جـزرتـان إيـرانيتــان لتــركيــا
طهــران واللغــز الســوري لـ«الأردوغانييـن»
رياض الاخرس
شهدت العلاقات الإيرانية ـ التركية مع اندلاع «الربيع العربي»، منعطفاً خطيراً قد يترك آثاراً كبيرة على العلاقات المستقبلية بين البلدين لمدة طويلة من الزمن. وبالرغم من أن البلدين قد ركزا في الماضي على تعزيز علاقاتهما في قطاعات الاقتصاد والنفط والغاز، لإرساء معادلات تفرض حالة من الارتباط الوثيق بينهما، يصعب مع واقع مماثل أن يفكر أحدهما بالجنوح نحو المواجهة العسكرية مهما تعاظمت المواجهة السياسية.
هذا ما نجح إلى حد بعيد في إبقاء التوتر الناتج عن حالة التنافس الإقليمي على المصالح والنفوذ بينهما محصوراً في نطاق السياسة والدبلوماسية، لدرجة جعلت وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يقول بنفسه من طهران: «لو وصل مستوى التوتر بين البلدين في الماضي إلى ما هو عليه حالياً لتحول بسهولة إلى نزاع عسكري».
أيدت إيران مواقف تركيا الأولية، المعارضة لتدخل الحلف الأطلسي في ليبيا، لكنها تحفظت عليها عندما انقلبت أنقرة على مواقفها وانضمت إلى حرب «الناتو» على نظام العقيد الراحل معمر القذافي. كما قرأت طهران بإيجابية مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الأولى من الانتفاضة البحرينية، لكنها ما لبثت أن شعرت بالإحباط من انحيازه إلى نظام المنامة.
واليوم تنظر طهران بارتياب إلى الحرب الكلامية المشتعلة بين أردوغان من جهة وحليف طهران الأقرب في العراق رئيس الوزراء نوري المالكي من جهة أخرى، والاتهامات المتبادلة بينهما بالطائفية والعدائية. ولكن التباعد بين أنقرة وطهران وصل إلى ذروته على خلفية الموقف من النظام السوري، حيث تعتقد إيران أن تركيا لم تقرأ الحالة السورية بشكل صحيح، أو أنها قرأتها تحت تأثير جماعات ضغط لها مصالح محددة بعيداً عن المصالح الحقيقية للبلدين.. إقليمياً وعربياً وإسلامياً.
الورقة المؤلمة
قد تكون «الورقة السورية» رابحة بيد تركيا إلا أنها مؤلمة كثيراً بالنسبة لإيران. فسوريا مثلت منذ إرساء النظام الإسلامي في إيران في العام 1979، رئة أساسية تتنفس منها طهران، وهي المكان الذي تُمسك من خلاله بعدد كبير من أوراق قوتها بدءاً من «حزب الله» في لبنان ومروراً بحركات المقاومة الفلسطينية المتعددة، إلى غيرها من القوى المؤيدة أو المتعاطفة مع إيران.
أكثر من ذلك، إن النظام السوري الحالي هو بالنسبة لطهران خط أحمر أثبتت وقائع الأشهر الـ14 الماضية، أن الجمهورية الإسلامية لا تسمح لأحد بمسّه أبداً، وأنها مستعدة لتوظيف كل إمكانياتها للدفاع عنه.
في المقابل، تخلت تركيا فجأة، مع وصول نسائم ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، عن البرنامج الأساسي في سياستها الخارجية القائم على «تصفير المشاكل» مع دول الجوار، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير مع جارتها الجنوبية بقيادة الرئيس بشار الأسد، حيث ذهبت بعيداً إلى حد بناء شراكة إستراتيجية معه. انقلبت أنقرة على الأسد تماماً لتصبح مع طهران على طرفي نقيض. وهناك من يعتقد في طهران أن أنقرة قد تورطت في لعبة أكبر منها لمعاقبة نظام دمشق على سياسته الخارجية التي تحظى بإجماع سوري عام، من خلال استغلال نقاط الضعف الكثيرة الموجودة لديه داخلياً، على صعيد الحريات العامة والفساد والممارسة الديموقراطية.
وبمقدار ما يصعب على كثيرين فهم «تعرجات العقل السياسي الإيراني»، فإن الإيرانيين أنفسهم يجدون حالياً المعضلة ذاتها في فهم «انزلاقات العقل السياسي التركي». ففي العلاقة الحالية بين إيران وتركيا يحضر التاريخ والجغرافيا والثقافة العامة والاقتصاد، كما تحضر نقاط الافتراق.
يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعات عدة في طهران، المقرب من أوساط صقور المحافظين، محمد حسن خاني لـ«السفير» إن «أسباباً كثيرة تدعو إلى علاقات جيدة بين أنقرة وطهران: بدءاً من الجغرافيا حيث الجوار والحدود الطويلة التي يتقاسمها البلدان، وهو ما يملي على الشعبين والحكومتين التفكير بعلاقات متينة على المستويات كافة، إلى عامل التاريخ والثقافة المشتركة، حيث هناك تقارب ذو مغزى بينهما في هذا المجال، فضلا عن تشاطر الهواجس الأمنية والسياسية ذاتها».
تلك هي الأسباب التي يرى حسن خاني أنها وراء ترسيخ الطرفين لعلاقات قوية في الاقتصاد والسياسة والثقافة خلال السنوات العشر الماضية بعد وصول الإسلاميين «الأردوغانيين» في «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة، مشيراً إلى أن «الساسة الأتراك باتوا أكثر قبولاً لدى طهران لسببين: الأول هو توجههم السياسي الجديد المهتم بالقضية الفلسطينية، والثاني يتمثل بمواقفهم في وجه الغرب والأميركيين تحديداً حين يتعلق الأمر بإيران ولا سيما في ما يتعلق بالقضايا النووية».
الدرع.. والأزمة السورية
وفي قراءة أكثر عمقاّ لتدهور العلاقات الثنائية، يلفت حسن خاني إلى قضيتين حدثتا «بشكل فجائي وغير متوقع»، وقادتا إلى العودة للوراء، وفرضتا مستوى مرتفعاً من التوتر بين الجانبين: «الأولى هي قرار الحكومة التركية الموافقة على إقامة نظام الدرع الصاروخية لحلف شمال الأطلسي في الأراضي التركية»، إذ شكّل القرار صدمة حقيقية لكثير من الإيرانيين الذين رأوا فيه «عملاً عدائياً يعرض العلاقة الودية بين البلدين إلى الخطر».
ويذهب حسن خاني إلى القول إن «الدولة التركية ستكون عملياً في حالة حرب مع طهران في حال قرر الناتو أو الأميركيون القيام بعمل عسكري ضد إيران»، فالدرع موجه أساسا ضد إيران على الرغم من تصريحات أحمد داود أوغلو المطمئنة التي أكد فيها «أن أنقرة لن تسمح باستعمالها ضد طهران».
أما القضية الثانية، والأكثر إثارة للتوتر بين البلدين، فهي الملف السوري وفق حسن خاني الذي وصفه بـ«التحدي الأهم للبلدين في الآونة الأخيرة»، موضحاً أن إيران وتركيا كان لهما «التوجه السياسي ذاته حيال الانتفاضات التي حصلت في مصر وتونس، وإلى حد ما في ليبيا، ولكن «عندما وصل الأمر إلى سوريا، ظهر الاختلاف العميق بقوة».
ويشرح حسن خاني «سرّ» الاختلاف حول سوريا، معتبراً أن لكل من الطرفين تفسيره للأزمة، فمن وجهة النظر الإيرانية «الحكومة السورية ليست حكومة كاملة وهي ككثير من الحكومات الأخرى في المنطقة، كانت في حاجة، ولا تزال، إلى القيام بالإصلاحات». لكن سوريا بالنسبة للإيرانيين هي «متقدمة على كثير من الحكومات غير الديموقراطية التي ترتبط معها الحكومة التركية من قبيل السعودية ومشايخ مجلس التعاون… ولا يمكن لسوريا أن تقارن بتلك الدول التي تتحالف معها أنقرة». ويسأل حسن خاني أنه إذا «كانت القضية الحقيقية هي الديموقراطية فلماذا يمارس مثل هذا الضغط فقط على سوريا، ويتم تجاهل الآخرين الذين لا يمتلكون ولا بأي شكل من الأشكال، سجلاً ناصعاً أكثر من سوريا؟».
إذاً، تنظر إيران إلى القضية السورية «نظرة استراتيجية أوسع نطاقاً من مجرد نظرة ضيقة تركز على عيوب الحياة السياسية ونواقصها، فدمشق تقوم بدور مهم في المنطقة يتمثل في كونها جزءاً من المقاومة ضد إسرائيل وكان لها دور فعال إلى جانب حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين.. وهما لاعبان رئيسيان في السياسة الإقليمية وممثلان حقيقيان للشعبين اللبناني والفلسطيني».
وعليه، تعتقد إيران «أنه يجب منح فرصة لبشار الأسد» ومساعدته من أجل «القيام بالإصلاحات» لا أن يتم دفعه نحو السقوط. ويرى حسن خاني «من وجهة النظر الإيرانية، أن إطاحة الأسد، تخدم في نهاية المطاف المصالح والأهداف الإسرائيلية والأميركية وليس مصالح الشعب السوري، فضلاً عن مصالح شعوب المنطقة». كما ترى طهران أن «تغيير النظام السوري من خلال التدخل الأجنبي يعني إمكانية حصول حرب أهلية تؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح وتدمير هائل للبنى الاقتصادية، وهذا لن يكون في صالح السوريين مطلقاً».
انهيار «التوازن»
… لا تقف المخاوف الإيرانية عند هذا الحد بل تتجاوزها إلى «قضية أهمّ هي التحرك باتجاه الإطاحة بالحكومة السورية مما يساهم في خلق حالة من الفوضى داخل سوريا وخارجها».
ويتوغل الإيرانيون في محاولة فهم دوافع الأتراك إلى هذا الاندفاع نحو إسقاط النظام السوري فلا يجدون سوى «مجموعات سورية معارضة»، تحتضنها تركيا «وهم سعداء لسياسة أنقرة الحالية لأنهم ببساطة سيصلون إلى السلطة إذا سقط النظام الحالي». وهنا يتساءل الإيرانيون مرة أخرى: «ماذا عن أكثرية السوريين؟ وماذا عن الضحايا؟ وماذا عن التدمير الذي سيحصل ثمناً لتغيير النظام؟».
إن المخاوف الإقليمية لدى إيران في حالة تغيير النظام الحالي في سوريا تصل إلى حد الخوف من «انهيار توازن القوى الحالي» الذي ترى طهران أنه لصالح شعوب المنطقة، وإذا ما سقط «فسوف يتغير لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل». ورداً على سؤال يطرحه الإيرانيون على أنفسهم حول مدى حدوث هذا التغيير لصالح شعوب المنطقة، يجيب حسن خاني «الإيرانيون يجزمون أنه ليس كذلك»، معترفاً بأن الواقع الحالي للسياسة التركية يمثل «معضلة حقيقة» لطهران ويطرح أمام قادتها سؤالاً كبيراً جداً يصعب الإجابة عليه.
ويقول الباحث الإيراني الإصلاحي والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط علي رضا شاكر لـ«السفير» إن القادة الإيرانيين اعتبروا أن الانعطاف الحاد في السياسة التركية إزاء سوريا من جهة وسماحها بإقامة الدرع الصاروخية من جهة ثانية «عمل يتنافى مع علاقات الصداقة التي ربطت طهران بأنقرة، ويلقي بظلال قاتمة عليها»، ولكن مع ذلك، فإن الإيرانيين لا يزالون حتى الآن مقتنعين بضرورة «استمرار العلاقات مع تركيا والتعاطي الإيجابي مع المسؤولين الأتراك».
ويضيف شاكر إن «العلاقات الاقتصادية العميقة والمشتركات التاريخية والدينية والمواقف المشتركة من الكيان الإسرائيلي هي التي أضفت عمقاً على العلاقة الثنائية في الماضي»، وهي التي تحول حالياً دون «ازدياد هوة الاختلاف في وجهات النظر»، بل هي التي «تدفع المسؤولين في البلدين للبحث عن طريقة ما للتوافق»، لافتاً إلى أنه لا يرى أي دلائل على أن القيادة الإيرانية العليا بصدد تقليل مستوى العلاقات مع تركيا، بل هي تعمل بشكل حثيث من أجل إعادة تقريب تركيا من محور المقاومة، رافضة السماح للخلاف السياسي أن يتعمق أكثر».
ما عزز هذه القراءة هو أن سوريا كانت الموضوع الأهم والأبرز في اللقاء الأخير الذي جمع مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي وأردوغان، وأن أكثر المواقف الإيرانية المؤيدة للنظام السوري صدرت في هذا اللقاء. كما أن التدقيق في ما تسرب عن اللقاء يظهر أنه اشتمل على «جزرتين» إيرانيتين لتركيا: الأولى هي استعداد طهران للمساعدة في إعادة المياه لمجاريها بين أنقرة ودمشق فيما لو أرادت تركيا ذلك، والثانية تقديم مزيد من التسهيلات الاقتصادية الإيرانية لأنقرة خصوصاً في قطاعي النفط والغاز، وهما حيويان ومغريان جداً للاقتصاد التركي.
وفيما جاء بعد ذلك قبول إيران إجراء مفاوضاتها مع مجموعة «5+1» في اسطنبول بعدما أعلنت انصرافها عن ذلك، كان واضحاً من خلال ما نشرته وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية «إرنا» عن أن «مراقبين عسكريين إيرانيين من القوات البحرية لحرس الثورة الإسلامية والقوات المسلحة يشاركون بصفة مراقبين للمرة الأولى في المناورات البحرية التركية (أمس الأول) في بحر إيجه وفي سواحل محافظة أزمير»، حرص طهران على استقطاب أنقرة مجدداً.