد الحزب مؤتمره العام ومعرفة قراره النهائي في شأن دعوة زعيمه إلى ترك السلاح وكيف؟ وفي أي ظروف؟ فإن الحكومة التركية قد تتخذ مجموعة من الخطوات الشكلية والبسيطة للإيحاء بأنها جادة في العملية السلمية ومستعدة لتقديم تنازلات، ولعل من أهم هذه الخطوات الإفراج عن بعض الأسرى والمعتقلين من المرضى وتشكيل لجنة أو هيئة من البرلمان لمتابعة العملية السلمية والقيام بحملات إعلامية ضخمة من خلال توجيه وسائل الإعلام للتركيز على فؤائد السلام مع الإصرار على نزع السلاح الكردستاني، وهو ما قد يفجر العملية السلمية، ويعود بالأمور إلى نقطة الصفر، إذ إن السلاح بالنسبة للكردستاني قضية حساسة، بخاصة أنه يرى أن هذا السلاح هو الذي أجبر الدولة التركية على الدخول في العملية السلمية والتعامل معه ولو في شكل غير مباشر، وعليه لا يمكن تسليم رقبته إلى الدولة التركية من دون تحقيق السلام على الأرض، وبغير ذلك لن يسلم سلاحه، وهو في سبيل ذلك قد يشترط نزع سلاحه بمجموعه من الشروط الصعبة التي قد تنسف العملية السلمية، بخاصة أن ثمة صقوراً في قيادة الحزب يرفضون في الأساس ترك السلاح ويعتقدون أن ظروف وجود أوجلان في السجن هي التي أملت عليه الدعوة إلى تركه، وأن الحزب الذي قدم تضحيات كبيرة على مدار العقود الماضية في سبيل القضية القومية لن يتنازل هكذا من دون تنازلات كبيرة من الجانب التركي، بخاصة أن الظروف الجارية في المنطقة توحي بأنه هناك فرصة كبيرة أمام الأكراد لتحقيق تطلعاتهم القومية، لاسيما في ظل الدعم الغربي لهم وتحول إقليم كردستان العراق إلى مرجعية سياسية داعمة لحقوق الأكراد في باقي دول المنطقة.

على المقلب الآخر، ترفض المعارضة التركية بشقيها العلماني (حزب الشعب الجمهوري) والقومي (حزب الحركة القومية) عملية السلام الجارية بين حكومة العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني وفق الصيغة المطروحة، ففي الوقت الذي يعتقد حزب الشعب الجمهوري المعارض بزعامة كليجدار أوغلو، أن هدف حزب العدالة والتنمية من العملية السلمية هو انتخابي بالدرجة الأولى وليس إيجاد حل سياسي حقيقي للقضية الكردية، يعتبر حزب الحركة القومية أن عملية السلام مع الكردستاني خيانة للقومية التركية ويفتح الباب أمام تقسيم تركيا، وعليه تشن أوساط الحزب حملة غير مسبوقة ضد أردوغان.

في مقابل هذه التعقيدات والعقبات، ثمة عوامل مشجعة للحل سلمياً، فالرجلان القويان أي أردوغان وأوجلان يريان أن عملية السلام أصبحت واقعاً لا يمكن القفز فوقه أو التراجع عنه، وكل طرف يرى في الآخر من موقعه القوي ضمانة لإزالة العقبات التي تعترض تحقيق السلام، وعليه ثمة من يرى أن الصقور في حزب العمال الكردستاني لن يغامروا برفض دعوة زعيمهم إلى ترك السلاح، لأن ذلك قد يكون مدخلاً لانشقاق الحزب أو الانفصال عن زعيمهم التاريخي وربما بمثابة نهاية سياسية وحزبية للكثير من الأعضاء، كما أن دور إقليم كردستان العراق واضح في هذا المجال، بخاصة أن الإقليم له علاقات جيدة مع أنقرة والكردستاني معاً، وهو في الأساس طرف مشارك في هذه العملية منذ البداية، كما أنه عملياً لا خيار لحل القضية الكردية في تركيا خارج عملية السلام، وربما هناك من يرى أن وجود حكومة حزب العدالة والتنمية في الحكم يشكل أفضل فرصة لتحقيق هذه العملية، نظراً إلى نفوذها القوي وقدرتها على اتخاذ الخطوات اللازمة والانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة، بل ثمة من يرى أن تسوية القضية الكردية في تركيا باتت أكثر من ملحة لصانع القرار التركي، لا لوقف مسيرة القتل والدم فحسب، بل لتحقيق رؤية تركيا المستقبل، فمن دون إيجاد حل لهذه القضية لا يمكن رجب طيب أردوغان تحقيق أهدافه في بناء تركيا جديدة يتطلع إليها مع حلول عام 2023، أي في المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية.

الحياة

 

 

 

 

هل تتجه تركيا فعلاً نحو وضع نهاية للمسألة الكردية؟/ د. بشير موسى نافع

أفاق الأتراك صباح يوم السبت الماضي، 21 آذار/مارس، على تصريحات جديدة، مثيرة للتفاؤل، من الزعيم الكردي السجين عبد الله أوجلان. جاء توقيت التصريحات مناسباً بلا شك، فهذا اليوم، 21 آذار/مارس، لا يؤشر إلى بداية فصل الربيع وحسب، ولكنه اليوم الذي يحتفل فيه الأكراد أيضاً بعيد النوروز (الذي هو بداية السنة الفارسية الجديدة).

دعا أوجلان، نزيل جزيرة آمرلي الشهير، والقائد المؤسس لحزب العمال الكردستاني، إلى عقد مؤتمر عام للحزب لاتخاذ قرار حاسم بالتخلي عن العمل المسلح والانخراط كلية في العمل السياسي. بدأ الحزب نضاله المسلح ضد الدولة التركية قبل ثلاثين عاماً، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وبالرغم من أن وقفاً لإطلاق النار بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد ساري المفعول منذ عامين، وأن أوجلان سبق أن أعرب عن اعتقاده بأن عملية السلام ماضية قدماً، فهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها بهذا الوضوح القاطع عن التخلي عن العمل المسلح والانتقال إلى ساحة العمل السياسي. فإلى أي حد يمكن القول بأن تركيا قد نجحت أخيراً في وضع نهاية لهذا الصراع الدامي والطويل، الذي أوقع أكثر من خمسين ألف ضحية في أطرافه المختلفة؟

ولد حزب العمال الكردستاني في أوساط يسار السبعينات والثمانينات الجامعية التركية، التي اتجهت بعض خلاياها وجماعاتها الراديكالية الصغيرة لاستخدام العنف، وكانت إحدى الأسباب التي دفعت تركيا نحو انقلاب 1980 العسكري. وظف الإنقلابيون قدراً هائلاً من وسائل القمع الدموية لاقتلاع قوى اليسار والإسلام السياسي من الساحة السياسية التركية، وهو ما عزز قناعات الكثير ممن نجوا من قبضة النظام الانقلابي بأن العنف هو النهج الوحيد للمواجهة مع الدولة وأجهزتها القمعية وجيشها. ولكن النشطين الشبان الأكراد، الذين شكلوا حزب العمال، لم يكونوا يساريين وحسب، بل وقوميين أكراداً كذلك. وإن كانت سياسات القبضة الحديدية التي اتبعها الانقلابيون قد ساهمت مساهمة رئيسية في توجه الحزب نحو النضال المسلح، فإن هذا التوجه لابد أن يرى أيضاً في ضوء النضال الذي خاضه الأكراد ضد الدولة العراقية في مراحل عديدة من القرن العشرين. ولأن بداية الثمانينات صادفت أيضاً سنوات تفاقم الحرب العراقية ـ الإيرانية، وانخراط الأكراد العراقيين في الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حسب النشطون الأكراد الأتراك أن ثمة قاعدة آمنة لهم متاحة في شمال العراق. ولكن، وبالرغم من الجذور القومية التي جمعت بينه والقوى الكردية العراقية المسلحة، فإن السياق التركي للنضال القومي المسلح اختلف إلى حد كبير عن نظيره العراقي.

تركت تسويات الحرب العالمية الأولى، سواء تلك التي رسمت حدود الكيانات العربية الجديدة في سان ريمو، أو التي وضعت نهاية لحرب الاستقلال التركية في لوزان، الأكراد بلا دولة قومية. وهذا هو السؤال المركزي الذي لم تن الحركة القومية الكردية عن طرحه منذ عشرينات القرن الماضي. والحقيقة، أن معاهدة سيفر، التي فرضها الحلفاء على السلطنة في صيف 1920 ورفضتها حركة المقاومة من أجل الاستقلال في الأناضول، تصورت وجود كيان كردي، وإن لم يكن كياناً شاملاً لكافة مناطق الأغلبية الكردية في المشرق. معاهدة سيفر، بالطبع، أسقطت بنيران حرب الاستقلال، واستبدلت بمعاهدة لوزان في صيف 1923، التي أقرت استقلال ما تبقى من الممتلكات العثمانية ضمن الجمهورية التركية. ومهما كان الجدل حول المعاهدتين، فإن المسألة الجوهرية التي تغيب عن قطاع واسع من المثقفين العرب والأتراك والأكراد، أن الإمبرياليات الأوروبية توافقت في نهاية الحرب على تقسيم الممتلكات العثمانية إلى دول قومية بالمعنى الحديث للدولة، وليس دول قوميات كاملة التعبير. تحت ضغوط المقاومة التركية، وضعت اتفاقية لوزان، وبصورة ضمنية وحسب، أسس دول تركية قومية، ولكن هذه الدولة لم تشمل بالضرورة كافة مناطق الأغلبية التركية في المشرق. وكما أن الطموحات القومية العربية لم يسمح لها بالتجلي في دولة واحدة، لم يمنح الأكراد دولتهم الخاصة.

وربما من الصعب الآن القطع بوجود حركة قومية كردية في العقود الأولى من القرن العشرين. ما يمكن قوله بقدر أكبر من الثقة أن الحركة القومية الكردية تطورت بصورة تدريجية خلال القرن العشرين، سواء كرد فعل على التوجهات القومية التركية والعربية والإيرانية الحادة في تركيا والعراق وإيران، أو بتشجيع من القوى الإقليمية المتصارعة. شهدت مناطق الأغلبية الكردية في تركيا انتفاضات محدودة في العشرينات من القرن الماضي، خلال السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية التركية، ولكن الجدل لم يزل محتدماً حول ما إن كانت دوافع تلك الانتفاضات إسلامية أو قومية. كما إن من الصعب الجزم بما إن كانت الانتفاضة التي انطلقت في منطقة درسيم (تونجلي الحالية)، الكردية ـ العلوية في 1938، والتي واجهتها الدولة الجمهورية بقدر كبير من العنف، كانت قومية الطابع، سيما أن الحادثة التي أطلقت شرارة الانتفاضة تعلقت بعملية تحصيل ضرائب. بيد أن سياسات الاندماج القصري التي اتبعتها الدولة الجمهورية كان لابد في النهاية أن تولد ردود فعل قومية في صفوف الأكراد، الذين لم تغب عنهم تطورات الحركة القومية الكردية في الجوار العراقي.

ويمكن القول أن مجموعة أبناء الإنتلجنسيا الكردية ـ التركية اليسارية التي أسست حزب العمال الكردستاني في مطلع ثمانينات القرن الماضي لم تطلق نضالاً من أجل المطالبة بالحقوق القومية الكردية وحسب، بل وكانت قوة رئيسية في تطور الهوية القومية الكردية في تركيا كذلك. صحيح أن الدولة فرضت سياسة الإدماج على الجماعات الإثنية المختلفة من مواطنين الجمهورية بالقوة وأساليب القمع، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه السياسة نجحت بصورة نسبية، سيما أن مظاهر التمييز في نسيج الجمهورية كانت في أغلبها مناطقية وليست إثنية. ملايين الأكراد، ومئات الألوف من العرب، الذين انتقلوا إلى المدن التركية الرئيسية وتلقوا تعليماً تركياً رسمياً، أصبحوا مواطنين أتراكاً بالمعنى الثقافي والاجتماعي، ووصل بعضهم أعلى مناصب الدولة والحكم. ولكن مناطق الجنوب والجنوب الشرقي، البعيدة عن المركز، لم تتلق نصيبها من الاستثمارات وبرامج التنمية. وهذه هي المناطق التي أصبحت الحاضنة الرئيسية لحزب العمال ووعود المساواة اليسارية التي أطلقها.

ولكن، وما إن بدأ الحزب نضاله المسلح ضد الدولة، حتى أطلقت الدولة لأجهزتها الأمنية والعسكرية العنان لمواجهة الحزب الانشقاقي المسلح. بصورة من الصور، مثل حزب العمال أول تحد لإحدى العقائد المؤسسة للجمهورية: وحدة تركيا واستقلالها، وكان أن ردت الدولة الجمهورية على التحدي بكل ما تملك من قوة وعنف، بغض النظر عن قانونية هذه القوة والعنف. وفي حمى الصراع، لم تولد الهوية الكردية ـ التركية وحسب، بل وأصبحت هزيمة حزب العمال مسألة وجود بالنسبة للدوائر القومية التركية الراديكالية، داخل جسم الدولة وخارجها. وهذا، ربما، ما أفشل أول محاولة جادة للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع، تعهدها الرئيس، ورئيس الوزراء الأسبق، تورغوت أوزال (ت 1993). في النهاية، ما كان للنهج الذي اختطه حزب العمال أن ينجح، ليس فقط لأن الظروف الإقليمية والدولية لم توفر للحزب الدعم الذي توفر للقوى المسلحة الكردية في العراق، ولا للقوة الهائلة التي تتمتع بها الدولة التركية، ولكن أيضاً لأن الحزب لم يستطع مطلقاً أن يحشد الأغلبية الكردية في تركيا خلفه. ما ظل بإمكان الحزب أن يحققه هو القلق المستمر للدولة، والنتائج الكارثية التي نجمت عن الصراع المسلح في منطقة الأغلبية الكردية بصورة أولية، وفي مناطق أخرى من الجمهورية في بعض الأحيان.

مثلت حكومة العدالة والتنمية الفرصة الأكثر جدية للتوصل إلى حل للصراع. أولاً، لأن الخلفية المحافظة للحكومة وثقافة قادتها الإسلامية جعلتها الأكثر انفتاحاً على الطبيعة التعددية للجمهورية؛ وثانياً، لأنها استطاعت بمرور السنوات أن تعزز وضعها في مواجهة الدوائر القومية الراديكالية في جسم الدولة وأجهزتها، وأن تتبنى بالتالي سياسات منيعة على مراكز القوى الجمهورية التقليدية. وهذا ما أدركه أوجلان تدريجياً، منذ بدأ الحوار بينه والمسؤولين الأتراك قبل خمس سنوات. تصريح أوجلان الأخير، الذي جاء عقب سلسلة من الخطوات التي أقرتها حكومة العدالة والتنمية لتمهيد الطريق أمام تسوية نهائية للصراع، هو مؤشر على التقارب المتسارع في خطى الطرفين، حتى في ظل ما يبدو أنه خلاف حول مسار حل النزاع بين الرئيس التركي وحكومته. ولكن ما ينبغي تذكره دائماً أن هذه تسوية لصراع الهويات داخل تركيا نفسها، وليست نهاية للمسألة الكردية في المشرق. فكما كل آثار الحرب الأولى الأخرى، ليس هناك ما يوحي بعد بوجود حل شامل للمسألة الكردية. ما تتطلبه هذه المسألة، كما المسائل القومية الأخرى في المشرق، ربما تصوراً جديداً، يحرر المشرق من شبح الانشطارات الدموية، ويؤسس لفضاء أوسع، تتحقق فيه تجليات الهويات المشرقية المتعددة، بدون أن تسيل على جوانبها الدماء.

 

٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى