“داعش” و”النصرة” إذا انتصرتا: لا حاجة إلى سايكس وبيكو/ نصري الصايغ
يكذب التاريخ أحياناً، ونصدقه. أحياناً أخرى، نكذب ويصدقنا التاريخ. نادراً ما كان التاريخ الذي نتداوله عنا، مطابقاً للأصل. الرواية التي نسردها، هي نص عن الحدث يناسبنا. نص، إما يضاف إليه أو يختزل منه أو يتجاهله… وحدث أن صدَّقنا، ودفعنا الثمن، ولا نزال. لذا، لنا في ذمة التاريخ الحقيقي، حقائق كثيرة، يصعب اكتشافها، بما لدينا من ادعاءات يقينية.
وتاريخ المشرق وقع تحت أسطورة الخرائط، أو أسطورة المؤامرة. قيل، وما قيل يدل على بنية ثقافية غثة، أن الخرائط بحاجة إلى مؤامرة، تحاك في الخفاء، وتفرض خطوطها حدوداً على الأرض، وكيانات سياسية وليدة التآمر… فيما الحقيقة، أن سايكس وبيكو كانا ينفذان إرادة المشروع المنتصر. ولو لم ينتصر المشروع في الحرب الكونية، لظلت منطقة المشرق تحت العباءة العثمانية وجنرالات «الاتحاد والترقي». المنتصر يملي شروطه على المهزوم. الأرض التي تحررت من العثمانيين، هي «أرض العدو»، يجري اقتسامها واقتسام النفوذ فيها بالقوة. الانتدابان فرضا بالقوة العسكرية على الشعوب العربية وقواها، بعدما تأكد الانتصار على تركيا. لقد هُزم مشروع فيصل في إقامة دولة الوحدة في دمشق بالقوة العسكرية، وهُزمت المقاومة في العراق وبُدّدت المقاومة في لبنان. بعد ذلك، أسقطت الخرائط على الكيانات، فلبستها مكرهة. ثم اعتادت القوى السياسية عليها، فاتخذتها، حتى القيادات الوحدوية، عقيدة قطرية محروسة بقبضة حديدية، وعداء أخوي، بلغ ذروته في حروب الوحدويين بعد تبوئهم السلطة، في كيانات تصلّبت حدودها وتقدست، وباتت متاريس وخنادق واعتداءات وتوجسات.
لم تستطع فرنسا، المنتصرة في الحرب الكونية، أن ترسم خرائط إضافية داخل الكيان السوري. لم يكن ينافسها أحد، ومع ذلك فشلت في إنشاء وحماية دولة العلويين، ودولة الدروز، ودولة السنّة في حلب. القوة التي جابهت فيها المقاومة مشروع تفتيت الجغرافيا السورية، غلبت عسكر الانتداب. ولو نجحت المقاومة في لبنان عامي 1920 و1925 أو، لو أثرت الإضرابات والنضالات السياسية في طرابلس الشام، المطالبة بالعودة إلى أحضان «الأم السورية»، ربما لما كان لبنان الكيان هذا مطابقاً لخريطة سايكس ـ بيكو.
القوة التي استحوذت عليها القوى الصهيونية، أنشأت خريطة متحركة في فلسطين برغم محاولات الأمم المتحدة، عبر رسم خريطة تقسيم لإقامة دولتين. حدث أن الحركة الصهيونية نفذت وعد بلفور بالقوة والعنف، وعدَّلت خريطة فلسطين بالقوة عند إنشاء الدولة، ثم عدلت الحدود واجتاحت بعضها بعد حرب حزيران وبعد حرب تشرين… القوة وحدها فرضت الخطوط التي وصل إليها المنتصر أو تخطاها.
لم يسقط جدار برلين بقرار. انهار بقوة «الثورة السلمية» التي أسقطت النظام الذي قسَّم ألمانيا وأقام الجدار. ومنذ أشهر، «استعاد» فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم، غير عابئ بالقانون الدولي، وحرمة الحدود، وعقيدة «الستاتيكو» الأوروبية، التي ترفض التلاعب بحدود الدول عندما يناسبها ذلك، وقد جاءت هذه العقيدة نتيجة ما ذاقته من أهوال الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت بعد اجتياحات هتلر لحدود (دانتزيغ) وتشكوسلوفاكيا والنمسا. لقد انتهزت روسيا «الانقلاب الأبيض» على حليفها، فلجأت إلى حجة التاريخ وذريعة الانتماء لسكان القرم للأرومة الروسية، ليسترد «القرم الروسية» أورثوذوكس من أوكرانيا الغربية (كاثوليك).
الغرب المدّعي دائماً الالتزام بالشرعية الدولية، قبل العبث بالخرائط في أوروبا، سارع إلى تمزيق يوغوسلافيا بعد تفتت الاتحاد السوفياتي ويقظة القوميات العرقية والدينية. تلك القوميات التي تنبأ بها ميخائيل غورباتشيف، ورأى أنها ولادة حروب ومزيلة خرائط وممزقة معاهدات وناقضة أخلاق. لقد ساهم الغرب، منتهزاً ضعف السلطة المركزية، واستعار حرارة «القوميات» ذات الطابع العصبوي، ما أنتج تفكك الاتحاد اليوغوسلافي، إلى كرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود والبوسنة ـ الهرسك وصربيا ومقدونيا وكوسوفو التي ما تزال قيد الدرس.
ورث العرب حدوداً من سايكس وبيكو في المشرق وصانوها وحافظوا عليها بالأسنان والأنظمة البوليسية. يندر أن يكون بلدان متجاوران، من دون نزاعات حدودية. نزاعات قديمة كرست إغلاقاً تاماً (الجزائر ـ المغرب) أو إغلاقاً موسمياً، وخاصة في كيانات المشرق. أو انقساماً نهائياً، كما في حالة السودان.
أي حدود ستُرسم بعد «ربيع الكارثة»، ومن سيتولى رسمها؟
يلزم أن نسقط بدعة المؤامرة نهائياً. كل شيء مكشوف ودلالاته واضحة. لقد أفل دور الدولة القطرية في الحفاظ على خرائطها. لم تعد صاحبة الحق المطلق والشرعي في صيانة الحدود. أفلت زمام الخرائط من يدها. لا وجود لعصبية كيانية أو قطرية يمكن الركون إليها، للادعاء بأن الأنظمة تستند إليها للحفاظ على الحدود. لم تنجب الدول القطرية أو الكيانات العربية، هوية قطرية أو كيانية. العروبة الجامعة أسقطتها أحزابها في امتحان السلطة وتجارب العداء الأخوي المزمنة.
في ما بعد الاستقلال، وخلال تجارب الحكم الاستبدادي، انتقل مستوى الإلغاء، من إسقاط العروبة، إلى نفي المواطنة. البديل الشرعي لهذا الإلغاء ولهذا النفي، هو الالتجاء إلى الجذر الديني أو المذهبي أو العرقي أو العشائري… لم تكوّن الأقطار والكيانات شعباً. بل، ربما يكون الأمر أفظع. فما كان شعباً، أو مشروع نمو الإحساس الشعبي، قد أطاحته أنظمة الاستبداد والفساد. الجموع، هي حشود من الرعايا، لا يسمع رأيها ولا يلتفت إلى طموحها ولا ينظر في قضاياها ولا يلتزم الحاكم إزاءها بشيء… كان الأمر فظيعاً. الشعب الذي قاوم الاستعمار، تم تدجينه وإخصاؤه وإقصاؤه… إلى أن اندلع الربيع العربي، فحوَّل هذا الكم المهمل إلى هشيم يشتعل… وها هي الكارثة تتنقل بأيدينا، وبين أيادينا.
يمكن مقاربة المسألة من زاوية مرئية: لقد تلبننت الشعوب العربية في الأقطار كلها. اللبنانيون، ليسوا مواطنين. هم «مواطفون». أي أفراد مستوطنون في طوائفهم. طوائفهم ومذاهبهم هي أوطانهم الأولى، لبنان، هو مكان يتجاورون به. لكن من دون انتماء عابر لانتماءاتهم القبلية. الانتماء الأول الطبيعي، هو انتماء إلى الطائفة. العبور من الطائفية إلى اللبنانية. كان ممكناً منذ ما قبل نصف قرن. بعد الحرب، صار العبور الوحيد المرئي والبين، هو عبور أتباع الطوائف حدود الكيان، للالتقاء بنظرائهم في الكيانات الأخرى.
توزع اللبنانيون في ولاءاتهم إلى هيئات وجماعات وحكومات خارج حدودهم. عبروا الحدود وأقاموا أحلافاً علنية، تنسجم مع ولاءاتهم المذهبية. الشيعة والوا إيران وشيعة العراق وعلويي سوريا وحوثيي اليمن، وشيعة البحرين و.. والسنة عقدوا الأحلاف مع أقرانهم في كل بلد عربي، حتى ما قبل اندلاع الكارثة. فهم مع السعودية، سلماً وحرباً، ومع صدام حسين نكاية بإيران، ومع الحركات الإسلامية (السنية) ضد النظام السوري إلخ…
الدرس اللبناني معدٍ. اجتاحت جحافل المذاهب والطوائف المسلَّحة حدود الكيانات. حذفت الحدود بين سوريا والعراق، ثم اجتازت الحدود بين لبنان وسوريا، ثم فتحت الحدود بين تركيا وسوريا من جهة الشمال، ثم بين الأردن وسوريا من جهة الجنوب… لم يبق للدولة السورية ونظامها الرسمي أي حدود مشتركة مع العراق والأردن وتركيا. الخرائط المرسومة تداعت. الحدود انهارت، بفعل شعبي استعاد ولاءاته المذهبية والدينية والعشائرية والعرقية وأقام في مناطق يمارس فيها حربه وأحكامه وسياساته، باستقلال تام عن الجماعات الأخرى.
كل هذا، والحرب مستمرة.
ما يُعتدُّ به من الأحداث، أن حدود الكيانات العربية، عرضة للانهيار بالفعل، وليس بالمتخيّل أو باستجداءات للقرارات الدولية، أو نتيجة مؤامرات صهيو ـ أميركية. «الشعوب العربية» التي تفتتت على الطريقة اللبنانية، عبرت الخطوط وألغت سيادات الدول وهي في الطريق إلى ترسيم البدائل. اللبنانيون، سيَّبوا السيادة واجتاحوا الحدود. انقسموا في الداخل وفق الانقسام الخارجي. والانقسام تطور حتى بلغ الكارثة. الحروب الجارية ستحدد مصائر الكيانات والخرائط القديمة. الإرادات التي تقود الحروب المذهبية والعرقية والعشائرية، ستكون لها الكلمة الوازنة في تقرير مصائر الكيانات ومصائر اجتماعها البشري. سبق انفجار الكيانات وسقوط الحدود، انفجار المجتمعات العربية، في سوريا والعراق واليمن وليبيا. قد يكون الحفاظ على الحدود القديمة، التي تحدد جغرافية الكيان، مطلباً قديماً، حيث يصار إلى اقتسام الكيان من الداخل على الطريقة اللبنانية أو وفق النموذج العراقي. لكن، بعد الحروب التي تواجهت فيها مذاهب وأقوام وقبائل وأنظمة، لن تؤدي إلى مشروع مساكنة أو مهادنة أو «عيشاً مشتركاً». وهذه الحروب التي يصعب أن ينتصر فيها فريق على آخر، فيكون الواحد منتصراً والآخر مهزوماً، لن تؤدي إلى إلغاء أي طرف. السؤال: كيف ستتعايش هذه القوى أو الأطراف في المستقبل. لا تصوّر لكيانات تتساكن فيها «داعش» أو «النصرة» مع أعدائهما، من المذهب نفسه أو من المذاهب الأخرى. ثم، ما قيمة خرائط وكيانات فرغت من مكوناتها الحضارية والثقافية وتلويناتها الدينية العريقة. (مسيحيون، أزيديون وآخرون)؟ ما قيمة الحفاظ على كيانات قادتها برابرة وشعوبها ضحايا تساق إلى الذبح؟
المشرق إلى غروب. لقد بدأ ذلك منذ قرن. ان هذه البلاد تدفع ثمن تاريخها الذي كذب عليها، وأثمان الكذب الذي أنفقته على شعوبها. المشرق كله يعيش بين نهايتين أو خاتمتين. ما سيولد من هذه الحروب، تاريخ من الركام والدماء.
السفير