حياة بلا مخابرات/ لقمان ديركي
كانت الثورة السورية تغلي في قلوب الناس منذ أكثر من عشر سنوات، لكن الغطاء عليها كان محكم الإغلاق، إلى أن جاء البوعزيزي ومد يده إلى صدر الشرطية الكومبارس فصفعته وانتهى دورها الصغير. لكن ردود الفعل تجاهه لم تنته إلى الآن، فالبوعزيزي بعدما أكل الكف اللي متل فراق الوالدين، فارق والديه حقاً بأن أحرق نفسه وأحرقنا بطريقه، كانت صفعة حارقة خارقة مدمرة متفجرة بكل معنى الكلمة. وفتت لعبت يا شباب، وبن علي هرب، ومبارك انحبس، وعلي عبد الله صالح احترق فصار وجهه أبيض في عملية كيميائية معقدة بعدما احتك صاروخ عابر للقارات بقفاه، والقذافي انبعج، والأسد ..أحرق البلد، صدق وعده، ما كذّب خبر، منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه جاءنا هذا الوعد مكتوباً على الحيطان، فلا بديل للسوري عن الأسد إلا إحراق البلد، وها هي البلد الآن في مرحلة الحريقة، منذ أن خرج الهتاف المتمرد الأول من حي الحريقة، لكن لماذا تمرد الشعب؟!
كان العربان يكتبون المانشيتات في السخرية من الشعب السوري الذي لن يخرج ضد النظام، كانوا يستفزون السوريين في مواقع الأنترنت، كانت تلك الجمل المستخفة بالشعب السوري هي آخر عهد من عهود الإستخفاف بهذا الشعب، فقد فعل السوريون ما لا يمكن لمن سخروا منه واستبعدوا ثورته على النظام أن يتخيلوه. السوريون ثاروا على كل شيء، ليس على النظام فقط، بل على كل من ساهم ويساهم في دفن مواهبه وإبداعاته. فالثورة هي ثورة الأخ الكبير، ذلك الأخ الذي يترك المدرسة ويعمل كي يكمل إخوته تعليمهم، وها هو يجد أن العمل وحده لا يكفي، فإخوته درسوا وتعلموا ثم جلسوا في بيوتهم عاطلين عن العمل وهم يتفرجون على سواهم من أصحاب النفوذ يشغلون أماكنهم.
كانت مهمة النظام أن يدفن الموهبة السورية، أن يضع حجراً ثقيلاً على جسد الإبداع السوري، أن يكتم أنفاس خلايا الخيال السوري، حتى أضحت تمنيات السوريين بحرية شبيهة بالتي في لبنان أو في مصر أيام زمان ضرباً من ضروب الخرافة، وفيلماً من أفلام الخيال العلمي. فكيف يمكن لعقل سوري أن يتخيل حياته من دون مخابرات، المخابرات في كل مكان، ممنوع عليك أن تصنع طائرة ورقية، ممنوع أن ترسم على الجدار، ممنوع أن تكتب قصيدة، ممنوع أن تفتح محل فلافل، ممنوع أن تقيم عرساً، ممنوع أن ترقص الدبكة، ممنوع أن ترقص شرقي، ممنوع أن تغني، ممنوع أن تتحمم، ممنوع أن تقيم عزاءً، ممنوع أن تنشر كتاباً، ممنوع أن تقول رأياً، ممنوع أن تصدر صحيفة، ممنوع أن تقرأ جريدة، ممنوع أن تشاهد فيلماً، وممنوع بالتأكيد أن تصور فيلماً، إلا بإذن من المخابرات.
وللمخابرات أشكال وألوان، وفروع لا تعد ولا تحصى. مهمتها كتم أنفاس السوريين ومنعهم من الإبداع والعمل والحياة، لم يكن حلم السوريين خلع النظام واستبداله بنظام آخر، كان الحلم فقط هو الحياة من دون مخابرات. والآن يعيش السوريون آخر أيام النظام ومخابراته في قلب الموت، يحرقون البلاد، يقتلون الشعب. لكن الثورة بدأت تؤتي ثمارها، وبدأ السوريون بالإبداع، وما هي إلا سنوات حتى يأخذ السوريون مكانهم الذي يستحقونه على خريطة العطاء الإنساني. فالمواهب السورية التي دفع الأخ الكبير ثمنها من دمهن هذه المرة لن تبقى أسيرة الموت، بل ستولد من قلبه مدهشةً مبهجةً بديعةً بهيةً ومُعافاة. نعم، الحياة تولد الآن، حياة من دون مخابرات.
المدن