حفلة وداع للضحك السوري/ رائد وحش
أرادت الثورة السورية، في بداياتها، أن تكون ثورة ضاحكة. كان الأمر ظاهرة تجلّت في الحياة اليومية ومواقع التواصل الإجتماعي ولافتات المظاهرات على حد سواء. ولعل المرجع المرجح لذلك هو الرغبة الجماعية في تحدي ما قدّمه المصريون أيام “ميدان التحرير”، في عام الثورة الأول.
إذا ما قمنا بجردة حساب للحصيلة الكوميدية، ستبقى القفشات الغريبة والسورّيالية التي خرجت من جهة النظام وإعلامه ومريديه وأبواقه هي الأقوى، ولها قصب السبق، تتصدرها بلا منازع كلمة عضو مجلس الشعب السوري الذي خاطب بشار الأسد: “أنت قليل عليك أن تحكم سوريا يا سادة الرئيس.. أنت لازم تحكم العالم”. تأتي بعدها اعترافات “الإرهابي غسان سلواية”، المعروف بلقب أبي نظير، والذي قدم الصورة الأولى للمخرّب، في أولى مقابلات التلفزيون الرسمي مع أدوات “الفتنة”. ميزة تلك المقابلة أنها مثلت انقلاب السحر على الساحر، حيث انتقل كومبارس الدعاية الرسمية إلى رمز شعبي عام لغباء هذا الإعلام.
طبعاً الحديث عن هزليات الإعلام الرسمي السوري لا ينتهي، ولا يحتاج المرء لأكثر من إيراد الأمثلة دون تعليق، فهي بحد ذاتها فضائح كاملة الأوصاف، كحادثة “مذيعة المطر” على “الإخبارية السورية” التي قالت إن الشعب في حي “الميدان” قد خرج لأجل شكر الله على نعمة المطر. ومثلها أو أكثر قصة “فلاشة علي الشعيبي”، كما باتت تعرف سورياً، حين قام ذلك البوق بإخراج مفتاح “USB” من جيبه ووضعه أمام كاميرا التلفزيون، كما لو أنه إحدى شخصيات المسلسلات البوليسية المصرية، مدعياً أن المفتاح يحتوي على فضيحة جنسية لزوجة مسؤول عربي، وإسرائيل تبتزهم بها لتنتزع مواقف سياسية في صالحها. طبعاً السيد الشعيبي لم يقل لنا كيف حصل عليه وهو بمثابة السلاح الاستراتيجي لدى الـ “CIA”!
على المقلب الآخر كان بروز الشيخ عدنان العرعور مثاراً للأسئلة، ومدعاة للتشكك في اشتغال جهات خارجية على تأجيج الداخل السوري، في حين أن السؤال الغائب هو: “لماذا حصد الرجل هذه الشعبية كلها في هذا الوقت القياسي؟”. الإجابة بسيطة؛ لأنه، من دون أن يدري ربما، كائن استعراضي بامتياز يقدّم فرجة نادرة، ولو ظهر في الإعلام الغربي لكان شاغلاً للدارسين والباحثين.
قدم العرعور برنامجه “الشعب السوري.. ماذا يريد؟” على قناة “وصال” السلفية، وأخذ البرنامج شكل الحوار. لكنّ الشيخ كان يحول الإستديو إلى مسرح يخطب فيه ويعظ، يشتم ويدعو، يصرخ ويهمس… في استعراض حافل. والغريب حقاً أن هذه الظاهرة لم تصمد لأكثر من عدة شهور، إذ سرعان ما سئم السوريون المتطلبون منه، وبدأوا بالبحث عن جديد.
الاقتراح الكوميدي الأكبر جاء من صفحة “الثورة الصينية ضد طاغية الصين”، حيث انطلقت تلك الصفحة الفيسبوكية من قبول رواية النظام بأن الأخبار كاذبة، والأحداث مستعارة من بلدان أخرى. هكذا أخذت تلك المخيلة كل ما يجري إلى مسرح مكاني هو الصين، وبناءً عليه راحت تسمّي الأحداث والشخصيات بأسماء صينية، فالطاغية هو “جينتاو”، ومدينة حلب هي “حلبهاي”، وشريف شحادة “لا شريف شحاطة”.
بدا آدمن “الثورة الصينية” أشبه بالحكواتي الإلكتروني، لكنه لم يكن يعرف أنه سيذهب، مع تصاعد الوحشية واكتمال طوفان الدم، إلى المصير الذي انتهى إليه أسلافه من الرواة، في ما بات تقليداً في تاريخ الحكائيّة العربية، كما في “ألف ليلة وليلة”، حيث يتلاشى المؤلفون المجهولون لصالح بقاء الحكاية.
قوة البراميل المتفجرة وصواريخ “سكود” جعلت التراجيديا تتقدم، وأرغمت الكوميديا على التراجع، وربما لم ينجُ من بين كل ما أبدعه السوريون إلا لافتات بلدة “كفرنبل”، لكونها استلهمت الكاريكاتير والدعابة السوداء. فأهل تلك البلدة الذين سخروا من العالم كأطفال مشاغبين، وثاروا بروح الشباب الذي يعرف ماذا يريد.. أنجزوا معنى خاصاً يليق بتلك المعجزة التي لا يستطيعها إلا العاديون.
تلاشت الكوميديا السوريّة وبدلاً منها امتلأت الجدران الافتراضية بالبذاءات والطائفية. فما الذي يمكن فعله حين ينهار المجتمع ويغلّف الموت الحياة. اللّغة نفسها تحتضر، لكنها تتيح مساحة حرّة يشعر فيها الإنسان أنه لا يزال إنساناً. وهذا لا يحدث إلا هناك، في جبهة الشتيمة. آخر عهدنا ببقايا هذه النزعة الساخرة كان في التعليق على الثورة الأوكرانية، حيث قام الشباب باستنساخ تجربة بلدهم وتقديمها على شكل نصائح للشعب الأوكراني. ولأن الفكرة نفسها طُرقت من قبل، خصوصاً في الصفحة الصينية، بدت روح النكتة رخوة ومعاقة، وبدون تلك اللسعات الذكية التي تبدو قديمة جداً الآن.
غاب الضحك، وكأنه لم يكن، رغم كل التجارب التي شهدناها وأحببناها. بل إن الطابع الثوري للضحك لم يستطع أن يحقق تضامناً مع الشعب السوري، على عكس ما تفعله صور التدمير والمجازر. فهل الألم لغة عالمية، فيما الضحك مجرد لهجة محلية؟ ربما، فالعالم يضحك كلٌّ على طريقته الخاصة، لكنه يبكي بالطريقة ذاتها.
العربي الجديد