جريدة “الحياة”: المعنى والدور والمآل/ جهاد الزين
سأبدأ بالنقطتين التاليتين لكي لا أتلقى أجوبةً بديهية:
1- جريدة “الحياة” هي جزء بارز لا يتجزأ من النفوذ السعودي الإعلامي ولكنها ليست جريدة الدولة السعودية كجريدة “الشرق الأوسط”. هذا معروف بمعزل عن تشابه شكل الملكية “الخاصة” بينهما.
2- الموضوع الذي أثيره هنا لا يعني التطرّق إلى المشاكل المالية والسياسية لمالكها الأمير خالد بن سلطان ، وهي المشاكل التي لا أعرف عنها شيئا سوى بعض الشائعات أكانت مؤكّدةً أم غير مؤكدة. وإنما ما أطرحه هنا كمراقب يتعلّق بفعالية هذه الصحيفة الناجحة في الإطار العام للنفوذ السعودي في المنطقة وحتى في العالم.
باختصار: نجحت “الحياة” نجاحا لا سابق له في تاريخ الصحافة العربية في بناء علاقة مديدة استقطابية مع النخب العربية بل مع نخبة النخب العربية في أوسع رقعة من العالم العربي، ليس فقط بشبكة مراسليها وكتابها وإنما بشبكة قرائها أيضاً. لا بل صارت مركز استقطاب لنخب وصحفيين من كل أنحاء العالم. في التوزيع العددي هناك صحف عربية تتجاوزها ولكنْ في كل بلد عربي أصبحت “الحياة” الصحيفة الثانية ربما في التوزيع ولكن الأولى في التأثير السياسي بين النخب الحاكمة والنافذة. وعبر هذا النجاح غير المسبوق توفّر للكتاب السعوديين والخليجيين وللخطاب السياسي السعودي ولمدة أكثر من ربع قرن فرصة تأثير واحتكاك ببيئات نخبوية عربية لم تكن متوفرةً قبل ذلك بهذا الاتساع.
لطلال سلمان ناشر جريدة “السفير” المتوقفة مؤخرا عن الصدور جملةٌ شهيرة كتبها أو قالها عندما بدت السعودية في تسعينات القرن الماضي وقد أصبحت صاحبةَ النفوذ الرئيسي أو حتى شبه الوحيد على الصحافة “البان آراب”… قال: كيف يمكن أن أنافس رئيس تحرير للصحافة العربية إسمه الملك فهد بن عبدالعزيز؟
صدرت “الحياة” أو أُعيد إصدارُها كأنها جريدة جديدة في لحظة دولية تميّزت بالتغيير السياسي والاقتصادي الجذري العالمي الناشئ عن ضعف ثم سقوط الاتحاد السوفياتي وانفتاح حوار إيجابي بين موسكو والرياض وتَوَقُّف حربِ الخليج الأولى ثم اندلاع حرب الخليج الثانية وبينهما بدء نهاية الحرب الأهلية اللبنانية مع صعود في النفوذ السوري والتفاهم السعودي السوري وانتقال الملف الفلسطيني إلى يد الولايات المتحدة الأميركية، الانتقال الذي سيسفر عن “اتفاق أوسلو”.
الصيغة المهنية التي بناها جميل مروة كانت جذابةً جدا ولا تزال الشخصية الفنية والإخراجية والخبرية والتعليقاتية التي تصدر بها “الحياة” إلى اليوم رغم انتقالها السريع نسبيا إلى الملكية المباشرة للأمير خالد بن سلطان. أصلا كان هذا الانتقال نتيجة وعي القيادة السعودية يومها أن نجاح “الحياة” السياسي أكبر من أن يُترك لصحافي ولو كان متنوِّراً وناجحا بل حتى لو كان نجلَ كامل مروة الصحافي البارز المؤيد لمحور السياسة السعودية في ستينات القرن الماضي عندما كانت صحيفتُهُ الناطقَ الإعلامي الأبرز للحلف الإسلامي بقيادة الملك فيصل بن عبد العزيز المنافس للرئيس جمال عبد الناصر. وستذهب بحياته رصاصاتٌ لم يعد يشك أحدٌ منذ زمن طويل أنها من عمل المخابرات الناصرية آنذاك.
تاريخ “الحياة” الثانية، أي بعد إعادة فتحها في النصف الثاني من الثمانينات هو تاريخ تحولها إلى الجريدة الأولى للنخب الثقافية والسياسية والاقتصادية العربية ومحط أنظار النخب الغربية المهتمة بالشرق الأوسط والعالم العربي.
أي نجاح مذهِل هذا؟
نجاحٌ كان يترافق مع نجاح جريدة “الشرق الأوسط “داخل السعودية وخارجها مما يجعل فعلا “رئيس تحرير” الصحافة العربية الأول هو الملك فهد.
كان نجاحا من نوع مختلف عن “الأهرام” صحيفة مصر الكبرى وصحيفة الدولة المصرية رغم كل تحولات تكنولوجيا الإعلام و”النهار” صحيفة لبنان بأكثر من معنى بينها أنها، أي “النهار”، الصحيفة المحترمة عربيا لكنْ التي باتت محاصَرةً بما هو لبنان الحرب الأهلية وما بعد الحرب الأهلية محاصَرٌ بدوره بالتوازنات العربية والإقليمية الجديدة وبانحطاط نخبته السياسية بعد الحرب. ولا نفهم لليوم كيف سمح طلال سلمان بإقفال جريدته “السفير” نهائيا رغم كل المتاعب المالية أو كيف قَبِل “محور الممانعة” بإقفالها وهي أهم جريدة عربية بين الجرائد المؤيدة له، الجريدة التي نجحت في أن تصبح الطرف الآخر في الثنائية الإعلامية اللبنانية الممأسَسة بعد جريدة “النهار” الأولى لبنانيا وإلى جانبها وبالتنافس معها… كيف قبل بعدم تسهيل صيغة ما لبقائها؟
أصل الآن إلى النقطة الأخيرة التي أعتبرها الأخطر:
نعرف أن للدول طريقتَها في وَزْنِ الأمور المختلفة عن طُرُقِ الأفراد أو القطاعات الخاصة… لكنْ وفي الظروف الراهنة لأوضاع المنطقة والتغيرات الكبرى في العالم ومنها تحديات تواجهها السعودية ربما، بمعزل عن تفاوت الأحجام والتأثيرات، سيعتبر البعض في الغرب أو في الشرق الأوسط أن إقفال صحيفة مثل “الحياة”، إذا حصل ذلك وهو ما سيُحزِن كثيرين جداً، سيعني بداية تفكُّكِ النفوذ الإعلامي السعودي بين النخب العربية؟؟ فمن يقبل حيث هو معنيٌّ أن يرتكب هذا النوع من الخطأ؟
هناك دائما صحف تافهة وصحف ذات معنى ودور مهم. من سمات صحف المعنى أنها “صحيفة جيل” يعطي فيها وعبرها أهم ما لديه، تتجدّد معه وتتعب مع تعب هذا الجيل الذي يفقد “تدريجياً” ما لديه من الجديد ليقوله. لكنْ هناك صحف في الغرب والشرق استمرت وتستمر عبر أجيال حين تتوفّر القدرة على تجديد نفسها بأشكال مختلفة. عندما توقفت “الحياة” عن الصدور مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بدا ذلك ليس فقط توقفا قسريا بل تعب جيلٍ أعطى فيها ما لديه. وعندما تجدّد صدورها في النصف الثاني من الثمانينات كانت تبدو جريدة ليس فقط لقاء أجيال متعَبة ومتغيرة بل و”تائبة” إنما أيضا جريدة صيغة شبابية جديدة وذكية لتفوُّقِ إمكاناتٍ ماليةٍ نفطية ضخمة وسيطرة ميزان قوى سياسي على العالم العربي فتحوّلت إلى جريدة انجذاب قرّاء من كل أنواع النخب بصحيفة لا تشبه صحفها المحلية.
سيقول بعضهم في لحظة الاكتئاب التي تصيب حاليا زملاء الصحافة، والورقية خصوصا، أن الصحافة بشكلها التقليدي لم تعُد تفيد الأنظمة السياسية. هذا رأي متسرِّع، وإن كنتُ لا أستسيغ النقاش بهذه الطريقة، لأن الصلة بالنخب القارئة على الورق وعلى الانترنت ضرورة من ضرورات قوة شرعية أي حاكم أو نظام أو تيار سياسي أو رجل سياسة حتى خارج الحكم. لا ترويج بلا شرعية. وهذا ما يختلف عن التلفزيون حيث الترويج ولكن ليس دائماً الشرعية. دون أن ننسى الجوهري والطبيعي وهو أن على هذه الصحافة المكتوبة، ورقاً وإنترنتْ، أن تَجْهَد – نَجْهد لكي تبقى مفيدة بالمطلق للقارئ “العادي” الذي لم يعد عاديّاً.
لكنْ هذه النقطة توصلنا إلى بحث مختلف طويل عريض!
النهار