تركيا وسوريا.. حسابات الخسارة بعد أمل بالنصر
سلامة كيلة
تبدو تركيا هي الخاسر الكبير في سوريا بعد أن ظهر واضحاً حصول التوافق الأميركي الروسي، لأن هذا التوافق “يورث” سوريا لروسيا، وبالتالي تنتهي إمكانية تركيا في الحفاظ على مكاسبها التي تحصلت عليها من بشار الأسد.
وإذا كانت تركيا في حالة توتر مع سوريا خلال التسعينيات نتيجة وجود حزب العمال الكردستاني في أراضيها، كما نتيجة انحياز تركيا للحلف الأطلسي والسياسة الأميركية، هذه السياسة التي كانت تتراوح بين التحسن والتذبذب، ورغم أن الأمر حسم بعد تهديد تركي جدي بضرب سوريا عسكرياً سنة 1998، فقد فتح استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا الطريق لتحسن كبير في العلاقات وصلت إلى حد التوقيع على اتفاق إستراتيجي سنة 2006.
فتركيا التي ملت من انتظار قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي قرر شعبها إيصال حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، الحزب الذي مثّل الحنين إلى “التراث الشرقي” رغم أنه -بعد أن انشق عن حزب أربكان- قد تشكل كحزب علماني. ولهذا أصبح “التوجه شرقاً” هو السياسة التي تحكم الحزب. طبعاً بدءاً من الجارة سوريا.
ولهذا أخذ يطور علاقته مع النظام في دمشق بشكل متصاعد، وعمل على “تثبيت حكم بشار الأسد” سنة 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري كما صرّح داود أوغلو مهندس سياسة الحزب الخارجية. هذه السياسة التي تضمنت أن تصبح تركيا “قوة عالمية” حيث انطلقت الرؤية التركية من ضرورة أن تصبح تركيا مركز الشرق عبر إقامة علاقات تسمح بأن يكون هذا الشرق سوقاً للشركات التركية، وتعزز ذلك بعد الأزمة المالية العالمية سنة 2008، حيث اندفعت الرأسمالية التركية لتعزيز دور أردوغان وسياساته.
وكانت سوريا هي المدخل الضروري، لأنها أولاُ هي السوق الأقرب، وثانياً هي المدخل لسوق السعودية والخليج، حيث إنها طريق الترانزيت إلى هناك، الأمر الذي أفضى إلى توقيع الاتفاق الإستراتيجي سنة 2006 وهو ما سمح بفتح السوق السورية كاملة أمام السلع والشركات، وجعل تركيا “شريكاً عائلياً” للسلطة السورية.
وبموجب ذلك حصلت تركيا على أفضل امتياز في سوريا، وباتت “تثق” بأنها على طريق التحوّل إلى قوة عالمية، وأن عليها “كبح” الدور الإسرائيلي في المنطقة التي باتت تعتبر أنه لها، وهذا الأمر هو الذي فرض “التصادم” مع الدولة الصهيونية.
وإذا كانت أميركا خلال هذه الفترة تعمل على محاصرة السلطة السورية وعلى تغييرها، فقد انطلقت السياسة التركية من مبدأ تثبيت هذه السلطة ودعمها والانفتاح الكامل عليها. بمعنى أن السياسة التركية كانت في تعاكس مع السياسة الأميركية، وكان طموح تركيا لأن تكون قوة عالمية خلف هذا الأمر الذي يعني “الاستقلال” عن أميركا، بل والسعي للتعامل المتكافئ معها كونهما “قوة عالمية”. لهذا كانت السياسة التركية تعمل على إفهام الأميركيين بأن دور الدولة الصهيونية كقوة مسيطرة في المنطقة قد انتهى، وأن تركيا هي “الأَولى” لأنها جزء “أصيل” من الشرق.
وكانت العلاقة الجيدة مع السلطة السورية مسألة محورية في منظور تركيا، بل كانت مدخل كل هذا الطموح “الإمبريالي”.
لهذا حين بدأت الثورة في سوريا جهدت القيادة التركية لإفهام بشار الأسد بأن عليه أن يصلح وضعه بدل أن ينتهي إلى السقوط. الأمر الذي جعلها تسعى لأكثر من ثلاثة أشهر لكي تقنع السلطة السورية بأن الحل الأفضل هو في الإصلاح وليس في العنف.
ولقد قدّمت مقترحات تنطلق من مبدأ الانتقال إلى تأسيس دولة ديمقراطية تعددية. وكانت ترفع النقد أحياناً، لتعود فتخفضه من أجل إنجاح مهمة داود أوغلو في دمشق، إلى أن وصلت إلى قناعة بأن السلطة السورية عاجزة عن فهم الواقع وأنها متشبثة بالحل العسكري اعتقاداً منها أنه سينجح في هزيمة الثورة، بينما كان التحليل التركي يشير إلى أن النظام سيسقط.
هذا الأمر جعل الحكومة التركية تفكّر جدياً في البديل. فهي تريد أن تكرّس ما حققته عبر العلاقة مع بشار الأسد، ولا تريد أن تكتشف أن سوريا قد حكمت من قبل فئات أخرى ليست متوافقة معها، ولا تقبل بالاتفاق الإستراتيجي المتحصل من بشار الأسد. بل يجب أن تبقى سوريا لها.
طبعاً كانت تركيا الأردوغانية في علاقة جيدة مع جماعة الإخوان المسلمين، ولقد سعت -وهي في علاقة جيدة مع بشار الأسد- إلى أن تجري المصالحة بينهما. واستغلت الجماعة الحرب على غزة بداية سنة 2009، وموقف السلطة السورية منها، لكي توقف الصراع معها، وأن تعتبر أنها سلطة وطنية، دون أن تتجاوب السلطة مع هذه المبادرة طيلة سنتين.
وكان من الطبيعي أن تعتبر تركيا الأردوغانية جماعة الإخوان المسلمين هم مفصل البديل الذي تريده أن يحكم سوريا. فدعمت تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي كان “الغلاف” لجماعة الإخوان المسلمين، حيث تحكموا منذ البدء بكل مفاصله، وأصبحوا هم من يقرر في كل سياساته. ولقد دعم المجلس كذلك من كل من قطر وفرنسا، ليصبح هو “السلطة البديلة” التي تخدم مصالح هؤلاء.
إذاً، تركيا الأردوغانية لم تكن ضد بشار الأسد، على العكس فقد كسبت منه الكثير، اقتصادياً وسياسياً (توقيع التنازل عن لواء الإسكندرون)، لكنها رأت أنه سيسقط ولهذا يجب أن تكون قادرة على فرض بديلها الذي يحافظ على مكتسباتها التي تحققت بالعلاقة مع بشار الأسد. ومن ثم وجدت في جماعة الإخوان المسلمين هذا البديل (مع الغطاء الليبرالي الضروري لنجاح السيطرة الإخوانية). ولقد تحكمت في مسار المجلس بشكل كامل، وحصلت منه على “عقود” اقتصادية ووعود مسبقة.
الآن، ينتهي كل شيء. فقد اكتشفت تركيا أن أميركا تبيع سوريا لروسيا، وأن الحل لن يأتي إلا عبر التوافق الأميركي الروسي الذي يعترف بـ”المصالح الحيوية لروسيا في سوريا”. خصوصاً أن السلطة السورية قد وقعت عقوداً مهمة مع الجانب الروسي، منها كل العقود التي كانت قد جرى توقيعها مع تركيا، إضافة إلى النفط والغاز. بالتالي لم تعد هناك إمكانية لفرض بديل تركي. وأيضاً ضاع المفصل الأساسي في السياسة التركية التي تعتمد السيطرة على الشرق.
وهذا يعني كذلك أن حظوظ القوى التي دعمتها قد انتهت، خصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين.
لكن يبدو أن تركيا قد حصلت على “جائزة ترضية”، رغم أنها ليست في أهمية الخسارة. فقد نشطت أميركا لإعادة ترتيب العلاقة التركية الإسرائيلية، ونجح أوباما في الحصول على اعتذار من نتنياهو عما جرى لأسطول الحرية، وطلب كيري من تركيا أن ترعى وضع الدولة الصهيونية.
ويمكن القول بأن تركيا كسبت ما خسرته حينما قررت أن تصبح هي القوة المسيطرة في الشرق، والذي دفعها للصراع مع الدولة الصهيونية. فالعلاقات الاقتصادية بين البلدين كبيرة كذلك. وأن يجري الاعتراف بأن عليها “رعاية” الدولة الصهيونية أمر يرضي “غرورها”.
كذلك جرى توقيع اتفاقات اقتصادية ضخمة مع السعودية. ثم ربما كانت هناك وعود بأن تظل سوريا هي الممر لسلعها إلى السعودية والخليج، وأن يبقى السوق السوري مفتوحاً أمامها. خصوصاً وأنها في علاقة جيدة مع روسيا، ولقد وقعت اتفاقات اقتصادية ضخمة معها، رغم الخلاف على إمدادات الغاز، التي يجري التنافس بين البلدين حول طرقها، والخلاف حول سوريا ومن يحصل على “حصة الأسد” فيها.
ما يبدو الآن هو أن تركيا قد غيّرت موقفها من حلفائها، فقد دعمت توسعة الائتلاف الوطني، هذه التوسعة التي كانت ترفضها جماعة الإخوان المسلمين لأنها سوف تنهي سيطرتها على الائتلاف. ولقد ضغطت بشدة على الجماعة لكي تقبل التوسعة، بالتوافق مع السعودية وأميركا وفرنسا (التي غيّرت موقفها كذلك).
وهذا يعني أن “السمسرة” الأميركية لمصلحة روسيا قد جعلت كل هؤلاء يقبلون بالحل الروسي. وأن يعملوا معاً لترتيب وضع الائتلاف كي يقبل الذهاب إلى جينيف 2، بقبول “مسبق” بمضمون هذا الحل بما هو واضح في النص وما هو مرتب “تحت الطاولة”.
وبالتالي تخسر تركيا الأردوغانية وحلفها في سوريا لمصلحة روسيا، وهذا يطرح السؤال حول طموحاتها التي تنطلق من جعل تركيا قوة عالمية، خصوصاً بعد الثورة التي بدأت هناك.
الجزيرة نت