جمعة “الرأس”: الأسد الإبن بوصفه حالة درامية نموذجية
وسام سعادة
لا يمكن لأي مراقب في العالم أن يصف منذ الآن الطريقة العملية، الميدانية، التي ستجري بها الإطاحة بالرئيس البعثيّ بشّار الأسد، أو في أقلّ تقدير، إخراجه من دمشق، في القريب العاجل. في الوقت نفسه، لا مناص من ترجيح متغيّر أساسيّ: الإنتقال من التفكير بـ”محاصرة” النظام من خلال مناطق عازلة وما إلى ذلك، إلى الذهاب إلى المركز، وتنحية الرأس، وسوقه أمام العدالة.
فاللعبة إذاً “تتشخصن” أكثر فأكثر. إسقاط النظام تعبير فضفاض ومجرّد وعبثيّ إن لم يكن المعنيّ الآن، بشكل مباشر، وعاجل، هو وضع حدّ لرئاسة بشّار الأسد على الدولة السوريّة. أي كلام آخر ثرثرة.
وبشّار الأسد قدّم حقيقة كلّ الإصلاحات الممكنة من ناحية إسقاط النظام بشكل مجرّد وعبثيّ. أي أنّه بالمقياس البعثيّ قدّم ما يمكن وصفه بإصلاحات جريئة. أبرز استعداداً لحذف المادة الثامنة من الدستور التي تنصّ على قيادة حزب البعث للمجتمع والدولة، ثم عبّر عن استعداد لمعاملة البعث مثل غيره من الأحزاب، ولإبرام نظام برلمانيّ، وتعدّدية حزبيّة، وترجمة ما يحلو للسوريين من تشريعات اسكاندينافية وأوروبية، ولو أعطي المجال أكثر لكان بدّل من اسم الحزب، وخلع عليه صفة اشتراكيّ ديموقراطيّ أو ليبراليّ أو بيئيّ. لكن كل ذلك خارج عن الموضوع.
الموضوع يتعلّق، في سوريا، كما في البلدان الأخرى المشمولة بزلزال الربيع العربيّ، برئاسة الدولة، وليس بمتن دستورها، أو شكل نظامها.
الأسد قدّم كل ما يمكن تقديمه خارج هذا الموضوع، ولم يقدّم شيئاً ولو رمزيّاً، يتعلّق بموضوع البحث.
وبالنتيجة، دخل في مفارقة المفارقات: مجازر جماعية، تتطور إلى جرائم ضدّ الإنسانيّة، وكلّ ذلك مباشرة بعد إلغاء نظام الطوارئ واستصدار عفو عام!
طبعاً، البعض يصف الأسد بأنّه كاذب ومنافق. لكن النفاق هنا عائد إلى سبب بسيط: هو أنّ الرئيس البعثيّ يعفي نفسه من “العروض التنازلية” التي سارع اليها رؤساء تونس ومصر واليمن، وحتى العقيد القذافي على نحو كاريكاتوريّ دمويّ. كل هؤلاء فهموا، كل على طريقته، وكلّ من موقعه وبحكم ما كان بيده من حيلة، أنّ ما يطلب منه جماهيرياً هو تسليم موقع رئاسة الدولة. الرئيس التونسيّ السابق زين العابدين بن عليّ كان الأسرع فهماً، الآخرون كانوا أكثر مراوغة. أمّا الرئيس البعثيّ فكان الأكثر مكابرة، والأقل مراوغة، ولم يفهم أبداً صلب الموضوع: ليس صرف “حزب البعث” عن قيادة المجتمع، وإنّما صرف عائلة آل الأسد عن حكم سوريا!
لماذا لم يسعه فهم ذلك؟ لأنّه لم يصل إلى هذه الرئاسة بموجب إنقلاب أو ما يعادله (حادثة المنصة وخلافة حسني مبارك للرئيس المغدور انور السادات). إنّما كلّف بالرئاسة كإرث عليه أن يحافظ عليه، وإرث كان معقوداً لأخيه الأكبر منه، قبل أن توافيه المنية. ثمّة هنا بُعدٌ دراماتيكيّ. الأسد الإبن يتعامل مع نظامه على أنّه مختلف عنه. يشعر هو أنّه أكثر انفتاحاً وعصرية من هذا النظام، بمعاشه وأفكاره. وهذا ما يولّد عنده مجموعة من الأوهام، وهي أوهام كلّفت الشعب السوريّ كثيراً، وكانت كلّفت الشعب اللبنانيّ أيضاً الكثير، ولا تزال.
يشعر بشّار الأسد بأنّه نبيل للغاية: يستميت للدفاع عن نظام يختلف عنه، فقط لأنّه ورثه عن والده! يطمئن نفسه بأنّ الكل يقدّر ظروفه، ولو في السرّ، لأنّ نواياه الإصلاحيّة صافية!
هو يشعر بأنّه مختلف عن نظامه، وبالتالي يشعر بأنّه مكلّف بمهمّتين تاريخيتين: الإبقاء على الإرث، وإصلاح ما ورثه. بالتالي، يشعر بأنّ من المفروغ منه بأنّ ملكية الدولة السوريّة تعود اليه، كما يشعر أنّ من المفروغ منه أنّ إصلاح النظام هو أمر لا يمكن أن ينجح فيه سواه. كل هذا يزيد من انفصاله عن الواقع، وكل هذا يعني أنّ انفصاله عن الواقع يكلّف الواقع الداخليّ والإقليميّ أثماناً باهظة الآن، ما لم يجر التحرّك على نحو عاجل، لوضع حدّ لهذه الحالة الشاذّة: حالة ينتهي بها “تناقض دراماتيكيّ” في شخص إلى مثل هذا البعد الكارثيّ.هو يعتبر أنّه، ولما كان معاشه مختلفا عن معاش ضبّاط هذا النظام، فإنّ قيادته لعملية قمع الشعب السوريّ شيء ورغبته في اصلاح حقيقيّ للنظام شيء آخر تماماً.
وله طبعاً، أن يعتبر ما يشاء. لكن هذه الإعتبارات تكلّف العالم فوق طاقته حاليّاً، والحلّ هنا هو إمّا أن يتراجع هو، وإمّا أن يتراجع العالم. وطبعاً، باعتماد أي مقياس ممكن في هذا الإطار، تكون الخلاصة أنّ الأيّام التي تفصل بشّار الأسد عن “تحرّره” من تركة أبيه، ما عادت كثيرة، علماً أنّ استعادته لنفسه، ممكنة حصراً، في ظلّ محكمة دوليّة.
المستقبل