حمص المدينة والذكريات
عبد الكريم بدرخان
من أين يبدأ عاشقٌ بمديح من يهوى؟ من أين تبدأ بالكتابة عن مدينة تسكنها ولا تراها، كأنها البحر وأنت السمكة، مدينةٍ تسكنكَ ولا تراها، كأنها الله وأنت المتعبّد المجذوب، وكيف تكتب عن مدينة أصبحتْ ذكريات؟ كأنها قُبلةٌ ضاعتْ في الريح، أو طفلةٌ تركضُ في الذاكرة.
ولدتْ حمصُ من زواج الأسطورة والتاريخ، ومن تلك الليلة.. تفتّحتْ أزهارُها الوثنية والسماوية فوق أرضٍ واحدة، إلى أن أصبحت المدينةُ حقلَ أزهارٍ منتوّعَ الأعراق والأطياف والألوان والعطور، كأنها المرآةُ.. كلٌّ منا يجد نفسه فيها، ولا يرى ملامحه إلا من خلالها.
يعود اسم (حمص) إلى (حَمَث).. القبيلة الآرامية التي سكنتْ هذه الأرض اللينة أواخرَ الألفية الثالثة قبل الميلاد، وقد سمّاها الإغريقُ (إميسا) في الفترة الهيلينستية، وفي بداية الألفية الأولى قبل الميلاد.. شكّلت حمصُ تحالفاً عسكرياً مع مدن الداخل السوري لمواجهة الدولة اليهودية الناشئة شمالَ فلسطين، وقد ضمّ هذا التحالفُ كلاً من: حمص (حمص الكبرى) و حماه (حمص الصغرى) و معرة النعمان (معرة حمص) و حلب و الموصل، عُرفَ هذا التحالف باسم (شَـمَـشْ) لأن هذه المدن كانت تعبد إلهَ الشمس (شَـمَـش) وتتبعُ التقويم الشمسي الزراعي، بينما كانت الدولة اليهودية تتبع التقويم القمري الرعوي، ومن دولة (شمش) جاءت تسمية بلاد الشام، وما زال معبد إله الشمس موجوداً في حمص إلى اليوم، وما زال شعارُ مدينة حمص منقوشاً على أرض هذا المعبد، وشعار حمص هو الشمس وتحتها عقرب، الشمس لعبادة إله الشمس، والعقرب لأن حمص مدينة لا تدخلها العقارب، فهي مدينة (مرصودة) حسب التفسير الشعبي، وهي مدينة (لا يدخلها اليهود والعقارب) كما يقال. يقع هذا المعبد القديم في (سوق الناعورة) ويعرف اليوم باسم (الجامع النوري الكبير) نسبة إلى الملك نور الدين زنكي الذي قام بتجديد وتوسيع هذا المسجد، عندما كان مقيماً في حمص ومتزوجاً من سيدة حمصية من آل السباعي، وما زال بيت نور الدين زنكي قائماً في حي (العدوية) بحمص، وهو يعرف اليوم باسم (منزول آل السباعي).
وعلى ذكر المسجد.. لا يمكننا إلا أن نتوقف عند مسجد الصحابي خالد بن الوليد، الذي يضم ضريحه وسيفه، هذا المسجد الكبير الذي تتناوب على جدرانه الأحجار البيضاء والسوداء كنوعٍ من التناقض الأليف، والذي تضحك في أعلى جدرانه أسنانُ العمارة المملوكية.
إذا كانت كلُ الدروب تؤدي إلى روما، فإن كل الدروب تبدأ من حمص، حمص التي أعطتْ لروما ثلاثة أباطرةٍ حكموا الإمبراطورية، وأربعةَ باباواتٍ ترأسوا المسيحية في العالم، حمص التي تضم إحدى أقدم الكنائس في تاريخ المسيحية وهي كنيسة السيدة (أم الزنّـار) التي تقع في حي (بستان الديوان) ويعود تاريخها إلى عام 59 للميلاد، تضمُّ هذه الكنيسةُ زنّـارَ السيدة العذراء، وهو زنار قطنيّ مشغول بخيوط الذهب.
حمص مدينةٌ من ريح، والريح تموت إنْ هدأتْ، تهبُّ عليها الريحُ من الغرب، فتميل أشجارُها إلى الشرق، وكلما اشتدتْ ريحُ الغرب.. ازداد اتجاهُ الأشجار إلى الشرق، وكأنها نقطةُ التقاء العالمين. وهنالك تأويلٌ آخر لميلانِ الأشجارِ إلى الشرق، وهو أن أشجار حمص تنحني وتبكي على (ورد) حبيبة الشاعر العباسي (ديك الجن) الذي قتلها بوشايةٍ كاذبة، ليقضي بقية عمره باكياً عليها، ونازفاً على قبرها. وعلى ذكرِ الشِعر.. يقول السوريون عن حمص بأنها (مدينة الشعر والشعراء) فهي التي عرفتْ بتعاقب الأجيال الشعرية دون انقطاع، من أيام الشاعر نسيب عريضة الذي كتب أشهرَ قصيدةٍ عرفتْ عن حمص، واصفاً إياها بصفاتٍ درجتْ على الألسن حتى اليوم: (حمص العدية- أم الحجار السود- جارة العاصي- عروس العاصي….).
شخصية (الحمصي) من أشهر الشخصيات في العالم العربي، وهو بطل النُكات التي يؤلفها الحمامصة عن أنفسهم لظرافتهم، ويقال أن الحمامصة يصابون بالجنون يوم الأربعاء، لأن الرواية الشعبية تحكي أنهم قد أنقذوا مدينتهم من تيمورلنك وجيشه، عندما أتى لغزوهم في أحد أيام الأربعاء، فلبسوا ملابسَ غريبة ومضحكة، وضعوا القباقيب على رؤوسهم، والغرابيل على وجوههم، وعلّقوا الأواني المعدنية والفخارية على أجسادهم، وأخذوا يقفزون ويرقصون كالمجانين، مما دفع تيمورلنك للابتعاد عن هذه المدينة المجنونة، وهكذا أنقذ الحمامصةُ مدينتهم بشيء من الجنون العبقري.
قليلون هم من يعرفون إن ميزة مدينة حمص هي في يوم الخميس وليس الأربعاء، ففي حمص يوجد سبعة (خُمسانات) ربيعية، تعود أصولها إلى أعيادٍ قديمة ترتبط بأديان الخصب، وقد استمرتْ هذه (الخمسانات) بعد المسيحية وبعد الإسلام، وهي: (خميس التايه- خميس الشعنونة- خميس المجنونة- خميس القطط- خميس النبات- خميس الأموات- خميس المشايخ)، وتمتد هذه (الخمسانات) من نهاية (الخمسينية الشتوية) إلى عيد الفصح الشرقي، ومن أهمها (خميس المشايخ) الذي كان مهرجاناً اجتماعياً دينياً يحتفل به أهل حمص، إذ كانوا يجتمعون صباحاً في مسجد خالد بن الوليد، ثم يتجهون إلى حي (بابا عمرو) لزيارة ضريح الصحابي عمرو بن معد يكرب، ثم يقضون النهار في تلة (بابا عمرو) التي كانت مسرحاً تعرض عليه طقوس الاحتفال ومنها الضرب بالشيش والفتلة الصوفية المولوية. الخميس الوحيد الذي بقي في حمص لحد الآن هو (خميس الأموات) أو الحلاوة، وهو خميس تصنع فيه حلويات خاصة بمدينة حمص، توزّع على الفقراء، وتتم بعدها قراءة الفاتحة على أرواح الأمواتْ.
حمص مدينة لا تنتهي، والكتابة عنها لا تنتهي. حمص مدينة من ريح، والريح تولد من نفسها، وتتجدد في نفسها، ونقبضها واهمين.
* شاعر سوري من حمص.
القدس العربي