حقبة فرز تاريخي!
ميشيل كيلو
بعد احتباس أعقب فشل مشروع النهوض العربي، الذي بدأته على الصعيد الفكري / النظري الفئات البينية من الطبقة الوسطى في نهايات القرن التاسع عشر، وعلى المستوى العملي / السياسي في أوائل القرن العشرين، وتحول الرهان العام والفعلي لنخب وازنة من هذه الفئات إلى السلطوية: النظام الذي تستأثر السلطة فيه بكل شيء وترى مجتمعها في ضوء حاجاتها ومصالحها .
وبعد المطاردة المنظمة التي مارستها السلطوية ضد البؤر الديموقراطية، الضعيفة أصلا في مجتمعنا العربي بحكم غربتها كنظريات وكممارسة عن الطبقات الشعبية، وبقوة بقائها برانية بالنسبة إلى شتى أنواع الأحزاب والتكوينات السياسية، بدا وكأنه يكفي أن ترسم النظم السلطوية صورة قاتمة للإسلام كمصدر خطر وحيد عليها وعلى العالم المتقدم في الغرب، وأن تتبنى علمانية متطرفة سياسيا، تتظاهر في أصولية دنيوية قمعية، حتى تضمن استقرارها وبقاءها إلى زمن طويل، خاصة إذا ما انتهج المسلمون سياسة كان ‘الياس مرقص’ يعبر عنها في فكرة عميقة ورائعة تقول بكلمات جد مختصرة: ‘انتبهوا، فهم (الغرب والنظم السلطوية) سيعطونكم الدين مضاعفا كي يأخذوا منكم الدنيا’. وبالفعل: ألم يكن الإسلاميون يقتتلون على دين بلا دنيا، من أفغانستان إلى العراق إلى … شتى أصقاع هذا العالم الفسيح، الذي لطالما تخلى عن الدين ورآه أكثر فأكثر بأعين الدنيا ؟
لو أنك سألت قبل عام واحد أي واحد منا نحن المثقفين عن توقعاته لاحتمالات التطور، لأخبرك إنها سيئة، بل شديدة السوء، فالشعب غارق في البؤس وخارج الواقع القائم، جاهل وغائب عن الوعي وبالتالي عن أية فاعلية عامة، والنظام السلطوي ‘مسلطن’ وقاعد على قلوب وعقول الناس، ويده الحديدية ملتفة حول أعناقهم، بينما جريهم وراء الرغيف ينهكهم ويدمر ما بقي من قوى قليلة لديهم، فكيف لا يكون الوضع سيئا وتكون الأمة في الحضيض؟!.
واليوم، يتقدم الاحتمال الذي بدا شديد الضعف، ويتظاهر في تبني الشعب عموما خيار الحرية والديموقراطية والدولة المدنية والمواطنة، وتراجع الخيارات المتطرفة، مذهبية كانت أم سلطوية أم شعبوية، وبداية تخلق مراجعة فكرية وسياسية كبرى على امتداد الوطن العربي طولا وعرضا، ليست نتائجها واضحة بعد، لكن مفرداتها قد تدل على طابعها وعلى ما يمكن أن يتمخض عنها، حاملها هذه المرة المجتمع نفسه، الذي لا يستطيع الاستمرار دون مشتركات جامعة تتخطى مصالح ونظرات أية قوى جزئية فيه، طبقات كانت أم أحزابا أم عسكرا، فهو يقف إذن بدوره أمام تحول تاريخي هائل الأبعاد والشمول، لن يكون ما بعده كما كان قبله، ولن يضعنا فقط على مشارف العصر وإنما سيدخلنا أيضا إليه، إذا لم نرتكب أخطاء فادحة وجسيمة، تعيدنا إلى تضييع الكل من أجل الجزء، والعام من أجل الخاص، والدائم في سبيل العابر … الخ، وإذا لم نهجر كذلك ما كان دائما رافعة وجودنا، وهو أننا أمة ممزقة تريد الوحدة، ومظلومة تريد العدالة، ومستعبدة تريد الحرية، وجاهلة تريد العلم، ومتأخرة تريد التقدم … الخ.
في أي منحى ستذهب بعد اليوم إعادة بنينة وجودنا ووعينا ؟. أعتقد أنها ستذهب نحو فرز تاريخي هائل الأبعاد، لطالما أهملناه وتجاهلنا ضرورته ،أو لم نمتلك الوعي اللازم بأهميته .ولعله من البوادر الأولى لهذا لفرز ما نلاحظه اليوم من اعتناق كتل إسلامية متنوعة أفكارا كانت إلى الأمس القريب ترفضها، وترفض أن ترى فيها جزءا من منظومتها الفكرية أو وعيها، أهم بنودها ربط رؤيتها بالإنسان ككائن حر، وقبولها بالتالي المساواة بين البشر، في الحقوق والواجبات جميعها، بما في ذلك حق الاختلاف والخلاف في إطار التنوع والتمايز . يتظاهر هذا التحول والفرز في وقائع وأشخاص بعينهم، وليس أمرا قليل الأهمية على سبيل المثال أن يقبل ليبي، كان رجلا قياديا في تنظيم القاعدة وسجين القذافي لسنوات طويلة، الزحف العسكري على طرابلس تحت غطاء من طائرات وقنابل حلف الأطلسي، دون أن يجد غضاضة في ذلك. كما أنه ليس بالأمر الهين أن يؤسس الإخوان المسلمون في مصر حزبا سياسيا يستمد مبادئه من مصادر غير قرآنية أيضا، لان من أسسوه يعلمون أنه سيكون محكوما بالدنيا وليس فقط بالدين كجماعة الإخوان المسلمين التي أفرزته، وأن السياسة وبالتالي الدنيا ليست مجرد مواقف أخلاقية وطهرانية، بل هي ربح وخسارة، حتى أن المرء ليرى بعين خياله بعض قادة هذا الحزب وهم يقفون أمام المرآة بينما العرق يسيل عن جباههم، بعد كل لقاء لهم مع الأحزاب الأخرى، وكل جلسة تخطيط سياسي تريد أخذ الأوضاع القائمة ومواقف الآخرين بعين الاعتبار وتعمل على منافستهم وانتزاع جمهورهم منهم، بشتى الوسائل والطرق التي يلجؤون هم أيضا إليها.
هل يعني هذا أن حصة الدنيا ستزيد في الفرز الذي أتحدث عنه ؟. هذا مؤكد تماما، ومؤكد أيضا أنه سيقود عقلنا السياسي إلى تقارب سيشمل معظم أجزائه ومكوناته، وإلا فإن نهضة العرب القادمة لن تكون ممكنة، سواء في الجانب الذي يتعلق بخروجهم من بؤسهم الراهن، أم الجانب المقابل، الخاص بالبديل الذي لا بد من بنائه، كي يلتحقوا بعصرهم ويلعبوا فيه الدور اللائق بهم: كأمة بانية للحضارة والمدنية وتفاعلت معظم تاريخها بإيجابية مع الآخر، فأخذت منه وأعطته وأفردت حتى في قرآنها الكريم، كتابها القومي، مكانا لمفرداته وكلماته ومفاهيمه. إذا ما عجزنا عن تلبية حاجتنا التاريخية إلى مشتركات قارة تتجاوز الكيانات والتشكيلات السياسية الجزئية والأوضاع القائمة والمصالح الخاصة، سنعجز عن مغادرة حالنا السيئة القائمة، وسنعيد، بكلمات ووجوه أخرى، إنتاج الأمر السياسي الذي دمر فرصنا في التقدم والحرية طيلة قرابة نصف قرن، ويعتبر النهوض الحالي ردنا عليه ومحاولتنا للخلاص منه. يعني هذا أن علينا رؤية أيديولوجياتنا بأعين حاجاتنا لا العكس، وتغليب برنامجنا العام، الداعي إلى الحرية والمواطنة والدولة المدنية على التفاصيل التي كنا نقرؤه من خلالها في الماضي، وكنا نسميها ‘برامج’ ونتوهم أنها هي التي تمثلنا، بدل أن نعينها في ضوء هذا البرنامج وبما يخدمه، ريثما نكون قد بلغنا وضعا يتيح لنا ترف الخلاف، يمكنه تصحيح الأخطاء التي نقترفها لأننا نعمل لإنتاج الواقع بما هو واقع خاص بنا وحدنا، إما أن ينضوي الآخرون فيه أو أن يخرجوا منه.
سيمر الفرز بعمليتين متلازمتين هما: الابتعاد عن ما ألفناه في الفكر والعمل من جهة، وبلورة أرضية جامعة نلتقي ونفترق عليها دون أن نشحن علاقاتنا بالبغضاء والتناقضات العدائية، ونسبب الضرر لمصالحنا العليا، سواء كانت لمجتمعنا أم لدولتنا، من جهة أخرى. نحن اليوم في المرحلة الأولى، لكننا نذهب إليها من خلال الثانية، التي يعتبر العمل في حاضنتها ضامنا لسلامة جهودنا، وصواب مسعانا، وصحة طريقنا، وإلا كان الابتعاد عن ما اعتدنا عليه ضياعا، وكانت الأرضية الجامعة رمالا متحركة ستبتلعنا بلا رحمة.
نحن في بداية تاريخ جديد، أوله فرز يخلصنا من عقل يشدنا إلى الوراء وإلى خارج الدنيا ،يزين لنا العنف ضد بعضنا وغيرنا، دون أن يثير المزيد من التناقضات بيننا وإنما يردمها، بينما يبعدنا عن ماض حفل بالأخطاء والعداء، دون أن يكون له أي مبرر حقيقي أو مسوغ مشروع، وآخره لقاء يجمع أحرارا تخلصوا من حمولات زائدة ومؤذية، وطفقوا يبحثون عن روافع بوسعها حملهم ومجتمعاتهم ودولهم إلى حيث يجب ويحسن بهم أن يكونوا: في قلب الواقع والتاريخ!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي